صورة نشرها المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي تظهر الرئيس السوري بشار الأسد وهو يستقبل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق في 16 يوليو 2023 (تصوير المكتب الصحفي لرئيس الوزراء العراقي / وكالة الصحافة الفرنسية).

سوريا تعود، ولكن للتطبيع حدود

قد تُحيط هالةٌ من القوّة والسلطة بنظام الأسد مع تحرّك القوى الإقليمية لإعادة الدولة السورية إلى حضنها، ولكن لا يزال عدد من القضايا الشائكة بين النظام والدول المجاورة عالقة من دون حلّ من شأنها أن تفسد عملية إعادة الادماج هذه.

9 أغسطس، 2023
رانج علاء الدين

شكّلت زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى دمشق في يوليو الماضي أحدث علامة على سعي سوريا من أجل إصلاح علاقاتها مع جوارها بعد أكثر من عقدٍ على تعليق جامعة الدول العربية عضويّتها بسبب القمع الوحشي الذي مارسه النظام ضدّ الاحتجاجات المناهضة للحكومة. مع انتهاء الحرب الأهلية الكارثية في البلاد، يمكن لنظام بشّار الأسد أن ينظر إلى زيارة محمد شياع السوداني، على رأس وفد عراقي كبير، كنجاح آخرٍ للحملة التي يقودها من أجل القبول به على الساحة الدولية بعد شهرين على ترحيب الجامعة العربية بعودته.

 

كان الأسد منبوذاً من المجتمع الدولي طوال فترة الحرب التي أودت بحياة مئات آلاف الأشخاص وشرّدت الملايين، وتركت البلاد في حالة من الخراب المادي والاقتصادي، حتى قبل وقوع الزلزال الضخم في فبراير الماضي. يعتبر بعض المراقبين إعادة العلاقات مع دمشق كضربة للآمال المعقودة بمحاسبة النظام السوري على جرائمه ضدّ الإنسانية. لكن إعادة دمج سوريا لم تكتمل بعد، وحتى الخطوات التي اتُخذت بالفعل يمكن أن تقوِّضها المسائل العالقة بين النظام والدول المجاورة.

 

التطبيع القائم على المصالح

لقد قاد عدد من الدول العربية الجهود من أجل التطبيع مع سوريا، اعتقاداً منها أنّ إشراك دمشق، بدلاً من تهميشها، يخدم مصالحها الخاصّة. للإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والأردن والعراق مصالح إستراتيجية وأمنية وطنية مهمّة تتطلّب التعامل مع الأسد، وأهمّها مكافحة تجارة الكبتاغون غير المشروعة ومعالجة مسألة اللاجئين السوريين.

 

تمّ تعجيل التواصل مع النظام السوري إلى حدّ ما نتيجة عدم تدخّل الحكومات الغربية المنهمكة بالحرب في أوكرانيا وتركيزها المتزايد على منطقة آسيا والمحيطين الهادئ والهندي. وقد مكّن ذلك دول المنطقة من تشكيل ردودها السياسية على انتصار الأسد والصراع على النفوذ بعد الحرب التي تورّطت فيها إيران وروسيا أيضاً. لا تستطيع دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة ألّا تشارك في هذه العملية أو أن تعتمد على خطوة واشنطن التالية. عدا أن المنطقة تتغيّر بسرعة، وتتّجه نحو خفض تكتيكي للتصعيد، كما تبيّن من التقارب السعودي الإيراني في وقت سابق من هذا العام.

 

وللدول الخليجية والأردن مخاوفها الخاصّة تجاه سوريا. فقد قُدِّرت تجارة الكبتاغون الإقليمية، وهو مخدّر من نوع الأمفيتامين شديد الإدمان وشائع في جميع أنحاء المنطقة، بأكثر من 3,4 مليار دولار في العام 2020، وارتفعت في العام 2021 إلى نحو 5,7 مليار دولار. ويرجّح أن تكون الأرقام الفعلية أعلى بكثير. يأتي الجزء الأكبر من الكبتاغون من سوريا، ويُقال إنّ مسؤولين كبار في النظام وشخصيات تابعة للنظام مستفيدة متورّطون في هذه التجارة التي تزوّد البلدان المجاورة بهذه المخدّرات بما فيها الدول الخليجية والأردن والعراق. وقد ضبطت المملكة العربية السعودية في سبتمبر الماضي نحو 47 مليون حبّة كبتاغون في مستودع في الرياض، وملايين الحبوب غيرها منذ ذلك الحين.

