العراق على شفا حرب أهليّة

 يقترب النظام  السياسي في العراق من الانهيار الحتمي، بعد أشهر من الخطوات التصعيديّة التي اتّخذتها الفصائل الشيعيّة المُتناحِرة ودفعت البلاد على شفا حرب أهليّة. يبدو أنّه لا يمكن وقف هذا المسار الذي سيكون له تداعيات خطيرة ليس على إعادة بناء العراق بعد سنوات من الاضطرابات فحسب، وبل على الاستقرار في المنطقة أيضاً.   في أواخر… Continue reading العراق على شفا حرب أهليّة

24 أغسطس، 2022
رانج علاء الدين

 يقترب النظام  السياسي في العراق من الانهيار الحتمي، بعد أشهر من الخطوات التصعيديّة التي اتّخذتها الفصائل الشيعيّة المُتناحِرة ودفعت البلاد على شفا حرب أهليّة. يبدو أنّه لا يمكن وقف هذا المسار الذي سيكون له تداعيات خطيرة ليس على إعادة بناء العراق بعد سنوات من الاضطرابات فحسب، وبل على الاستقرار في المنطقة أيضاً.

 

في أواخر شهر يوليو الماضي، حشد مقتدى الصدر، رجل الدين الذي يقود أكبر حركة اجتماعيّة وسياسيّة في العراق، مئات الآلاف من مناصريه وأتباعه لاقتحام البرلمان واحتلاله، مُظهِراً نفوذاً شعبياً لا مثيل له. جاء ذلك بعد أسابيع من المشادات الكلاميّة بين الصدر وخصومه في ائتلاف الإطار التنسيقي الذي يضمّ قوى سياسيّة شيعيّة مُقرّبة من إيران، من ضمنهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وقوّات الحشد الشعبي، المنظّمة الميليشياويّة التي تقودها وتهيمن عليها فصائل متحالفة مع إيران. وقد سبق ذلك، إطلاق الإطار التنسيقي الشيعي حملة لتقويض تحالف الصدر العابر للطوائف، الذي يضمّ الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومحمد الحلبوسي، أحد أبرز الشخصيات السياسة السنية، ردّاً على تهديد الصدر بإقصاء قوّات الحشد الشعبي من الحكومة المقبلة بعد فوزه في الانتخابات البرلمانيّة التي جرت في شهر أكتوبر الماضي.

 

أدّت التكتيكات العنيفة التي اتّبعها الإطار التنسيقي، ومن ضمنها شنّ هجمات صاروخيّة وإطلاق طائرات مسيّرة ضدّ الأكراد، وممارسة سياسة الترغيب والتهديد ضدّ القضاء واستخدامه كسلاح، بالإضافة إلى تنفيذ سلسلة اغتيالات ضدّ قادة التيّار الصدري، إلى زعزعة استقرار التحالف الذي يقوده الصدر وتقسيمه وتعريض حلفائه لمزيد من التدابير القمعية والعقابيّة. وفي النهاية، نجحت هذه الأساليب في إضعاف الحكومة التي يسيطر الصدر على غالبيّتها، وساهمت بشكل كبير في الاضطرابات الحالية.

 

عندما وجد الصدر نفسه في موقف صعب، بدأ هجومه المُضادّ بهدف الخروج من الأزمة الحالية كأبرز قوّة سياسيّة في العراق، أو أقلّه إعادة رمي الكرة في ملعب الخصم ليتمكّن من التفاوض من موقع قوّة. يبدو أنّ الصدر عازمٌ على تقوية موقعه التفاوضي، وربّما إحياء تحالفه السياسي الضعيف، كجزء من تسوية بين الفصائل المُتناحرة أو قبل إجراء أي انتخابات جديدة، وهو السيناريو الذي يلوح في الأفق. مع ذلك، تنطوي هذه الاستراتيجيّة على مخاطر كبيرة أبرزها احتمال إشعال حرب أهليّة بين الشيعة، سوف تدمّر دولة عراقيّة لا تزال تكافح لإنعاش اقتصادها وتنفيذ الإصلاحات المُلحّة، ومجتمع لا يزال يتعافى من الحرب على تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش).

 

هل الصراع حتمي؟

 

احتمالات الصراع عالية. لدى الصدر عداوات مريرة وقديمة مع أعضاء رئيسيين في الإطار التنسيقي، وخصوصاً رئيس الوزارء السابق نوري المالكي، المسؤول عن عمليّة “صولة الفرسان” العسكريّة في العام 2008، التي طردت مقاتلي التيّار الصدري وأنصاره من البصرة، وأجبرت رجل الدين على الانسحاب إلى المنفى الاختياري في إيران. أدّت هذه العمليّة إلى تفتّت التيّار الصدري، وبروز منظّمات مُنشقّة، مثل عصائب أهل الحق، تنافست للسيطرة على قاعدته الشعبيّة التقليديّة المؤلّفة من الشيعة المحرومين والمعوزين في حيّ مدينة الصدر ببغداد.

