أين أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد عشرين عاماً من إصلاحات الحوكمة؟

أصدر برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في العام 2002 وثيقة مهمّة ومُعمّقة بعنوان تقرير التنمية الانسانية العربيّة، شارك في كتابته مجموعة واسعة من المساهمين العرب. واستخدم هذا التقرير كمّاً كبيراً من البيانات التي تعزو غياب التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في العالم العربي إلى ثلاثة نواقص أساسيّة، في مجالات الحرّية والمعرفة وتمكين المرأة، مع التأكيد على أنّ “النقص… Continue reading أين أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد عشرين عاماً من إصلاحات الحوكمة؟

5 سبتمبر، 2022
طارق محمد يوسف، روبرت بيشيل

أصدر برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي في العام 2002 وثيقة مهمّة ومُعمّقة بعنوان تقرير التنمية الانسانية العربيّة، شارك في كتابته مجموعة واسعة من المساهمين العرب. واستخدم هذا التقرير كمّاً كبيراً من البيانات التي تعزو غياب التنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة في العالم العربي إلى ثلاثة نواقص أساسيّة، في مجالات الحرّية والمعرفة وتمكين المرأة، مع التأكيد على أنّ “النقص في الحرية” يعبّر عن نقص أوسع في نوعية الحوكمة في جميع أنحاء المنطقة.

 

أطلق التقرير دفقاً من المناقشات والجدالات حول إصلاحات الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي شهدت في سنوات لاحقة سلسلة من الثورات أدّت إلى انهيار أنظمة سلطوية، وموجات مُتتالية من الاحتجاجات الشعبيّة والحروب الأهليّة الدامية، فضلاً عن بروز العديد من الدول الفاشلة. لكن مع تعثّر عمليّات التحوّل السياسي، عادت هذه الأنظمة بقوّة، وسط تزايد الإحباط العام وانعدام الأمن. وربّما الأكثر إحباطاً أنّ البلدان التي سعت إلى تكريس الديمقراطيّة البرلمانيّة مثل العراق وتونس، تكافح الآن لتشكيل حكومات مستقرّة أو مقاومة عودة الأنظمة السلطوية. ساهم تفشّي جائحة فيروس كورونا المستجدّ عالمياً بزيادة الهشاشة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي تفاقمت أكثر جرّاء الحرب على أوكرانيا وتأثيرها على أسعار الغذاء والوقود. لذلك، ليس من المستغرب أنّ يشعر العديد من العرب بعدم اليقين للمستقبل وأن يخيّم شعور جماعي بالإرهاق والخيبة على المنطقة. في الواقع، أظهر مسح حديث شمل تسعة بلدان في المنطقة ارتفاعاً كبيراً في عدد المواطنين الذين يعتقدون بأنّ الإدارة الاقتصاديّة أضعف في ظل الحكم الديمقراطي، وهو الرأي السائد في البلدان التي شملها المسح باستثناء المغرب، عدا عن دعم الغالبيّة فيها لحكومات فعّالة بمعزل عن الشكل الذي تتّخذه.

 

يُمكن فهم هذه المشاعر بالنظر إلى التاريخ المُضطرب للعشرين عاماً الماضية التي تلت نشر تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. في الواقع، تكشف معظم مؤشّرات الحوكمة العالميّة فشل حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في إحراز تقدّم لافت في العقدين المنصرمين. في المقابل، تشكّل الحوكمة الإلكترونيّة استثناءً ملحوظاً، بحيث تحتلّ حالياً سبع دول عربيّة مرتبة أعلى من المتوسّط العالمي. كذلك، نفّذ عدداً من الدول إصلاحات لتسهيل النموّ الذي يقوده القطاع الخاصّ، فيما حلّت البحرين والأردن والكويت والسعوديّة بين الدول الإصلاحيّة الأفضل في العالم في مسح ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2020 الذي يصدره البنك الدولي. في المقابل، سجّلت البلدان الأخرى بمعظمها نتائج متوسّطة أو كارثيّة، وبقيت المنطقة مُتخلّفة عن باقي العالم في التحوّل الديمقراطي وسيادة القانون، ولم تكن الاتجاهات الحديثة مُشجّعة. تشير منظّمة الشفافيّة الدوليّة إلى عدم تسجيل أي من بلدان المنطقة “تحسّناً ملحوظاً” على مؤشّر مُدركات الفساد في خلال العقد الماضي، ولكنّها تتبع بقيّة العالم في الحقّ في الوصول إلى المعلومات وشفافيّة الموازنة وحرّية الصحافة.

