رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والملك الأردني عبد الله الثاني ووزير الخارجية بدولة قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وقادة خليجيون آخرون في صورة تذكارية في خلال مؤتمر بغداد 2 للتعاون والشراكة في البحر الميت، الأردن، في 20 ديسمبر 2022. رويترز /علاء السخني.

هل ينجح رئيس الوزراء العراقي الجديد في تحسين العلاقات مع الدول الخليجية؟

شهدت العلاقات العراقية الخليجية توتّراً مستمراً على مدى العقدين المنصرمين، بسبب الصراع الطائفي في العراق وسياسته الخارجية المرتبطة بشكل وثيق مع إيران. في الوقت الذي أظهرت فيه الجهود المبذولة في الآونة الأخيرة لإصلاح العلاقات تطوّراً واعداً، يبقي السؤال حول إمكانية تحقيق تقدّماً حقيقياً في عهد رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني.

16 يناير، 2023
رانج علاء الدين

تأمل الحكومة العراقية الجديدة أن يبعث تدفّق الاستثمارات الخليجية الحياة في اقتصادها، وأن ينوِّع علاقاتها الإقليمية بعد سنوات من قربها من إيران. لكن قد تواجه هذه الجهود معارضة شديدة من طهران ووكلائها، الذين وسّعوا نفوذهم وعزّزوه منذ تولّي رئيس الوزراء محمد شياع السوداني السلطة في أكتوبر الماضي. الجدير بالذكر هو أنّ السوداني مدعوم من فصائل موالية      لإيران ترفض منذ فترة طويلة سحب العراق من فلك إيران أو تحسين العلاقات مع الدول الخليجية وحلفائها الغربيين. كما وأنّ الخطط السعودية التي يُقال إنها سضخّ مليارات الدولارات في الاقتصاد العراقي ستكون خطوة مهمّة، إذا تحقّقت، للاقتصاد العراقي وعلاقات بغداد مع أكبر قوة سنّية في المنطقة. لكن، من المرجّح أن يكون من الصعب على السوداني توطيد العلاقات مع الدول الخليجية في ظلّ السياق الجيوسياسي وصعوبة حشد الدعم من معسكره.

 

تاريخ من انعدام الثقة

 

توتّرت علاقات العراق مع الدول الخليجية منذ الغزو الأمريكي في العام 2003. وأزال اجتثاث نظام البعث الغطاء عن عقود من التوتّرات الطائفية المُتفاقمة والمنافسات الإقليمية التي نتجت عنها. تفكّك العراق نتيجة سنوات من الصراع الدموي بالوكالة، الذي أدخل قوى إقليمية رئيسية، بما فيها إيران التي اغتنمت الفرصة للهيمنة على سياسات جارتها العدوّة السابقة. وبدا أنّ تصريحات ملك الأردن عبد الله الثاني في العام 2004 عن إمكانية بروز “هلال شيعي” يربط دمشق بطهران عبر بغداد، قد تحوّلت إلى حقيقة  في السنوات التالية. قبل انتخابات 2005، حشد رجل الدين الشيعي البارز، آية الله علي السيستاني، الطبقة السياسية الشيعية المنقسمة في العراق، الأمر الذي مهّد الطريق للسياسيين الموالين لإيران لبسط سيطرتهم في بغداد. في الوقت نفسه، ترافق انتشار الميليشيات الشيعية مع ظهور متمردّين سنّة أقوياء، تلقّوا الأسلحة والموارد المالية والممر الآمن عبر سوريا والأردن. وقد عزّز هذا السياق الصراع الطائفي في العامين 2006 و2007، وكذلك الأهوال التي أعقبت صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش).

 

وقد فشلت عواصم دول مجلس التعاون الخليجي باستمرار، رغم إدراكها أهمية الأمر، في صياغة     سياسة متينة وطويلة الأمد واستراتيجية تجاه العراق تضع العلاقات على مسار أفضل، وهذا ما أظهرته الانتخابات البرلمانية لعام 2010 بشكل مؤلم. في الفترة التي سبقت الانتخابات، برزت مؤشّرات لاحتمال ظهور كتلة متحالفة مع دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي ورئيس جبهة صحوة الأنبار أحمد أبو ريشة، إلّا أنّ السعودية نسفت التحالف بسبب معارضتها ضمّ المالكي. وقد كانت المخاوف السعودية ببعض جوانبها مبرّرة في أعقاب محدودية الفرص، ففي عهد المالكي وصلت العلاقات بين العراق والدول الخليجية إلى الحضيض. كان يُنظر إلى المالكي، في العراق – خارج المجتمع الإسلامي الشيعي – وفي المنطقة الأوسع، على أنّه رجل سلطوي وطائفي ومسؤول عن قمع العرب السنّة، ما ساهم في النهاية في تغذية صعود الدولة الإسلامية. كذلك أدّى فشل المالكي في بناء جسور مع الدول العربية الأخرى إلى تفاقم المنافسة التي أشعلها الربيع العربي. بعد اجتياح المظاهرات العالم العربي في العام 2011، انتقدت شخصيّات سياسية ودينية عراقية بارزة، ومن ضمنها السيستاني، الحملات القمعية ضدّ المتظاهرين الشيعة في بعض الدول الخليجية، ما أثار غضب السعودية والبحرين. في الواقع، أصبح العراق، إلى جانب حزب الله اللبناني، جزءاً من كتلة تقودها إيران متورّطة في صراع إقليمي ضدّ الولايات المتّحدة وحلفائها الخليجيين.

