الأمير القطري الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يلتقي برئيس غيانا محمد عرفان علي في جورج تاون، غيانا في 13 سبتمبر 2023. (الديوان الأميري لدولة قطر / وكالة الأناضول / وكالة الأناضول عبر وكالة فرانس برس)

هل ستخطو قطر خطوتها الدبلوماسيّة المقبلة في أمريكا اللاتينيّة؟

فيما توسّع الدوحة نطاق وساطتها الدبلوماسيّة أبعد من حدود منطقتها، قد يشكّل التوسط لحلّ الصراع الطويل على الحدود بين فنزويلا وغويانا جهد قطر الدبلوماسي المقبل.

21 نوفمبر، 2023
تانر مانلي

تحظى قطر باهتمامٍ عالمي كبير لدورها في التفاوض على إطلاق سراح رهائن إحتجزتهم حركة حماس بعد الهجوم الذي شنّته على إسرئيل في 7 أكتوبر. وقد وسّعت في الآونة الأخيرة جهودها الدبلومساية لأبعد من حدود منطقتها، ووصلت إلى أمريكا اللاتينيّة حيث تتّسع قنواتها الاقتصاديّة والدبلوماسيّة.

 

في 17 أكتوبر، وافقت حكومة فنزويلا ومجموعةٌ من أحزاب المعارضة على وضع شروط لإجراء انتخابات رئاسيّة تنافسيّة في العام 2024 – وقد أدّى هذا الاتفاق الذي يحتمل أن يكون تاريخياً إلى تخفيف العقوبات الأمريكيّة على قطاع النفط الفنزويلي. وقيل إنّ هذا الإنجاز أتى نتيجة اجتماعات متعدّدة عُقدت في قطر في خلال العام الفائت.

 

والآن، تُقدّم تجربة قطر كوسيطٍ بين الولايات المتحدة وفنزويلا لهذه الدولة الخليجية فرصةً للتوسّط في خلافٍ حدودي طويل الأمد بين فنزويلا وغويانا المجاورة لها. قبيل استفتاء فنزويلي وشيك حول الخلاف، تمثّل اللحظة الحاليّة منعطفاً حاسماً حيث تُعتبَر الوساطة والجهود الرامية إلى التهدئة حاسمة.

 

قد يكون لتخفيف التوترات بين فنزويلا وغويانا انعكاسات مهمة على الاستقرار في أمريكا اللاتينيّة وعلى أسواق الطاقة العالميّة. ومن شأنه أيضاً أن يسمح للدوحة بزيادة توسيع حضورها الاقتصادي في هذه المنطقة الزاخرة بالنفط والغاز. غير أنّ التوسّط في الخلاف المستمر منذ قرنٍ من الزمن –والذي يشكّل موضوع  دعوى مرفوعة أمام محكمة العدل الدولية- قد يطرح معضلةً حساسة بالنسبة إلى قطر التي تسعى إلى تحقيق توازن بين روابطها مع كاراكاس واستمراريتها كوسيطٍ محايد من جهة، وعلاقاتها مع دول الغرب والمؤسسات الدوليّة التي تهيمن عليها من جهةٍ أخرى.

 

بيد أنّ قلّةً من الدول تتمتع بخبرة قطر في عمليّة التوازن تلك، حيث أنّ جهود الوساطة التي بذلتها الدوحة شملت مجموعةً واسعة من الجهات الحكومية والمجموعات غير الحكومية من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إيران وطالبان.

 

البناء على اتفاق بربادوس

عندما وقّع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وتحالف المعارضة المعروف بـ”منصة الوحدة” على اتفاق بربادوس الشهر الماضي، رُحَّب به كإنجازٍ محتمل في إطار الجهود الآيلة إلى حل المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة العميقة التي ترزح فنزويلا تحت وطأتها والتي تسبّبت بأسوأ أزمة هجرة شهدتها المنطقة. وعلى الرغم من أنّ الولايات المتّحدة لم تكن طرفاً في الاتفاق، إلّا أنّها سارعت إلى تأييده وخفّفت العقوبات المفروضة على فنزويلا، ما شكّل نقطة تحوّل في السياسة الأمريكيّة إزاء كاراكاس بعد فشل مقاربة “الضغط الأقصى” التي تبنّتها إدارة ترامب.

 

أتت خطوةُ واشنطن في أعقاب اجتماعات متعدّدة عُقدت بين دبلوماسيين أمريكيين وفنزويليين في الدوحة في وقتٍ سابق من هذا العام وكانت حاسمة لإبرام اتفاق بربادوس. وقد أرسى هذا الدور القواعد أمام قطر للوساطة بين فنزويلا وغويانا. علاوة على ذلك، كانت الدوحة قد عزّزت انخراطها مع الطرفين. فقد التقى الرئيس مادورو وزير الخارجيّة القطري في أواخر شهر سبتمبر، وزار نائب الرئيس الفنزويلي الدوحة في أوائل شهر أكتوبر. وكان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني قد استقبل رئيس غويانا محمد عرفان علي في الدوحة في مايو الفائت. وتشير هذه الزيارات إلى الأهميّة القصوى التي تُليها القيادة القطريّة العليا إلى العلاقات مع هذه المنطقة من أمريكا اللاتينيّة.