 

وفي حين أنّه من السهل صرف النظر عن إصلاحات الحوكمة واعتبارها “أجندة الأمس”، تبقى التحدّيات التي يفرضها ضعف المؤسّسات وعزل الرأي العام أساسيّةً للتنمية طويلة الأجل في المنطقة. تحتاج بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى حكومات فعّالة لمعالجة المشكلات المُلحّة المُتمثّلة بالبطالة والفقر وانعدام المساواة والتفاوت المناطقي، وسوف تحتاج أيضاً إلى تقديم الخدمات العامّة والاجتياجات الأساسيّة الحيويّة إلى مواطنيها، وتعزيز البيئة المواتية لدعم النموّ الاقتصادي السريع، فضلاً عن إنشاء مؤسّسات مرنة تستجيب بسرعة للتحدّيات العالميّة مثل الأوبئة وتغيّر المناخ. علماً أنّ الفشل في معالجة هذه القضايا سوف يؤدّي إلى استمرار تفاقم المشكلات ونموّ الغضب العام.

 

في جردة عامّة لمجمل هذه التجربة – الجيّدة والسيّئة والبشعة – يبقى السؤال الأساسي متمحوراً حول مضمون أجندة الحكم الفعّالة والسريعة الاستجابة للعقد المقبل. سعينا إلى الردّ على هذا السؤال في سلسلة من المناقشات المستمرّة مع كبار الخبراء وصانعي السياسات والأكاديميين من المنطقة وخارجها، شارك عدداً منهم أفكاراً ممتازة مُستقاة من سنوات من الخبرة داخل الحكومة، وغالباً في مناصب عليا. ويجمع بينهم جميعاً شعورٌ بالخيبة إزاء ما حدث والتقدّم المحدود المُحرز في خلال السنوات العشرين الماضية، إذ يبدو واضحاً فشل الجهود المبذولة لاستيراد نماذج الحوكمة من الخارج في كثير من الأحيان، وهو ما يُبرز الحاجة إلى تكييف الإصلاحات الفعّالة مع السياقات المحلّية والثقافات الإداريّة.

 

أمّا السؤال عن الخطوات اللاحقة فهو الأكثر إثارة للقلق؛ إذ يؤيّد البعض المقاربات الإداريّة والتكنوقراطيّة، فيما يكتفي آخرون بالتشديد على الإصلاحات السياسيّة بعيدة المدى فحسب. إلى ذلك، يعتقد البعض بأنّ المشكلات تكمن في الدول الضعيفة نفسها، التي تُعدُّ أجهزتها الاستخباراتيّة من المؤسّسات القليلة التي تعمل “بفعالية”، فيما يتمسّك البعض الآخر بالحاجة إلى تعزيز الأحزاب السياسيّة والمجتمع المدني لتأدية دور فعّال في مساءلة المسؤولين. وأخيراً، يؤكّد البعض على ضرورة تركيز الإصلاحات على بناء مؤسّسات فعّالة لتعزيز النموّ الذي يدفعه القطاع الخاص، في حين يجادل آخرون بأولويّة وضرورة تلبية هذه الإصلاحات لاحتياجات الفقراء والمهمّشين.

 

لحسن الحظ، طرح المستجيبون مجموعات عدّة من الأولويّات والسياسات للعقد المقبل، والتي تعُدّ حيوية وقابلة للتحقيق ويمكن أنّ تشكّل حجر الأساس لبناء المستقبل. تتمثّل المجموعة الأولى بالحاجة إلى أجندة إصلاح حكوميّة تحقّق نتائج ملموسة للمواطنين، لا سيّما المقيمين في المناطق الريفيّة أو الشرائح الدنيا اجتماعياً واقتصادياً. وكما لفت رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض مرّة، فإنّ “الناس لا يأكلون الإصلاح أو يشربونه… بل هم بحاجة إلى الشعور سريعاً بالفوائد الملموسة لأي عمليّة إصلاح، إذا كان هناك نيّة بحمايتها”. لا شكّ أنّ القول أسهل من الفعل في كثير من الأحيان، ولكن هناك مجموعة من الإصلاحات المفيدة، بدءاً بصرف التحويلات النقديّة المباشرة إلى الأسر المحتاجة، وإعادة توجيه الإنفاق نحو المناطق الريفيّة التي عانت بشكل مزمن نقصاً في الخدمات في القطاعات الحيويّة مثل الصحّة والتعليم والنقل، عدا عن إحداث ثورة في المساءلة الإداريّة وباتجاهيها أي “من فوق إلى تحت” و”من تحت إلى فوق”. يتطلب ذلك الجمع بين مجموعة متنوّعة من الإصلاحات الحكوميّة والتدابير الشعبيّة التي ستخلق شفافيّة أكبر في تتبّع تدفّقات الموارد المحلّيّة، فضلاً عن تمكين المجتمعات المحلّيّة للمساعدة في مراقبة كيفيّة إنفاق هذه الأموال.