 

وقد أكّد استيلاء داعش السريع على شمال العراق وشرق سوريا في العام 2014، والثورات الشعبية في سوريا، والردّ المضاد للتحالف الغربي، على الطبيعة الإقليمية لمشاكل العراق. كان العراقيون الشيعة والسنّة في تلك المرحلة يقاتلون على طرفي نقيض من الحرب في سوريا، وقد رحّبت المجتمعات العربية السنّية في الشمال، أقلّه في البداية، بهجمات تنظيم الدولة الإسلامية.

 

الجبهة الداخلية تحت المجهر

 

لا يزال غياب الثقة يقوّض العلاقات الخليجية العراقية، على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلها سلف السوداني، رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي استفاد من فترة عمله كرئيس لأجهزة المخابرات أثناء الحرب ضدّ داعش ونسج علاقات شخصية مع قادة إقليميين وغربيين، لإطلاق محاولة معتبرة لتحسين العلاقات بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي. وفقاً لمقابلات مع مسؤولين سعوديين وأردنيين، كان يُنظر إلى الكاظمي، وهو شيعي وعضو قديم في المعارضة الشيعية العراقية إبّان حكم صدام حسين، على أنّه قومي عراقي حقيقي لا يحمل أي خلفيّات طائفية. على النقيض، يعتمد السوداني، وهو أحد أقوى المناصرين السابقين في حزب الدعوة، على    تحالف إطار التنسيق المؤيّد لإيران وحزب الدعوة، اللذين يهيمن عليهما الإسلاميون الشيعة المتشدّدون، واتخذت دعائمهما الأيديولوجية لوناً طائفياً بشكل متزايد. وبالتالي، سوف تعتمد مساحة السوداني للمناورة بشكل كبير على قدرته على احتواء المتشدّدين داخل حزب الدعوة، وعلى الدوافع الطائفية للمالكي نفسه، فضلاً عن الميليشيات الموالية لإيران.

 

يمكن استخلاص بعض الإشارات حيال مشاعر دول مجلس التعاون الخليجي تجاه رئيس الوزراء الجديد من اختلاف الحضور بين قمّة بغداد التي عُقِدت في خلال فترة الكاظمي في أغسطس 2021، وتلك التي عقدت في ديسمبر 2022 في عهد السوداني. حضر القمّة الأولى رئيس مصر، وأمير قطر، ورئيس وزراء الإمارات، ووزراء خارجية إيران وتركيا والسعودية. وأفادت مصادر في بغداد بأنّ تخلّل القمّة اجتماعات بين ممثّلين سعوديين وإيرانيين في امتداد لمحادثات السلام التي توسّط فيها الكاظمي، وكذلك بين حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ووزير خارجية إيران. في حين أنّ القمة الثانية في عمّان لم تكن على المستى المطلوب. وفي حين قال مصدر إيراني إنّ اجتماعاً عُقد بين ممثلين عن السعودية وإيران لإجراء “محادثة ودية” على هامش القمّة اتّفقوا في خلالها على إجراء محادثات ثنائية مستقبلية، تنفي تقارير أخرى حدوث محادثة من هذا النوع. ومثّل دولة الإمارات أمير رأس الخيمة، وهو ما اعتبره بعض المسؤولين العراقيين استخفافاً بالسوداني نفسه.

 

