قطر تبني على دورها كوسيط في الصراعات لتوسيع نفوذها الجيوسياسي

بعد أن توسّطت قطر في عمليّة تبادل الأسرى التاريخيّة بين عدوّين لدودَين، تبرز الفرصة أمامها لتوسيع نفوذها الجيوسياسي من خلال دورها كوسيط في الصراعات والنزاعات.

26 سبتمبر، 2023
رانج علاء الدين، تانر مانلي

تستعرض قطر عضلاتها الدبلوماسيّة بشكل مُتزايد. إنّ عمليّة تبادل الأسرى التي جرَت في وقت سابق من هذا الشهر بين الولايات المتّحدة وإيران هي الأحدث ضمن سلسلة من الاتفاقيات المُضنِية التي توسَّطت الدوحة في تحقيقها. وقد يفتح هذا الإنجاز التاريخي المجال لمزيد من الجهود الدبلوماسيَّة في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن وطهران إحياء المحادثات النوويّة المتوقِّفة. وأتت عمليّة تبادل الأسرى هذه بعد حوالي عامين من المفاوضات الدقيقة انخرطت فيها قطر وضمَنَت إطلاق سراح خمسة مواطنين أمريكيين مقابل خمسة مواطنين إيرانيين، فضلاً عن الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانيّة المُجمّدة في كوريا الجنوبية بموجب العقوبات الأمريكيّة. وبحسب ما ورد، وافقت الدوحة حتى على دفع الرسوم المصرفيّة من خزائنها الخاصّة ومراقبة كيفيّة إنفاق الأموال من أجل تمتين هذه الصفقة.

 

وقد أدَّت قطر أيضاً دوراً فعّالاً في تسهيل المحادثات بين الولايات المتّحدة وطالبان، والتي تُوِّجت بإبرام اتفاق الدوحة في العام 2020 وانسحاب الولايات المتّحدة من أفغانستان في العام 2021. كما أنّ جهود الوساطة المستمرَّة في لبنان وليبيا وتشاد وفنزويلا وفلسطين تضع هذه الدولة الخليجيَّة الصغيرة في موقعٍ دبلوماسي وازنٍ وتوسِّع نفوذها الجيوسياسي. مع ذلك، لا تزال أمام قطر طرق يمكن أن تسلكها من أجل تعزيز هذه الجهود وزيادة نفوذها ومكانتها على الساحة الدوليّة.

 

الوساطة في ظلّ التهدئة الإقليميّة

لطالما شكّلت الوساطة ركيزة سياسة قطر الخارجيّة، وهي إستراتيجيّة رئيسة تكتسب من خلالها البلاد مكانة كبيرة ضمن النظام الدولي، إنّما مع أخذ الحذر في رهاناتها والحفاظ على علاقات مع مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة. جعلت الدوحة نفسها لا غنى عنها بالنسبة إلى واشنطن كوسيط مع مختلف الدول والأطراف غير الحكوميّة ومن ضمنها إيران وطالبان. وقد أشاد مسؤولون من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتّحدة بالجهود التي قادتها البلاد من أجل تسهيل الإخلاء من أفغانستان، ما ساعد في تخفيف التداعيات الإنسانيّة للانسحاب المُتسرّع للولايات المتّحدة وحلفائها في العام 2021.

 

مع ذلك، تلقّت هذه الإستراتيجيّة ضربة صاعقة في العام 2017، عندما فرضت المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة حصاراً على قطر استمرّ ثلاث سنوات ونصف السنة، ودفع البلاد إلى التخفيف من جهودها الخارجيّة حتى بعد رفع الحصار عنها في العام 2021. بيد أنّ التحرّكات الأخيرة تُظهر أنّ الدوحة لا تزال قادرة على تحقيق ما يفوق حجمها من خلال التوسُّط في النزاعات وتخفيف التوتُّرات في الشرق الأوسط وخارجه.

 

في الواقع، مع دخول المنطقة فترة من التهدئة أعقبت حقبة الربيع العربي التي اتّسمت بالصراعات والمنافسة الشديدتين، تمتلك الدوحة حالياً فرصة لتوسيع جهودها الدبلوماسيّة. وقد يشمل ذلك إعادة ضبط إستراتيجيّتها لزيادة تأثير سياستها الخارجيّة إلى الحدّ الأقصى وتقليل تكاليفها، وتعزيز سمعتها الحياديّة وتوجيه جهودها بحسب الدروس المُستفادة من الماضي.

