مشاركون يسيرون أمام لافتات في قمة الأمم المتحدة للمناخ COP28 في دبي في 3 ديسمبر 2023. (وكالة الصحافة الفرنسية)

«الغليان العالمي» حقيقة قاتمة وحكومات المنطقة عليها أن تتحضّر

يشكّل تغيُّر المناخ تهديداً كبيراً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مثل أي مكانٍ آخر في العالم. فلماذا لا تبذل حكومات المنطقة جهداً أكبر في هذا الصدد؟

4 ديسمبر، 2023
عبد الفتاح حامد علي

بالنسبة إلى سكّان المناطق شديدة الحرارة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليس بمفاجأة أن يكون العام 2023 الأكثر حرارة منذ بدء رصد حرارة الأرض. فقد سجّل شهر يوليو الماضي علامة قاتمة بالفعل كأكثر شهرٍ سخونة على الإطلاق، ممّا دفع الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش للإشارة إلى بدء «عصر الغليان العالمي».

 

تمثّل موجة الحرّ التي شهدناها هذا العام تحذيراً صارخاً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تُعدُّ من المناطق الأكثر جفافاً وسخونة على كوكب الأرض. ومن الواضح أنّ ارتفاع درجات الحرارة ومنسوب مياه البحر، وعدم انتظام هطول الأمطار، والجفاف، وندرة المياه، هي ظواهر مناخيّة لا مفرّ منها، وعلى الحكومات أن تعطي الأولوية للتخفيف من حدّتها بشكلٍ عاجلٍ، لا سيّما بالنظر إلى قدرتها على مفاقمة الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة القائمة. وسيعقّد النمو السكّاني السريع، وانعدام الأمن الغذائي، والصراعات، والمشاكل الاقتصاديّة، وما ينتج عنها من تحرُّكات سكّانية، الاستجابة لأزمة المناخ ، والعكس صحيح.

 

على الرغم من حجم هذه التحديات، أتت استجابات الدول في جميع أنحاء المنطقة متفاوتة وغير كافية. وفي حين تتمتّع الدول الخليجية الغنيّة بالنفط بقدرة ماليّة أكبر للتصدّي لهذا التحدّي، تقف البلدان غير المُصدّرة للنفط وذات الموارد الضئيلة عاجزة على الرغم من أنّها ستكون الأكثر معاناة من آثار تغيُّر المناخ في العقود المقبلة. لذلك، على حكومات المنطقة الاستفادة من مؤتمر المناخ COP28 المنعقد من أجل تعزيز المزيد من التعاون بشأن هذه القضية، ودفع المجتمع الدولي إلى تحسين القدرة على الصمود في وجه تغيُّر المناخ، وتحفيز التحوُّل الاقتصادي المُستدام، ومعالجة التحدّيات المُتعدّدة الناتجة عن الزيادة الشديدة في درجات الحرارة.

 

درجات الحرارة ترتفع والتحدّيات تتصاعد

تُعدُّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر مناطق العالم عرضة لتغيُّر المناخ، بدءاً من ارتفاع درجات الحرارة إلى دورات الجفاف والفيضانات، وارتفاع منسوب مياه البحار، وندرة المياه العذبة. وبحلول نهاية القرن، قد يواجه نصف سكّان المنطقة ظواهر مناخيّة «شديدة التطرُّف»، مع تجاوز الحرارة الستين درجة مئوية، وتحوُّل المدن إلى بؤر غير صالحة للعيش وتلف المحاصيل الزراعيّة.

 

وستكون أزمة المناخ مدمّرة بشكل خاص للفئات الاجتماعيّة الأكثر ضعفاً، مثل كبار السنّ والنساء والأطفال والأفراد الذين يعملون في الهواء الطلق تحت درجات حرارة مرتفعة. في الواقع، سيتسبّب تأثير الجزر الحراريّة الحضريّة في زيادة المشاكل الصحّية المُرتبطة بالحرارة في المدن التي يتوقّع أن تكون موطناً لـ 68 في المئة من سكّان الدول العربيّة بحلول العام 2050.