 

وتشكّل تجارة الكبتاغون إحدى المسائل التي لم تترك لدول المنطقة إلّا خيار التعامل مع دمشق. لا يمكن للأردن والعراق السماح ببقاء الجنوب السوري ملاذاً آمناً لتجارة المخدّرات الآخذة في التوسّع، أو المخاطرة بتفشّيها. وفيما تتعامل الدول الخليجية مع النظام السوري، يبقى من المستبعد الحصول على ضمانات بأن تنهي سوريا تجارة الكبتاغون أو تعالج مسألة المهرّبين. فهذه التجارة ضرورية لبقاء النظام اقتصادياً، ويتعارض إنهاؤها مع مصالح الجهات الفاعلة القويّة التي يعتمد عليها النظام لبقائه السياسي.

 

ويرجّح أيضاً أن النظام يستخدم تجارة المخدّرات عبر الحدود للضغط من أجل الحصول على أكبر عدد ممكن من التنازلات من الجهات الفاعلة الإقليمية: إذا فشل التقارب في تأمين الموارد المالية التي يحتاجها النظام، فسوف تستمرّ التجارة وتتوسّع من دون انقطاع. بالتالي، من المعقول جدّاً أنّ النظام لا يخطط للتفاوض بحسن نيّة، بالنظر إلى أهمّية تجارة الكبتاغون غير المشروعة لبقائه السياسي. وتشكّل مسألة عدد اللاجئين الكبير في الدول المجاورة لسوريا قضية رئيسة أخرى عالقة بين دمشق والقوى الإقليمية. وتستقبل تركيا وحدها أكثر من ثلاثة ملايين سوري، وشكّلت معارضة وجودهم قضية ساخنة في الانتخابات الرئاسية التركية في مايو الماضي. لتركيا أيضاً مصالح رئيسة أخرى داخل سوريا. علاوة على 40 مليار دولار على الأقل صرّحت الحكومة أنها أنفقتها على اللاجئين السوريين بين 2011-2019، يكلّف احتلال تركيا لشمال سوريا نحو ملياري دولار إضافية سنوياً. وقد تدفع هذه القضايا وغيرها من الشواغل بأنقرة للسعي إلى التطبيع مع دمشق من أجل تخفيف الأعباء التي تسبّبها.

 

مع ذلك، تعارض دمشق بشدّة وجود تركيا في شمال سوريا، والذي بات راسخاً الآن. فالمؤسّسات التركية – من شركات وجمعيّات خيرية وأمنية – لها جذور عميقة من ريف اللاذقية في الغرب إلى كوباني في الشرق، ومن الصعب تصوّر سيناريو تكون فيه تركيا مستعدّة لاقتلاع بنيتها التحتية بالكامل. ومن غير المتوقّع أيضاً أن تفكّر تركيا في إحياء النظام السوري بالكامل، سواء في النظام الإقليمي أو الدولي، إذا كان ذلك سيبقي على الوضع الراهن في الشمال الشرقي أو يقوّي حزب العمّال الكردستاني الذي تعتبره أنقرة منظّمة إرهابية.

 

بمعزل عن الجيب الكردي الشمالي الشرقي، من المُحتمل أن تشكّل إدلب نقطة اشتعال رئيسة، الآن وقد أصبحت تركيا الحامي الأساسي لها. وقد يعتبر الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يخوض بكلّ راحة ولاية أخرى لمدّة خمس سنوات، التطبيع على أنه فرصة لإصلاح العلاقات مع نظام الأسد وإيجاد طرق لتقليص الوجود التركي. مع ذلك، من غير المرجّح أن تتلقّى أنقرة أي ضمانات موثوقة بأنّ النظام لن يشنّ هجوماً ضدّ السكّان المدنيين في المستقبل، والذي سيكون له عواقب مباشرة عابرة للحدود على الدولة التركية.

 

وليست تركيا سوى مثال على كيف أنّ القضايا نفسها التي تدفع القوى الإقليمية نحو التعامل مع النظام في دمشق، لا تزال تشكّل عقبات رئيسة أمام عملية إعادة الإدماج برمتها.

 

إعادة إحياء شرعيّة النظام السوري قد تقوّي إيران وروسيا

من شأن إعادة أحياء شرعية الأسد أن تمكّن الجهات الأجنبية التي خرجت منتصرة من الحرب، وخصوصاً إيران التي تتوقّع أن تبني على هذه المكاسب وأن تصبح الجهة الفاعلة الخارجية الأبرز في سوريا. وستعتبر كلّ من إيران وروسيا التطبيع على أنّه تبرئة لمشاركتهما في الحرب وتأكيد على انتصارهما. وتجد إيران في التطبيع مع الأسد فرصة ذهبية من أجل تعزيز مكاسبها ودمج وكلائها في الدولة السورية وترسيخهم، أسوة بما فعلته في العراق، حيث استفادت من الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لتسريع صعود وكلائها. وهذا ما يتعارض مباشرة مع الرغبات العربية في إضعاف وكلائها كجزء من خفض التصعيد الإقليمي الأوسع. عدا أنّه ينطوي على عواقب عنفية مُحتملة محلّياً، في ظلّ غياب الضمانات التي تكفل تسامح النظام السوري مع التجذّر السياسي والعسكري للمجموعات المتحالفة مع إيران.