 

وفي سياق التقارب بين القوى الإقليميّة الرئيسة، أي المملكة العربيّة السعوديّة وإيران، أمام قطر الفرصة للبناء على الزخم الإقليمي الأوسع، خصوصاً أنّ الضالعين السابقين في الصراعات المديدة في مناطق مثل اليمن يبحثون الآن عن حلول لها. ويمكن لقطر أن تؤدّي دورها عبر استهداف تحقيق نتائج دائمة مثل إعادة الإعمار على المدى الطويل وحلّ الصراعات، بدلاً من الإصلاحات التعاملية التي قد لا تُترجم إلى سلام دائم. ومن مصلحة قطر أيضاً دعم التعافي الاقتصادي في مناطق الصراع. ففي كلٍّ من اليمن والعراق، تربط علاقات وثيقة بين قطر وفصائل سياسيّة يمكن توجيه انخراطها في جهود التهدئة الأخيرة من أجل تحقيق هذه الغاية. في العراق، وقّعت الدوحة مؤخّراً عدداً من الصفقات التجاريّة والتزمت باستثمارات كبيرة في جنوب البلاد في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، من ضمنها ثلاث اتفاقيّات بقيمة 7 مليارات دولار مع الهيئة الوطنيّة للاستثمار.

 

توفِّر علاقات الدوحة المُحسَّنة مع الرياض فرصةً للعمل إلى جانب المملكة العربيّة السعوديّة، خصوصاً وأنّ المملكة توسِّع أيضاً حضورها في العراق. ففي العام 2020، أعيد فتح معبر عرعر الحدودي السعودي العراقي للمرّة الأولى منذ 30 عاماً. والتزمت الرياض بتقديم 3 مليارات دولار لصندوق الاستثمار العراقي المُخصَّص لتمويل مبادرات القطاع الخاص، ووسّعت حضورها أيضاً في قطاعيْ الكهرباء والغاز. تُبيِّن هذه الخطوات أنّ الدول الخليجية الغنيّة المجاورة لقطر متعطّشة للحصول على حصّة أكبر في العراق، وهذا ما يمنح الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي حافزاً للتعاون في ما بينها من أجل تحقيق استثماراتها وحمايتها في البيئة السياسيّة والأمنيّة المُضطربة في العراق.

 

وبالتالي، يمكن لقطر أن تستخدم وساطتها في سياق الاستثمار والتجارة. ولكن، سيتعيّن عليها التأكُّد من أنّ انخراطها في مشاريع اقتصاديّة في بلدان تمرُّ بمرحلة انتقاليّة ما بعد الصراع لن تكون مبنيّة على تقديم المساعدات الماليّة، أو يُنظر إليها على أنّها كذلك، لما من شأنه تقويض الحوافز من أجل إحلال السلام والحوكمة المُستدامة. على الدوحة أن تتجنّب اتفاقيّات السلام «الترقيعيّة»، وأن تسعى بدلاً من ذلك إلى تمويل مبادرات بناء السلام وإعادة الإعمار المُصمَّمة لمعالجة المظالم القديمة والعراقيل البنيويّة وغيرها من محرِّكات الصراع المحليّة. وقد تبنَّت الدوحة في مناطق مثل سوريا على نحوٍ ملائم مقاربة الانتظار والترقُّب، نظراً للقيود التي يفرضها ما يُسمّى التطبيع مع نظام الأسد، وانخراط مجموعة من الجهات الفاعلة الخارجيّة في أدوارٍ كبيرةٍ في الصراع، وكثرة المُشكلات العالقة التي قد تُشعل شرارة الصراع في أي لحظة.

 

مأسسة الوساطة

من شأن مأسسة الوساطة من زاوية كفاءة السياسة الاقتصاديّة أن تعطي أفضليّة استثنائيّة لسياسة قطر الخارجيّة وأن ترسِّخ ثقافة تخدم مصالح البلاد على المدى الطويل. وقد اتّسمت تاريخياً عمليّة اتخاذ القرار المرتبطة بالوساطة بالطابع الشخصي يقودها المسؤولون على رأس الهرم القيادي. صحيح أنّ ذلك يعكس التزام قطر الجدّي بعملية الوساطة، ممّا يعطيها الأفضليّة على المدى القصير، إلّا أنّه قد يقوِّض تأثير هذه الإستراتيجيّة على المدى الطويل في حال لم يعد هؤلاء المسؤولون مشاركين في عمليّة الوساطة في وقت لاحق. فضلاً عن ذلك، من شأن إضفاء الطابع المؤسساتي لهذه العملية أن يضع مسافة بين مصالح السياسة الخارجيّة المباشرة للدول ودور قطر في الوساطة، ما يساعد الدوحة على إسكات الاتّهامات بالتحيُّز وإصلاح سمعتها الحياديّة.