 

وستكون المنطقة أيضاً معرّضة بشكل خاص لخطر ارتفاع منسوب مياه البحر بما أنّ معظم نشاطها الاقتصادي، بما في ذلك الزراعة، يتركّز في المناطق الساحليّة. يعيش حوالي 7 في المئة من سكّان المنطقة على ارتفاع يقلُّ عن خمسة أمتار فوق مستوى سطح البحر، في مناطق معرّضة للفيضانات وتآكل التربة وتملُّحها. وإذا ارتفع مستوى سطح البحر بنحو مترٍ واحدٍ، فسينعكس ذلك على البلدان المنخفضة في الخليج والمناطق الساحليّة في شمال أفريقيا. وحتَى لو ارتفع بنحو نصف متر، فستتأثّر 43 مدينة ساحليّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما قد يؤدّي إلى نزوح أكثر من مليوني شخص من مدينة الإسكندريّة وحدها. تقوم قطر والإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السعوديّة بزراعة أشجار القرم أو المانغروف من أجل حماية المناطق الساحليّة، لكن دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمعظمها لم تطوّر إستراتيجيات متكاملة للتعامل مع ارتفاع منسوب مياه البحر، الذي كغيره من التدابير المناخيّة يعوقه نقص التمويل والقدرات التقنيّة والإرادة السياسيّة.

 

بالإضافة إلى ذلك، سيتسبّب الاحتباس الحراري بنقصٍّ حادٍّ في المياه في منطقة تضمُّ 14 من بين الدول الثلاثة والثلاثين الأكثر معاناة من الإجهاد المائي في العالم. وتشير تقديرات الأمم المتّحدة إلى أنّ 90 في المئة من سكّان المنطقة سيعيشون في بلدان تعاني ندرة في المياه بحلول العام 2025، وحيث لن يتجاوز توافر المياه 500 متر مكعب للفرد سنوياً، وهو ما تعتبره الأمم المتحدة «ندرة شديدة». وقد تواجه بلدان مثل اليمن والعراق، التي دمّرتها سنوات من العنف وغيرها من المشاكل، صراعات على المياه. يبلغ متوسّط نصيب الفرد من المياه في اليمن نحو 198 متراً مكعباً فقط سنوياً، ومن المتوقّع أن ينخفض بنحو الثلث مع تضاعف عدد السكّان مرَّتين بحلول العام 2050. وعلى العراق معالجة الاستهلاك المُفرط للمياه وصراعات مُحتملة على المياه مع الدول المجاورة له وسط توقُّعات مُقلقة بأنّ يجفّ نهرا دجلة والفرات بحلول العام 2040.

 

تضاف هذه التحدّيات إلى تحدِيات اقتصاديّة واجتماعيّة أخرى تواجه المنطقة، وستفاقمها، ممّا يشكّل تهديدات طويلة المدى على صلاحيّتها للسكن. تشير تقديرات البنك الدولي إلى أنّ تغيُّر المناخ قد يتسبّب بنزوح نحو 20 مليون شخص في المنطقة، وتفاقم أزمات اللاجئين القائمة بالفعل مثل الأزمات في السودان وسوريا واليمن. لقد أدّى تغيُّر المناخ إلى انخفاض الناتج المحلّي الإجمالي في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة تراوح بين0,4 في المئة و1,3 في المئة سنوياً. ويُقدّر بعض الخبراء أنّ الناتج المحلّي الإجمالي قد ينخفض بنسبة صاعقة قد تصل إلى 14 في المئة ما لم تُتّخذ تدابير جدّية للتكيُّف.

 

قليل جدّاً ومتأخّر كثيراً؟

على الرغم من هذه التحدّيات الهائلة والحاجة إلى نهجٍ أكثر تنسيقاً على مستوى المنطقة، لم تتّخذ دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلّا القليل من الاستعدادات لمواجهة التغيُّرات المناخيّة. وفي حين اتّخذ عدد من البلدان خطوات أوّليّة من خلال الالتزام بتعهُّدات مناخيّة بموجب اتفاق باريس، وخفض انبعاثات الكربون، ومبادرة الشبكات الخضراء، لا يزال التطبيق غير كاف بسبب نقص الموارد التقنية والتمويل. وقد قدّر البنك الدولي حاجة المنطقة إلى 186 مليار دولار من تمويل المناخ للوفاء بهذه الالتزامات.

 

صحيح أنّ كلفة التطبيق عالية، إلّا أنّ ثمن التقاعس أعلى بكثير. ومن شأن تطبيق السياسات المناخيّة الاستباقيّة أن يتيح الفرصة لتجنُّب الكوارث، في حين أنّ التقاعس عن ذلك قد يفاقم اللامساواة الاجتماعيّة، ويخلق عدم استقرار سياسي، ويزيد خطر نشوب صراعات على الموارد الشحيحة.