 

غير أنّ تأدية دور الوسيط بين فنزويلا وغويانا يمكن أن يحضر إلى الواجهة أهدافاً متعارضة في السياسة الخارجيّة. في الواقع، تُريد الدوحة المحافظة على الحياد الإستراتيجي الذي سمح لها بأن تكون وسيطاً جذاباً بنظر فنزويلا وإيران وغيرهما من الدول والجهات–لا سيما حركة حماس- المنبوذة من المؤسسات الدوليّة التي يهيمن عليها الغرب. وقد تعرّضت قطر لحملة انتقادات لاذعة لأنها تستضيف مكتباً سياسياً لحماس، في ظل دعوات مسؤولين أمريكيين سابقين وأعضاء من الكونغرس ومرشّح رئاسي إلى تكثيف الضغوط الدبلوماسيّة أو حتى إلى شنّ عمليّة عسكريّة ضد حماس على الأراضي القطريّة. إلّا أنّ كل هذه الانتقادات تغفل بشكلٍ ملائم عن الاعتراف بأنّ الاتصالا الدبلوماسية السرية المتعلّقة بحماس أُطلِقت بناء على طلب الولايات المتّحدة وتعود بالفائدة على المصالح الأمريكيّة. سيكون حاسماً بالنسبة إلى قطر تحقيق توازن حذر بين هذه الأولويّات وضمان نتائج أكثر إيجابية من الوساطة بين حماس وإسرائيل بهدف المحافظة على فعاليّتها وسمعتها كوسيط فاعل.

 

لن يكون التوسّط في إنهاء هذه الأزمة بمهمةٍ سهلة، إذ يعود الخلاف على الحدود بين غويانا وفنزويلا حول إقليم إسيكيبا إلى أواخر القرن التاسع عشر. تزعم فنزويلا أنّها تعرّضت للغش وأُخرجت من الأراضي التي توازي ما يقارب ثلثي غويانا حالياً. وفي السنوات الأخيرة، عاد الخلاف إلى الواجهة بعد اكتشاف احتياطي كبير من النفط في الإقليم البحري للمنطقة الحدودية، ما يمكن أن يجعل من غويانا جهة رئيسيّة في إنتاج النفط في أمريكا اللاتينيّة. وقد أُرغمت سفينة حفر تابعة لشركة “إكسون موبيل” على وقف أعمالها في العام 2018 بعد مواجهة مع القوات البحريّة الفنزويلية بالقرب من الحدود البحريّة.

 

وتفاقمت التوتّرات في سبتمبر عندما قدّمت غويانا جولةً أخرى من العروض لحقوق استكشاف النفط والغاز في المياه البحرية الخارجيّة في الإقليم المتنازع عليه. في المقابل، وافقت الجمعية الوطنيّة الفنزويلية على إجراء استفتاء حول هذه المسألة. وفي كلمةٍ ألقاها وزير الخارجيّة الفنزويلي إيفان جيل أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، صوّر الخلاف على أنّه معركة ضد الإمبرياليّة الأمريكيّة وعسكرة المنطقة، قائلاً إنّ الاستفتاء يرمي إلى “التصديق على الدفاع عن أراضينا السياديّة ضد اعتداءات الإمبراطوريّة الأمريكيّة، التي تريد أن تقودنا إلى حرب من أجل الموارد الطبيعية”. وردّت غويانا على هذا الخطاب باستدعاء السفير الفنزويلي وحذّرت من أنّ الاستفتاء قد يؤدّي إلى المزيد من التصعيد.

 

من جهتها، قالت الولايات المتحدة إنّها “تدعم حق غويانا السيادي في تنمية مواردها الطبيعيّة الخاصة بها”، وساندت موقف غويانا القائل بوجوب احترام أي حكم يصدر عن محكمة العدل الدوليّة. وقد سبق أن أكّدت محكمة العدل الدولية اختصاصها القضائي على النزاع، رافضةً محاولة فنزويلا تعطيل العمليّة من خلال الإصرار على أنّ المملكة المتّحدة، أي الحاكم الاستعماري السابق لغويانا، هي “طرف ثالث لا غنى عنه” في النزاع. وقد ناشد مادورو الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مؤخّراً من أجل التدخّل.