 

بعبارة أخرى، الصراع بين الصدر والمالكي شخصيّ للغاية. وقد وصلت التوتّرات إلى نقطة الغليان، ويُقال إنّها وراء قرار الصدر بتعبئة أنصاره للإطاحة بالبرلمان، بعد أنّ أحيا المالكي شبح الحرب في تسجيلات صوتيّة مُسرّبة أمر فيها عشيرته بالاستعداد للصراع المسلّح مع الصدر.

 

منذ الهجوم على البرلمان، لم تتراجع احتماليّة نشوء مواجهة عنيفة. وفي 8 أغسطس الحالي، رفض المالكي طلب الصدر بحلّ البرلمان، وأشار في رسالة متلفزة إلى أنّه لا يمكن حلّ المجلس التشريعي ولا إجراء انتخابات إلى حين عودة مجلس النواب الحالي للانعقاد. ثمّ رفضت المحكمة الاتحاديّة العليا، التي تُستخدم كسلاح من قبل إيران وحلفائها، طلب الصدر بحجّة أنّها لا تستطيع التدخّل في الشؤون السياسيّة أو شؤون السلطة التنفيذيّة. بعدها، رفع الصدر السقف مرّة أخرى من خلال “النداء الأخير” الاستفزازي والغامض، الذي توجّه به إلى أنصاره مباشرة، وحثّهم على الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد. وبالفعل، احتشد أنصار الصدر هذا الأسبوع أمام المحكمة الاتحاديّة العليا وأغلقوها، وهو ما أدانه منافسوه بشدّة.

 

على الرغم من ارتفاع احتمالات اندلاع صراع مسلّح، إلّا أنّ تطوّرين رئيسيين يمكنهما أنّ يمنعاه. أولاً، الدعوة لإجراء محادثات سلام في إربيل التي وجهها الحزب الديمقراطي الكردستاني، بدعم من الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى الصدر والإطار التنسيقي. تندرج هذه المبادرة ضمن الدور التاريخي والتقليدي للتدخّل الكردي ووساطاته في صراعات الطبقة السياسيّة الشيعيّة، والذي ساهم سابقاً في منع اندلاع العنف أو احتوائه. ثانياً، بتوجيه من هادي العامري، قائد ميليشيا بدر المتحالفة مع إيران، يقوم الإطار التنسيقي حالياً بتقييم الرغبة في حلّ البرلمان وإجراء انتخابات جديدة. بشكل أساسي، يهدف التدخّلان إلى تجنّب إجراء انتخابات غير معروفة النتائج، ودفع الأفرقاء السياسيين كافّةً باتجاه محادثات سلام وتسوية لإعادة إحياء النظام السياسي الذي كان سائداً ما بعد العام 2003، حيث تؤدي المساومات بين النخب السياسية إلى إعادة فرض توازن قوى دقيق بين الفصائل المتنافسة.

 

تبدو الانتخابات المُبكرة الأمل الأفضل لإحباط اندلاع حرب أهليّة، إلا أنّ الصدر قد لا يقبل بها كتنازل. لقد أعادت خطوة أنصار الصدر المفاجِئة الزخمَ إلى معسكرهم، ومن المرجّح أنّ يستفيد الصدر من لحظة ضعف خصومه مقابل فائض القوة اللحظي الذي يتمتع به، بدلاً من منحهم فرصة للتعبئة الانتخابية والسياسية عبر القبول بإجراء إنتخابات.

 

في هذه المرحلة، لا يبدو أنّ المالكي والصدر مستعدّان لفقدان ماء الوجه. قد لا يكون أمام الصدر سوى خيار الاستمرار في مسار التصعيد نظراً إلى الشوط الذي قطعه. من جانبه، لا يستطيع المالكي أنّ يسمح للصدر بالتفوق عليه كي لا يظهر في موقع الضعيف ما قد يُفقِدُه دعم إيران وقوّات الحشد الشعبي، وهما الداعمان الأكثر أهمّية لبقائه السياسي. وبذلك، قد يكون الوضع وصل بالفعل إلى نقطة اللاعودة.