لا تزال دول مجلس التعاون الخليجي تراقب عن كثب بعض المتمردين الشيعة ممن تسببوا باضطرابات في الداخل عند تعاملها مع السياسيين الشيعة في العراق. ولا يزال الخطاب السياسي العراقي خاضعاً لسيطرة السرديات المناهضة لدول مجلس التعاون الخليجي والتي تروّج لها شبكة واسعة من القنوات الإعلامية الخاضعة لسيطرة الجهات المتحالفة مع إيران. مع ذلك، يمكن لمجلس التعاون الخليجي الانخراط دبلوماسياً مع النخبة الحاكمة في العراق، وتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية، واحتواء النفوذ الإيراني قدر المستطاع، لا بل عليه القيام بذلك. تمكّنت بعض الدول الخليجية من تطوير علاقات إيجابية مع العراق. كانت الكويت، على سبيل المثال، الدولة الخليجية الوحيدة التي لها حضور قوي في قمة جامعة الدول العربية في بغداد عام 2012، واستضافت مؤتمر إعادة إعمار العراق عام 2018 بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. تأثّرت العلاقات الوطيدة بين الكويت وبغداد بغزو صدام حسين للبلاد في العام 1990، ولكن يؤكّد هذا التاريخ أيضاً على الأهمّية الكبيرة التي توليها الكويت لبناء علاقات صحّية مع جارتها الأكبر. من ناحية أخرى، لا تزال العلاقات مع المملكة العربية السعودية متأثّرة بإرث النظام السياسي في العراق بعد العام 2003 والديناميكيات الجيوسياسية الأوسع، كما تقوّضت علاقات العراق مع قطر بسبب تقارير أفادت بأنّ أثرياء قطريين حوّلوا الأموال إلى المسلّحين العراقيين السنّة والقوّات المناهضة للحكومة، واختطاف مواطنين قطريين من قِبل مجموعات موالية لإيران في العام 2015. وقد عرقلت أيضاً مجموعات متشدّدة موالية لإيران محاولات الفصائل العراقية المعتدلة لرأب الصدع، نظراً لقدرتها الأكبر على التعبئة.

 

الدبلوماسية من خلال الاستثمار

 

أشرف الكاظمي على موجة تواصل مع المملكة العربية السعودية، بما فيها المحادثات المُعلن عنها في العام 2020 بشأن استثمار سعودي مُحتمل بقيمة 2.2 مليار دولار في مشروع غاز إرطاوي المُخطّط له في العراق. ويمكن أن يقلّل ذلك من اعتماد العراق على واردات الغاز الإيراني، وقد يكون أول استثمار رئيسي للرياض في قطاع الطاقة العراقي، عدا أنه سيكون حدثاً مهماً لبناء الثقة وتعزيز العلاقات العراقية السعودية التي تشتد الحاجة إليها. مع ذلك، يُظهر التاريخ أن الآمال بتحسين العلاقات من خلال المشاريع الاقتصادية تعتمد في النهاية على استقرار البيئة السياسية في العراق وقدرة بغداد على إقناع إيران وحلفائها بأن هذه الاستثمارات لن تأتي على حسابهم.

 

سيواجه السوداني تحدّياً كبيراً للوصول إلى توافق بين مراكز القوى المُتعدّدة التي تصيغ علاقاتها الخارجية بشكل مستقلّ. سيتطلّب أي استثمار سعودي كبير في العراق قبول إيراني مبدئي على الأقل لمنع وكلائها من نسفه. يمكن للسوداني أن يحاجج بأنّ الاستثمار سيحيي الاقتصاد المُنهك، وأيضاً يفيد إيران وحلفاءها الذين يواجهون عقوبات أمريكية قاسية. يمكن لحجج مماثلة أن تساعد في تهدئة المخاوف الإيرانية والتخلّص من منطق المحصلة الصفرية للتنافس الإيراني السعودي. بعد ذلك، إنّ أي جهود أخرى لإصلاح الخلاف ستتطلّب من السوداني بناء تحالف سياسي مؤاتٍ. وبالنظر إلى أن داعمه الرئيسي وراعيه هو المالكي الطائفي، فقد يتوقّف عمله. فضلاً عن ذلك، من شأن الاحتجاجات الشعبية في إيران، ومصلحة مقتدى الصدر المحتملة في تقويض الحكومة، والمخاوف الخليجية تجاه السوداني أن تعرقل جهوده للبناء على إنجازات الكاظمي في مدّ الجسور.

 

في النهاية، من غير المرجح أن تزدهر علاقات الدول الخليجية مع العراق إلى حين يتمكّن من تشكيل علاقاته الخارجية بشكل مستقل عن إيران، وتضع تلك الدول سياسات يمكن أن تخفّف وتتكيّف مع الديناميكيات التي يرجّح أن تطبع المشهد السياسي لعقود.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاقتصاد السياسي، العلاقات الإقليمية
البلد: إيران، الإمارات العربية المتحدة، البحرين، العراق، الكويت، المملكة العربية السعودية، عُمان، قطر

المؤلف

رانج علاءالدين هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وكان سابقاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز وباحثاً زائراً في جامعة كولومبيا. علاءالدين متخصص في السياسة الخارجية وتركّز بحوثه حول قضايا الأمن الدولي والحوكمة الرشيدة والتحديات الأمنية المرتبطة بالمناخ، بالإضافة إلى دبلوماسية المسار الثاني والتداخل بين السياسات العامة والأمن البشري.… Continue reading هل ينجح رئيس الوزراء العراقي الجديد في تحسين العلاقات مع الدول الخليجية؟