 

نظراً للاستفتاء الوشيك المزمع إجراؤه في 3 ديسمبر والتوتّرات المستمرّة التي تؤجّجها إدارة مادورو كوسيلة إلهاء سياسي على ما يبدو، فإنّ الجهود الرامية إلى تهدئة الوضع وتشجيع الحوار ملحّة. بيد أنّ التصويت لن يكون ملزماً وسيُمثّل بشكلٍ عام أداةً لحشد التأييد الشعبي قبل انتخابات العام المقبل. وعلى الرغم من اتفاق بربادوس، استمرّت إدارة مادورو في تقويض المعارضة، وزعمت بحصول تزوير في الانتخابات التمهيدية الأخيرة.

 

وفيما تقترب مهلة 30 نوفمبر لكي تفي فنزويلا بالشروط الأوليّة لاتفاق بربادوس، يمنح انخراطُ قطر المطّرد ورفيع المستوى البلادَ نفوذاً يمكنها ممارسته في الخلاف بين غويانا وفنزويلا كجهةٍ محايدة إنّما منخرطة بشكلٍ متزايد.

 

انخراط قطر المتزايد

لا تُمثّل الزيارات الدبلوماسيّة الأخيرة سوى سطح الروابط التي تُنمّيها قطر مع دول أمريكا اللاتينية، التي تشمل أيضاً البرازيل والسلفادور والأرجنتين. ويرتكز الكثير من هذه العلاقات على التعاون في مجالي الطاقة والزراعة. علاوة على ذلك، لقطر مصالحٌ طويلة الأمد في فنزويلا، التي تحتوي على أكبر حقل نفط مؤكّد في العالم. ويمكن أن تكون فرص توثيق التعاون في مجال إنتاج الطاقة مفيدة بشكلٍ متبادل لقطر وغويانا وفنزويلا، وتقدّم ميزةً إستراتيجيّة ونفوذاً مشتركاً أكبر في أسواق الطاقة العالميّة.

 

إلّا أنّ تردّد فنزويلا في الاعتراف بمحكمة العدل الدولية كمحَكّم قد يشكّل معضلة لقطر. يرسي الاستفتاء القواعد للنظام –والشعب- الفنزويلي لرفض أي حكم صادر عن محكمة العدل الدولية لصالح غويانا من خلال تصوير العمليّة على أنّها فاسدة من جراء المصالح الأمريكية. في هذه الحال، قد يُطرح السؤال لمعرفة ما إذا كان ينبغي على قطر أن تعطي الأولوية لسمعتها الحيادية وعلاقاتها مع فنزويلا، أو لالتزامها تجاه المؤسسات الدولية. قد لا يكون الأمران متعارضين تماماً، لكنهما يتطلّبان دبلوماسية حذرة. تُسهّل استجابةُ الأمم المتحدة العاجزة للإبادة الجماعية المستمرّة التي ترتكبها إسرائيل في غزة وجرائم الحرب التي تقترفها في لبنان وفلسطين على مادورو رفض أي حكم صادر عن محكمة العدل الدوليّة، كونها فضحت نفاق النظام الدولي “القائم على قواعد” خاضعة لهيمنة الغرب ونسفت أي قصاصة من الشرعية المتبقية.

 

قد تتطلّب الوساطة في هذا الخلاف تحقيق توازن دبلوماسي حذر لكي تبقى قطر وسيطاً صالحاً بنظر فنزويلا، مع مواصلة التزاماتها تجاه المنظومة الدولية. على الرغم من ذلك، قلّة من الدول سارت على هذا الطريق المحفوف بالمخاطر بقدر ما فعلت قطر، كما في تعاطيها مع المسؤولين الإيرانيين وطالبان وحماس. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ توسّع نفوذ قطر الدبلوماسي في أمريكا اللاتينية، لا سيما في ما يتعلق بتسهيل المحادثات بين الولايات المتحدة وفنزويلا، يضعها في موقع الوسيط القوي المحتمل في الخلاف بين غويانا وفنزويلا.

 

إنّ الرهانات عالية: لن تنعكس نتيجة الخلاف على فنزويلا وغويانا فحسب، بل ستكون لها تداعيات أوسع على أسواق الطاقة والاستقرار الإقليمي. بالتالي، قد يكون دور قطر في تسهيل الحوار والتشجيع على التهدئة محورياً لحلحلة هذا الصراع الذي طال أمده.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية، منافسة القوى العظمى
البلد: فلسطين-إسرائيل، قطر

المؤلف

باحث مساعد
تانر مانلي هو باحث مساعد في برنامج الصراعات والتحولات التابع لمجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. حصل مانلي على بكالوريوس العلوم من كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورجتاون في قطر. وقد نال تقدير امتياز عن أطروحته عن الحركات الناشطية في الولايات المتحدة في القرن العشرين. تركّز اهتماماته البحثيّة على السياسات العمالية والهجرة والوساطة في الصراعات في منطقة الشرق الأوسط… Continue reading هل ستخطو قطر خطوتها الدبلوماسيّة المقبلة في أمريكا اللاتينيّة؟