الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في النسخة الثانية من قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، التي عُقِدت على هامش مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي COP27 في مدينة شرم الشيخ المصرية على ساحل البحر الأحمر في 7 نوفمبر 2022. - ©AFP

مصر وإيران: نحو خفض التصعيد وتطبيع العلاقات؟

يتردّد أنّ مصر في خضم محادثات جادّة تهدف إلى إصلاح علاقتها مع إيران، بعد ترميم العلاقات بين حلفاء القاهرة الخليجيين والجمهورية الإسلامية. ولكن التقارب بين البلدين ليس مضموناً بالنظر إلى تاريخهما المشحون والاعتبارات الجيوسياسية الخاصّة بمصر.

20 يوليو، 2023
روبرت ميسون

ّتزايدت التكهّنات في الأشهر الأخيرة حيال إنهاء مصر وإيران عقوداً من العداء المُتبادل. في أوائل مايو الماضي، قال مسؤولون مصريون وعراقيون إن ثمّة محادثات جارية في بغداد بهدف إصلاح العلاقات بين القوّتين الإقليميتين الرئيسيتين. في وقت لاحقٍ من الشهر نفسه، قال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي إنّ طهران ترحّب بعلاقات أفضل مع القاهرة.

 

كان خامنئي يتحدّث في عمان، التي تتوسّط عادة في النزاعات الخليجية، وأدّت دوراً رئيسياً في اتفاق تطبيع العلاقات الذي أبرم في مارس الماضي بين إيران والمملكة العربية السعودية، أحد أقرب حلفاء مصر. ويبدو أنّ هذا الاتفاق والمبادرات التي تلته  لخفض التصعيد على أحد خطوط الصدع الرئيسية في المنطقة، قرّب القاهرة من إصلاح علاقاتها مع طهران. فذوبان الجليد في العلاقة بين البلدين الأكثر اكتظاظاً بالسكّان في الشرق الأوسط قد يفضي إلى تحوّل كبير. مع ذلك، عقبات كبيرة تقف في طريق توطيد هذه العلاقات.

 

تتّسم العلاقات المصرية الإيرانية بالاحتدام منذ عقود. بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في العام 1972، سادت فترة قصيرة من المودّة النسبية. فقد تخلّى خلفه، أنور السادات، عن العروبة الناصرية، وقاد البلاد إلى الفلك الغربي، وهو ما انسجم مع نظرة شاه إيران الموالية للغرب آنذاك. لكن تغيّرت الديناميكيات بشكل جذري في العام 1979. تمّت الإطاحة بالشاه، الذي هرب إلى مصر، ممّا أدّى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في العام التالي. وبعد شهرين من سقوط الشاه، وقّع السادات معاهدة سلام مع إسرائيل وضعته في مواجهة النظام الجديد في طهران. وزاد الطين بلّة عندما خاضت إيران حرباً مع العراق في العام 1980، وإرسال مصر أسلحة إلى بغداد كوسيلة استخدمتها لتسهيل عودتها إلى الحضن العربي بعد اتفاقيات كامب ديفيد. أكّدت هذه الخطوة الأهمية الإستراتيجية لعلاقات مصر مع الأنظمة الملكية في منطقة الخليج، التي اضطربت جرّاء الثورة الإيرانية وازدياد احتمالات نشوء انتفاضات ضدّ الأنظمة فيها.

 

قوبل اغتيال الرئيس أنور السادات على يدّ مسلّحين إسلاميين في خلال عرض عسكري في القاهرة في العام 1981 بابتهاجٍ في إيران. فقد أطلقت الحكومة الإيرانية اسم خالد الإسلامبولي، ضابط الجيش المصري الذي خطّط للهجوم وشارك فيه، على شارع رئيسي في طهران. وفي العام 1987، بعد أن اعتقل مسؤولو الأمن المصريون 37 عضواً في منظّمة أصولية إسلامية راديكالية تموِّلها إيران، أعلنت مصر عن قطع جميع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وأغلقت المكاتب التمثيلية الإيرانية القليلة الباقية في القاهرة، واستدعت الدبلوماسي المصري الوحيد من طهران. ولم يُحلّ الخلاف حول اسم الشارع، ولم تُستأنَف العلاقات الدبلوماسية، إلّا بعد زيارة الرئيس الإيراني محمد خاتمي لمصر في العام 2004.