 

يتمثّل المجال الثاني ذو الأولوية بأجندة الإصلاح التنظيمي. عملياً، يمكن القيام بالكثير لتحليل تأثير الأنظمة والقوانين، وتسيير العمليّات التنظيميّة وتبسيطها، وإلغاء القواعد والمتطلّبات القديمة وغير الضروريّة، لا سيّما تلك التي تلقي أعباءً على الشركات الصغيرة والمتوسّطة. وقد يساعد التركيز على سياسة المنافسة وتقوية الهيئات التنظيميّة المُستقلّة في تحقيق تكافؤ الفرص ووضع حدّ للمحسوبيّات بين الحكومات والشركات، عدا عن إمكانيّة جعل عمليّة وضع القواعد أكثر شفافيّة ومفتوحة لشكاوى وتعليقات العموم.

 

أخيراً، هناك إجماع على المجال المتعلّق بالشفافيّة والحقّ في الوصول إلى المعلومات – وهي المجالات التي تخلّفت فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عن المناطق الأخرى. حقّقت حكومات قليلة، مثل الأردن ومصر، مكاسب من توفير مزيد من التدقيق في الماليّة العامّة. كما اتّخذت تونس، على سبيل المثال، خطوات باهرة لإعداد قانون فعّال وتطبيقه من شأنه أن يكرّس الحقّ في الوصول إلى المعلومات ويساعد في تعزيز استجابة الحكومة وتقوية المساءلة العامّة. أخيراً، يمكن للحكومات أن تحرّر الإعلام المطبوع والرقمي بما يسمح بمزيد من الآراء والانتقادات لعمليّاتها، وهو جزء أساسي من الجهود المبذولة لتحسين الخدمات العامّة.

 

إنّها قائمة صغيرة، ولكنّها ستتطوّر حتماً بمرور الوقت. تواجه المنطقة تحدّيات إضافيّة عدّة في مجال الحوكمة، بدءاً من تحسين المساءلة وتحصين سيادة القانون، إلى تعزيز الهيئات الإداريّة وفق مبدأ الجدارة وفي إطار يضمن المساءلة عن النتائج. مع ذلك، لا تزال هذه الأجندة تتطرّق إلى عدد من القضايا والتحدّيات الأكثر إلحاحاً، علّها أنّ تبني الأُسس لإصلاحات أكثر شمولاً ومجارية للعصر.

 

صحيح أنّ السنوات العشرين الماضية انطوت على خيّبات، لكنّها أيضاً شهدت تقدّماً يُمكن البناء عليه. في كتابنا الأخير حول إصلاح القطاع العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نلاحظ مجموعة ناشئة من الممارسات الفعّالة من داخل المنطقة، التي يجب التقاطها وتنظيمها ونشرها. فمن خلال سلسلة من التدخلات الإبداعيّة والاستراتيجيّة، لا يزال من الممكن تحقيق العديد من الأهداف التي تمّ التعبير عنها بطلاقة مُقنعة في تقرير التنمية البشريّة العربيّة لعام 2002.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الإنتخابات، الاحتجاجات والثورات، الاقتصاد السياسي، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: الأردن، البحرين، العراق، الكويت، المغرب، المملكة العربية السعودية، تونس، فلسطين-إسرائيل، مصر

المؤلّفون

مدير وزميل أوّل
طارق يوسف هو زميل أوّل ومدير مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وكان قبل ذلك زميلاً أولاً ومدير مركز بروكنجز الدوحة وأيضاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكنجز في العاصمة الأمريكية واشنطن. وهو أيضاً زميل بحوث في منتدى البحوث الاقتصادية في القاهرة.   شملت حياته المهنية العالم الأكاديمي ومراكز البحوث في كلية الشؤون… Continue reading أين أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد عشرين عاماً من إصلاحات الحوكمة؟
زميل أوّل غير مقيم
روبرت بيشيل هو زميل أوّل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وهو يقدّم أيضاً استشارات بصفة مستشار أوّل حول الحوكمة وإدارة القطاع العام للبنك الدولي وعدد من الشركات الاستشارية المرموقة.   أشرف بيشيل في السابق على عمل البنك الدولي حول الحوكمة وإدارة القطاع العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان أيضاً رئيس… Continue reading أين أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد عشرين عاماً من إصلاحات الحوكمة؟