 

المنطقة في حالة ترقّب

 

يبدو أنّ الجهات الفاعلة الإقليميّة والمجتمع الدولي ينظران إلى اقتحام التيّار الصدري للبرلمان العراقي بمزيج من القلق والترقب. رحّبت دول الخليج وتركيا بخطوة الصدر لمحاولة إجبار قوات الحشد الشعبي والجماعات الأخرى المتحالفة مع إيران على تقديم تنازلات، وحظيت بدعم ضمنيّ من الإمارات العربيّة المتّحدة والحزب الديمقراطي الكردستاني المتحالف مع تركيا وتربطه علاقات جيّدة مع السعودية وقطر. كذلك، دعم خميس الخنجر، السياسي السنّي المؤثّر الذي يقود تحالف العزم وله علاقات قويّة مع قطر وتركيا، تحرّك الصدر، ودعا علانيّة إلى تغيير النظام السياسي في حال لم يوافق الإطار التنسيقي كتابياً على مطالب التحالف. أمّا الدول الغربيّة، فقد امتنعت بشكل عام عن إدانة الهجوم، واكتفت بالدعوة إلى احتجاجات سلميّة كبديل عنها. ومن وجهة نظر إقليميّة، يبدو أنّ الانهيار الداخلي استغرق وقتاً طويلاً ليتكشّف، وربّما لم يكن هناك مفرّ منه.

 

لا تبدي المنطقة عموماً رغبة باندلاع حرب أهليّة بين الشيعة، لكن دول الخليج ترى أنّ الصدر واستراتيجيّته هما السبيل الواقعي الوحيد للحدّ من نفوذ المجموعات المتحالفة مع إيران، ومحاولات استعادة سيطرتها وسلطتها على الدولة العراقيّة. وقد أشارت مصادرٌ إلى أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريص على استمرار الأزمة العراقيّة لأنها تصرف الانتباه عن حملته الجداليّة ضدّ حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق، في حين أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تؤيّد الصدر باعتباره الأمل العربي الكبير الذي يمكنه تحويل موازين القوى بعيداً من إيران وحلفائها في العراق. كان من الممكن أنّ تكون المخاوف الإقليميّة أكبر لولا بناء الصدر تحالف عابر للطوائف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والحلبوسي والخنجر، وهو ما ساعد في تخفيف القلق الإقليمي من استيلاء الصدر على السلطة، أقلّه بعد أنّ خلصت هذه الجهات، ومنذ فترة طويلة، إلى أنّ بغداد تخضع لسيطرة إيرانيّة بحكم الأمر الواقع.

 

ستصبح الصورة معقّدة بالنسبة إلى المنطقة والمجتمع الدولي إذا تحرّكت قوات الحشد الشعبي، بدعم إيراني، لإشعال حرب في القلب السنّي العربي، لأن ذلك قد يرفع احتماليّة نشوب صراع طائفي عنيف، ويمكّن داعش من الظهور مرّة أخرى، ويعقّد الأمور بالنسبة إلى الصدر. من المؤكّد أنّ إشعال الحرب سيكون خياراً إذا نفد الإطار التنسيقي من البدائل، ولكنّه لا يزال بعيداً. أيضاً، قد تجنِّب طرق أخرى انفجاراً كبيراً، من ضمنها تدخّل المرجع الديني الأعلى للشيعة آية الله علي السيستاني. لكن، بالنظر إلى وتيرة التصعيد في العراق، ربّما قد توصّل السيستاني إلى استنتاج بأنّ الأزمة تجاوزت قدرة المؤسّسة الدينيّة على وقفها، وأنّ دور النجف الوحيد سوف ينحصر بإدارة الصراع واحتواءه وليس منعه. بعبارة أخرى، لا يمتلك العراق حلولاً جيّدة. في أسوأ الأحوال، يواجه احتماليّة اندلاع حرب أهليّة دمويّة أخرى قد تدفع البلاد إلى أزمة إنسانيّة لها تداعيات على مستوى المنطقة. وفي أحسنها، يمكن للعراقيين أنّ يأملوا في احتواء الصراع الذي يلوح في الأفق وتجنّب الانهيار التام.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الإنتخابات، الاحتجاجات والثورات، الحرب الأهلية
البلد: العراق

المؤلف

رانج علاءالدين هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وكان سابقاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز وباحثاً زائراً في جامعة كولومبيا. علاءالدين متخصص في السياسة الخارجية وتركّز بحوثه حول قضايا الأمن الدولي والحوكمة الرشيدة والتحديات الأمنية المرتبطة بالمناخ، بالإضافة إلى دبلوماسية المسار الثاني والتداخل بين السياسات العامة والأمن البشري.… Continue reading العراق على شفا حرب أهليّة