 

في أعقاب الانتفاضات العربية في العام 2011، انتُخب محمد مرسي، المسؤول الكبير في جماعة الإخوان المسلمين، أول رئيس لمصر بعد الثورة. على إثرها تحسّنت العلاقات مجدّداً: فعيّنت إيران سفيراً في مصر، وسافر الرئيس مرسي إلى طهران في العام 2012 لحضور اجتماعات حركة عدم الانحياز. فيما قام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بزيارة تاريخية مماثلة إلى القاهرة في العام 2013 على أمل إنشاء “محور مقاومة” جديد غير مذهبي مع مصر. لكن سرعان ما انقلبت الديناميكيات مرّة أخرى، وتجدّد العداء بيد البلدين، مع إطاحة الجيش المصري بمرسي في العام 2013، وهي خطوة أدانتها إيران رسمياً.

 

حتى في العام 2015، عندما وقّعت إيران ومجموعة 5 + 1، المؤلّفة بغالبيتها من قوى غربية، اتفاقاً بشأن برنامج إيران النووي، لم تتغيّر العلاقات المصرية الإيرانية لأنها لم تؤثّر في المحرّك المُهيمن في العلاقة، وهو اصطفاف مصر مع الدول الخليجية. من المهم الانتباه إلى أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة شكّلتا مصادر حيوية لتمويل الاقتصاد المصري المتأزم بعد العام 2013. واستمرّ تراجع العلاقات في العام 2016 بعد قطع المملكة العربية السعودية ودول أخرى العلاقات مع إيران بسبب اقتحام السفارة السعودية في طهران.

 

لكن اتفاق تطبيع العلاقات السعودي الإيراني قلب موقف الدول الخليجية رأساً على عقب، وطرح إمكانية خفض التصعيد في المنطقة، وحتّى تعزيز العلاقات الأمنية بين إيران والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. مع ذلك، هناك العديد من العوامل التي لا ترجّح ذهاب مصر بعيداً أو سريعاً في مغازلة إيران كما فعل حلفاؤها الخليجيون. لا يزال التطبيع بين مصر وإيران مرتبطاً بقضايا سياسية-أيديولوجية وجيواستراتيجية متجذّرة، مع تركيز على التهديدات المصرية والإسرائيلية والإيرانية والخليجية العربية المُتصوّرة، فضلاً عن الحسابات حول كيفية تأثير أي صفقة على مكانة مصر في ميزان القوى الإقليمي المتغيّر باستمرار. إلى ذلك، لا يزال الخلاف الأيديولوجي قائماً بين الحكومتين، متأثراً بموقف إيران ودعمها للإخوان المسلمين بعد الربيع العربي.

وينسحب الأمر على التنسيق المصري المستمرّ منذ عقود مع أعداء إيران اللدودين. إذ يرجّح أن لا تسمح إسرائيل والولايات المتّحدة بتطوّر أي علاقات أمنية بين مصر وإيران في المستقبل المنظور، من دون الشعور بانعدام الأمن الذي يشعر به شركاء مصر في الخليج. لكن نظراً للمخاطر الكبيرة في مقابل العوائد المُحتملة، فإن القاهرة ملزمة بالمضي قدماً وإنّما بحذر. إذا توصّلت الولايات المتّحدة نفسها إلى اتفاق مع إيران، فقد يمنح ذلك مصر المزيد من الحوافز لعقد اتفاق خاصّ بها مع طهران. لكن المخاطر الأخرى، مثل التصعيد بين إسرائيل وإيران، قد تعرقلها بسهولة.