 

ما من مسألة أكثر ألحاحاً بالنسبة إلى المنطقة من الأمن المائي للتخفيف من تغيُّر المناخ . وفي حين تتبنّى حكومات بعض الدول تدابير مُتفرّقة مثل تحلية المياه، وسياسات إدارة المياه، وإعادة تدوير المياه، وتنظيم حملات توعية عامّة من أجل معالجة ندرة المياه، تقف حكومات أخرى عاجزة أمام عوائق سياسيَة واقتصاديّة. أثارت التوتُّرات السياسيّة بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سدّ النهضة مخاوف من نشوب صراع على الوصول إلى مياه النيل، بينما دُمّرت قنوات المياه في ليبيا بسبب التوتُّرات السياسيّة. من هنا، على القوى الفاعلة في المنطقة أن تتّخذ إجراءات تعاونيّة عاجلة من خلال الاستثمار في التقنيّات الحديثة وترشيد استهلاك المياه، فضلاً عن بذل جهود دبلوماسية جادّة لحلّ الصراعات على الموارد الطبيعيّة.

 

ينحسر الإطار الزمني المُتاح للتدخّل من أجل حلّ مناخي فعّال. وكما هو الحال الآن، ، دول مجلس التعاون الخليجي مُجهّزة أفضل من غيرها من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للتعامل مع الأزمات المقبلة، وللمفارقة يعود ذلك إلى ثروتها النفطيّة. فسيكون بإمكانها استخدام أنظمة التكييف من أجل حماية سكّانها من موجات الحرّ، ولكن يتوقّع أن تعاني قيوداً ماليّة على المدى الطويل بسبب التحوُّل إلى أنواع أخرى من الوقود أكثر ملاءمة للمناخ. في المقابل، ليس أمام الدول الفقيرحلول قابلة للتطبيق، واليمن هو حالة نموذجيّة، حيث شَلّ الصراع أنظمة الحماية الاجتماعيّة. يكشف هذا التفاوت بين الجيران القريبين عن غيابٍ خطيرٍ لسياسات التكيّف المناخي على مستوى المنطقة، على الرغم من امتلاك كلّ دولة قوانينها الخاصّة في ما يتعلّق بالتنمية المُستدامة.

 

ولعلّ بصيص الأمل هو إدراك الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في المنطقة خطورة الوضع ومسؤوليّتها المُشتركة في معالجة نقاط الضعف المناخيّة الخاصّة بالمنطقة. من المؤسّسات الأكاديميّة إلى المنظّمات غير الحكوميّة وناشطي المناخ، وصولاً إلى الشركات ووسائل الإعلام، يقوم مختلف المعنيين بتعبئة جيل الشباب وتعزيز الوعي ودفع الدول إلى اعتماد سياسات مُستدامة. وتعمل معاهد مثل منظّمة الخليج للبحث والتطوير، إلى جانب مجموعات المجتمع المدني البيئية مثل حركة الشباب العربي للمناخ في قطر وIndyAct في لبنان على الدفع باتجاه مناصرة هذه القضية والتوعية بشأنها وتعزير البحوث المتعلّقة بها. وتحتاج هذه الجهود إلى مزيد من التنسيق والتوليف من أجل تعزيز الحلول المناخيّة المُبتكرة ووضع القضايا البيئيّة ضمن أولويّات جدول الأعمال.

 

وقد يكون لاستضافة الإمارات العربيّة المتّحدة مؤتمر المناخ COP28 رمزيّة، لا سيّما بعد أشهر قليلة من تسجيلها درجات حرارة تتجاوز الخمسين درجة مئوية للمرّة الأولى. يُعدُّ المؤتمر فرصة من أجل بناء تحالف عالمي يعزّز القدرة على التكيُّف مع التغيّرات المناخيّة ويدفع أجندة التكيّف المناخي إلى الأمام. يجب أن يكون مؤتمر المناخ COP28 منتدى لدعم كفاءة استخدام الطاقة، والدفع باتجاه تبنّي معايير بناء المقاومة ضدّ تغيُّر المناخ، والضغط من أجل زيادة المساحات الخضراء للتخفيف من الجزر الحراريّة الحضريّة، وتعزيز تبادل المعرفة ونقل التقنيّات المُتعلّقة بالمناخ.

 

وفي ظلّ ارتفاع درجات الحرارة، تزداد أهمية تبنّي سياسات أكثر فعّاليّة للحدّ من تداعيات الاحتباس الحراري المُدمّر، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي خير دليل على ذلك.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العمل المناخي
البلد: الإمارات العربية المتحدة، السودان، المملكة العربية السعودية، اليمن، سوريا، قطر

المؤلف

زميل زائر مبتدئ
عبد الفتاح حامد علي هو زميل زائر مبتدئ في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّج مؤخراً من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملاً شهادة الماجستير في السياسات العامة.   تشتمل مواضيع بحثه على التنمية الاقتصادية، والسياسات العامة، والتحوّلات في الطاقة، والاستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.   كان في السابق باحثاً متدرّباً في… Continue reading «الغليان العالمي» حقيقة قاتمة وحكومات المنطقة عليها أن تتحضّر