 

ولتحسين ذلك، يتعيَن على الدوحة أن تزيد إلى الحدّ الأقصى استثماراتها في برامج التدريب الدبلوماسي والمنهج التعليمي الغنيّ أصلاً في الجامعات والمؤسّسات التي أنشأتها، من أجل تعليم الدبلوماسيين الطموحين وتدريبهم ليصبحوا وسطاء ماهرين. ومن خلال مؤسّسات مماثلة، يمكن لقطر إنشاء مركزٍ لتنمية الشبكات من شأنها أن تخلق فرصاً للوساطة في عالم تزداد فيه التعدّدية القطبية، بدلاً من أن تنتظر الفرصة أن تأتيها. وعلى الرغم من وجود إرادة واضحة في تنمية شبكة أكبر من القطريين المتخصّصين في مجال السياسة العامة، يمكن فعل المزيد لإعطائهم مسؤولية أكبر ومجال أوسع لترجمة المهارات المكتسبة في المجال الدبلوماسي. وفي سيناريو مثالي، سيعزّز هؤلاء الدبلوماسيون معارفهم وسيطوّرون علاقات متينة في جميع أنحاء المنطقة، بدلاً من تشكيل فريق متناوب من المسؤولين والدبلوماسيين. قد تؤدِّي المأسسة في بعض الأحيان إلى جمودٍ وبيروقراطيّةٍ مُفرطة، ولكن يمكن تلافي الأمر من خلال ضمان مسارات وقواعد واضحة، تمنح بمرور الوقت الدبلوماسيين الأكثر مهارة مزيداً من الاستقلاليّة والصلاحيّات شبيهة بالتي يتمتّع بها المبعوثون الخاصون. ومن شأن ذلك أن يمكّن هؤلاء الدبلوماسيين ويحفّز الشباب الموهوبين على اختيار السلك الدبلوماسي مساراً لهم.

 

إنّ تاريخ قطر كوسيط يمنحها مكانة فريدة في المنطقة يمكن البناء عليها لتعزيز مصالحها الخاصة. لقد تعلّمت الدوحة دروساً من الربيع العربي، وأدركت حدود نفوذها ونفوذ الجهات الفاعلة الخارجيّة عموماً في الساحات السياسية والاجتماعيّة المُعقّدة والمُتعدّدة الطبقات. ولجعل هذه الإستراتيجيّة فعّالة، لا بدّ من أن تختار قطر بعناية الصراعات التي ترغب التوسُّط في حلّها، وأن تضفي الطابع المؤسساتي لعملية الوساطة، وأن تبني على فعّالية السياسة الاقتصاديّة في الخارج، وأن تعزّز الأمن الجماعي لمجلس التعاون الخليجي حيثما كان ذلك ممكناً. ومن شأن هذه الإستراتيجيّة أن تساهم في إحياء سياسة قطر الخارجيّة في أعقاب الربيع العربي وجعل البلاد ركيزة أساسيّة لتحقيق السلام الدائم في المنطقة.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العلاقات الإقليمية، منافسة القوى العظمى
البلد: إيران، الإمارات العربية المتحدة، العراق، المملكة العربية السعودية، قطر، لبنان

المؤلّفون

رانج علاءالدين هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وكان سابقاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز وباحثاً زائراً في جامعة كولومبيا. علاءالدين متخصص في السياسة الخارجية وتركّز بحوثه حول قضايا الأمن الدولي والحوكمة الرشيدة والتحديات الأمنية المرتبطة بالمناخ، بالإضافة إلى دبلوماسية المسار الثاني والتداخل بين السياسات العامة والأمن البشري.… Continue reading قطر تبني على دورها كوسيط في الصراعات لتوسيع نفوذها الجيوسياسي
باحث مساعد
تانر مانلي هو باحث مساعد في برنامج الصراعات والتحولات التابع لمجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. حصل مانلي على بكالوريوس العلوم من كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورجتاون في قطر. وقد نال تقدير امتياز عن أطروحته عن الحركات الناشطية في الولايات المتحدة في القرن العشرين. تركّز اهتماماته البحثيّة على السياسات العمالية والهجرة والوساطة في الصراعات في منطقة الشرق الأوسط… Continue reading قطر تبني على دورها كوسيط في الصراعات لتوسيع نفوذها الجيوسياسي