 

في الواقع، تشكّل المناطق السورية المجزّأة للغاية جزءاً من تحدٍّ أكبر في كيفية التعامل مع البلاد. يسيطر الأسد حالياً على الأراضي الخاضعة للنظام في الشرق، لكن سوريا مقسّمة إلى مناطق نفوذ تسيطر عليها جهات خارجية إلى حدّ بعيد؛ تقع إدلب تحت نفوذ تركيا وروسيا، والجيب الكردي في شمال شرق البلاد تحت تأثير الولايات المتّحدة. وفي الجنوب، يسيطر وكلاء إيران على مناطق قريبة من خطّ الهدنة في مرتفعات الجولان، ممّا قد يؤدّي إلى تفجّر الوضع لأن ترسّخ هذه المجموعات على المدى الطويل مرفوض من إسرائيل.

 

ومن المحتمل أيضاً أن يعود عصيان الشعب السوري، المنهك حالياً وفي حالة فوضى. وللأكراد السوريين، الذين يشكّلون قوّة عسكرية وسياسية كبرى، القدرة على إشعال التمرّد. وقد يتطلّع حلفاؤهم في الغرب إلى الإبقاء على حكمهم الذاتي في الجيب الشمالي الشرقي من أجل الاحتفاظ ببعض النفوذ في مواجهة الأسد.

 

قد يحيط الأسد نفسه بهالةٍ من السيطرة والسلطة، وقد يستخدم رمزية التقارب الإقليمي من أجل تعزيز موقف النظام محلّياً في مواجهة التحدّيات والخلافات المُحتملة التي تفرزها مجموعة من الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل الميليشيات وأمراء الحرب والقبائل والمجموعات المسلّحة المحسوبة على قوى أجنبية. مع ذلك، ستحتفظ هذه المجموعات بنفوذها في سوريا ما بعد الحرب، ويرجّح أن تهيمن على الاقتصاد السياسي للبلاد، ولن تعاني نقصاً في الأسلحة والموارد. وهذا هو المكمن الذي سيحفظ مكاناً للحكومات الغربية للتأثير في مستقبل البلاد والنظام.

 

تحتاج سوريا إلى 250 مليار دولار لإعادة الإعمار. وهو مبلغ لن تقدّمه الدول الخليجية العربية وحدها. لكن الدول الغربية لن تؤدّي دوراً في إنعاش النظام السوري، وقد شدّدت أعلى نّ هذه العملية مشروطة بتحقيق انتقال سياسي والتوصّل إلى تسوية للصراع. من غير المرجّح أن يستعيد الأسد سيطرته على الشمال الشرقي للبلاد على سبيل المثال، طالما أنّ المجموعات الكردية تشكّل جزءاً حيوياً من المهمّة الأمريكية لمكافحة الإرهاب والقضاء على داعش. وحتّى الآن، لا يوجد ما يشير إلى أنّ الولايات المتّحدة ستنسحب منها في أي وقت قريب. في الواقع، لقد ردّت الولايات المتّحدة على تحرّكات التطبيع الأخيرة بالتأكيد على أنّ الاعتراف بالنظام السوري وإعادة الإعمار لن يحصلا قبل تطبيق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة رقم 2254، الذي يدعو إلى وضع دستور جديد للبلاد يقوده السوريون وإجراء انتخابات حرّة ونزيهة، وهو موقف يدعمه الاتحاد الأوروبي.

 

بالتالي، في الوقت الذي قد يشعر فيه النظام ببعض القوّة ويترجم الانفتاح الذي شهده مؤخّراً ومشاركته في القمّة العربية في الرياض كاستعادة لشرعيّته الإقليمية، لا تزال استعادته لسيطرته على البلاد بأكملها غير ممكنة في أي وقت قريب. وطالما هذا الحال قائمٌ، يمكن أن تستخدم القوى الإقليمية والغربية النفوذ التي تتمتّع بها للضغط على النظام لتحقيق انتقال سياسي والحؤول دون شنّ الهجمات على المدنيين.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

 

القضية: الحرب الأهلية، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منافسة القوى العظمى
البلد: العراق، سوريا

المؤلف

رانج علاءالدين هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وكان سابقاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز وباحثاً زائراً في جامعة كولومبيا. علاءالدين متخصص في السياسة الخارجية وتركّز بحوثه حول قضايا الأمن الدولي والحوكمة الرشيدة والتحديات الأمنية المرتبطة بالمناخ، بالإضافة إلى دبلوماسية المسار الثاني والتداخل بين السياسات العامة والأمن البشري.… Continue reading سوريا تعود، ولكن للتطبيع حدود