 

تُظهر اتفاقيات أبراهام وانخراط مجموعة واسعة من الدول العربية مع إسرائيل من خلال مجموعات عمل منتدى النقب، بما فيها الإمارات العربية المتحدة ومصر، أنّ الأخيرة مرتبطة بمجموعة متنوعة من الأطر الإقليمية. وهذا يعكس مصلحة مصر الأساسية في ضمان الاستقرار على حدودها، والاستمرار في الاستفادة من نفوذها على المسلّحين الفلسطينيين في غزة في تعاملاتها مع الولايات المتحدة. وبالفعل، حرصت مصر على موازنة نفوذها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لتعظيم وضعها الإقليمي والمساعدات العسكرية الأمريكية.

 

كثّفت إيران جهودها لتوسيع نفوذها الإقليمي في أعقاب الانتفاضات العربية في العام 2011، والتي تستهدف عموماً مصالح الملكيّات السنية السعودية والإماراتية، اللتين شنتا بدورهما حرباً استمرّت سنوات في اليمن ضدّ المتمرّدين الحوثيين المتحالفين مع إيران. وقد عانت الدولتان من هجمات الحوثيين والإيرانيين على أراضيهما. ويشمل ذلك هجمات 2019 المدمّرة على منشآت النفط السعودية في بقيق وخريص، وفشلت الولايات المتحدة في تقديم المساعدة الفورية، والتي يمكن القول إنها كانت عاملاً رئيسياً في الانخراط الدبلوماسي السعودي مع إيران. في الواقع، من خلال ترميم العلاقات مع الخصوم السابقين في العالم العربي، تستطيع إيران دقّ إسفين بين الدول التي تفكّر في التطبيع مع إسرائيل والجهود الأمريكية الإسرائيلية لعزل إيران من خلال تحالف إقليمي. مع ذلك، إن طبيعة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل ومدتها تضعها في فئة مختلفة.

 

على الجانب الاجتماعي والاقتصادي، لمصر وإيران مصلحة مشتركة في تعزيز العلاقات التجارية بينهما. لكن من الصعب حصول أي صفقات تجارية كبرى بسبب توجّههما الاقتصادي المماثل. تعتمد مصر على استخراج الغاز والاتصالات والزراعة والبناء، وتركّز إيران على الهيدروكربونات والقطاعات الزراعية والخدمية. تعاني الدولتان أزمات اقتصادية يمكن أن تؤجّج المعارضة وتزيد من الأزمات السياسية. لذلك من المحتمل أن تنجذب مصر إلى إبرام صفقة مع إيران في مقابل الاستثمارات الإيرانية في اقتصادها، ربما من خلال وسطاء مثل روسيا أو الصين أو قطر. لكن في ظل العقوبات المفروضة، لا تملك إيران سوى القليل من الموارد لاستثمارها. إلى ذلك، قد يكون هناك المزيد من الإمكانات في السياحة، والتي من شأنها أن تجلب العملة الصعبة التي تحتاجها مصر بشدّة.

 

قد تكون صفقة التطبيع بين مصر وإيران مهمّة، لكنها تتبع حالياً منطقاً بسيطاً واتجاهاً لخفض التصعيد الإقليمي. لكي تكون صفقة مماثلة ذات مغزى أكبر، فإنها تتطلّب تعاوناً أكبر في مجموعة من قضايا الأمن الإقليمي، بما في ذلك اليمن ولبنان وسوريا، حيث تشترك مصر في مصالح مماثلة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

 

مع عقود من انعدام الثقة والمنافسة والتوترات التي لم تحل، تبرز أسئلة حول مدى استدامة الضغط الجديد من أجل خفض التصعيد وتطبيع العلاقات المصرية الإيرانية، خصوصاً إذا تدهورت علاقات الولايات المتحدة وإيران والسعودية مع إيران وإسرائيل وإيران أكثر وأكثر.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاقتصاد السياسي، العلاقات الإقليمية، منافسة القوى العظمى
البلد: إيران، الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، قطر، مصر

المؤلف

روبرت ميسون هو زميل غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن وفي مركز الخليج للأبحاث في جدة. قبل ذلك، كان أستاذاً مشاركاً ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. كان أيضا زميلاً زائراً في قسم دراسات الشرق الأدنى في برنستون، وباحثاً زائراً في جامعة أوكسفورد، وفي مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات… Continue reading مصر وإيران: نحو خفض التصعيد وتطبيع العلاقات؟