مؤيّدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلوّحون بالأعلام الوطنية وأعلام حزب العدالة والتنمية في فعالية لحملته الانتخابية قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستُجرى في 14 مايو ، في اسطنبول، تركيا، 9 مايو 2023. رويترز / أوميت بكتاس

الانتخابات الرئاسيّة قد تغيّر مكانة تركيا الإقليمية

تركيا على بعد يومين من الانتخابات الأكثر أهمّية في تاريخها منذ عقودٍ. ما الذي يجعل هذا السباق إلى الرئاسة بهذه الأهمية وكيف سينعكس التغيير في القيادة على سياسة تركيا الخارجية وعلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

11 مايو، 2023
أوزغي غينج

في 14 مايو الحالي، ستجري تركيا الانتخابات الأكثر أهمّية في تاريخها منذ عقودٍ والتي سيتردّد صداها إلى خارج حدودها. لقد هيمن رجب طيِّب أردوغان على سياسة البلاد على مدار 21 عاماً، وأعاد تشكيل هويّتها وآفاقها في الداخل والخارج، وأصبح السياسي التركي الأكثر شهرة على الساحة العالميّة منذ نحو قرنٍ. مع ذلك، شهد أسلوب أردوغان في القيادة وسياسات حزب العدالة والتنمية تغيّراً كبيراً على مرّ السنين، إذ سرعان ما تحوّل سعي الحزب الأوّلي لإدخال إصلاحات تقدّمية تحدّ من سلطة الدولة، إلى جهدٍ للحفاظ على سلطة مطلقة للدولة. وتحوّل تبنّيه السابق للشمولية والتعاون مع التيّارات الاجتماعية والسياسية الأخرى إلى نهج أكثر انطوائية وقومية، الأمر الذي نفّر شرائح شعبية واسعة دعمت الحزب وزعيمه في السابق.

 

أيامٌ قليلة تفصل أردوغان عن التحدّي الأهمّ في مسيرته السياسية والذي يضعه في مواجهة تحالف مُعارض واسع ومتنوّع أيديولوجياً يسعى إلى إنهاء حكمه الذي دام لعقدين. فما الذي أوصله إلى هذا الاستحقاق الصعب؟ وكيف سينعكس التغيير في القيادة التركية على سياستها الخارجية وعلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

 

لماذا أردوغان في موقف صعب؟

 

هذه هي الانتخابات الأولى منذ العام 2002 التي تهدِّد بإفقاد أردوغان السلطة: انتخابات تأتي في أعقاب زلزال مُدمِّر، وفي وقت ترزح البلاد تحت أوضاع إقتصادية تزداد صعوبة ويواجه الناخبون غولَ التضخّم ومستويات خطيرة من البطالة وخوفاً من المستقبل.

 

لقد ظهرت تصدّعات في هيمنة حزب العدالة والتنمية على السياسة التركية في الانتخابات البلدية قبل ثلاث سنوات، عندما فاز حزب الشعب الجمهوري بعددٍ من المدن الرئيسية الكبرى، ومن ضمنها اسطنبول وأنقرة. وتعمّقت هذه التصدّعات في مارس الماضي، عندما أجمعت ستة أحزاب مُعارضة، من حزب الشعب الجمهوري العلماني إلى حزب العدالة والتنمية الديني، على دعم ترشيح زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو لمنصب الرئاسة. يؤشِّر دعم “تحالف الأمّة” لأوغلو إلى تماسك الجبهة الموحّدة ضدّ أردوغان، وهو ما عزّز آمال المعارضة لإنهاء حكم حزب العدالة والتنمية المستمرّ منذ عشرين عاماً.

 

بصرف النظر عن مرشّحي حزب “الخير” (IYI)، يخوض جميع المرشّحين البرلمانيين المنافسة على لوائح حزب الشعب الجمهوري. وهذا أمرٌ لافت لأنّ بعض الأحزاب المنضوية في التحالف لديها تاريخ من الصراع مع حزب الشعب الجمهوري العلماني القوي، حزب مصطفى كمال أتاتورك مؤسِّس تركيا الحديثة. ويشير الانضواء ضمن لوائحه إلى وضع هذه الخلافات جانباً من أجل الإطاحة بحزب العدالة والتنمية. إذا فاز التحالف في الانتخابات، فسوف تتألّف الحكومة الجديدة من مزيج متنوّع من الجهات السياسية العلمانية والقومية والليبرالية والمحافظة والدينية. إنّ نجاح هذه المجموعة المتنوّعة في تشكيل تحالف، قد دفع الكثير من المراقبين السياسيين إلى الاستنتاج بأنّ أمامها فرصة حقيقية لهزم حزب العدالة والتنمية.

 

ومع ذلك، لم ينضمّ جميع خصوم حزب العدالة والتنمية إلى التحالف. يطرح حزب الشعوب الديمقراطي اليساري، المؤيِّد للأكراد، مرشّحيه الخاصين ليضمن حضوراً قوياً له في المجلس التشريعي. من اللافت أيضاً غياب مرشح رئاسي كردي لا سيّما بعد أن حصل الزعيم الكردي المسجون صلاح الدين دميرتاش على أكثر من 8 في المئة من الأصوات الشعبية في انتخابات 2018 الرئاسية. وفي حين بقي حزب الشعوب الديمقراطي خارج التحالف الذي يقوده كيليقدار أغلو، أعرب دميرتاش عن دعمه لزعيم حزب الشعب الجمهوري الذي تبنّى خطّاً أكثر ليونة في قضايا الحرّيات الثقافية والسياسية الكردية. بالإضافة إلى ذلك، إنّ موقف أوغلو من حرّية إظهار الرموز الدينية علناً، مثل الحجاب، ساعده على تكوين علاقة إيجابية مع الناخبين المتدينين، ومن ضمنهم بعض الإسلاميين السياسيين.

 

لقد أظهرت الانتخابات الأخيرة الدعم الشعبي القويّ لوحدة القوى المعارضة. بعد أن فشلت المعارضة في هزيمة أردوغان في الانتخابات الرئاسية لعام 2018، ويعود ذلك جزئياً إلى ترشيحها لعددٍ من المرشّحين. في المقابل، أتت انتصاراتها على حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية في مارس 2019، بما في ذلك عدد من معاقله، إلى حدٍّ كبير نتيجة استراتيجية الاتفاق على مرشّحين مشتركين.

 

صحيح أنّ اتحاد المعارضة وراء ترشيح منافس واحد قد ترجِّح كفّة الميزان لصالحها، إلّا أنّ التغلّب على أردوغان يبقى تحدّياً كبيراً. فهو سياسي مُتمرّس صمد في وجه عواصف سياسية متعدّدة منذ العام 2002، ويتمتّع بتأييد قويّ وحقيقيّ من شريحة واسعة من الناخبين. وعلى الرغم من زخم التحالف المعارض الذي نظّم تجمّعات في جميع أنحاء البلاد، لا يمكن حتّى الآن التنبؤ بالنتائج، فالناخبون في أغلب الأحيان لا يفصحون عن تفضيلاتهم الحقيقية لمنظّمي استطلاعات الرأي. وفي حين أنّ الكثير من ناخبي حزب العدالة والتنمية يشعرون بعدم الارتياح تجاه حزبهم، من المستحيل معرفة ما إذا كان ذلك سيُترجم بانشقاقات تجاه المعسكر الآخر. وحدها نتائج الانتخابات النهائية ستكشف ما إذا كانت قاعدة أردوغان الشعبية قد تضاءلت بالفعل أم لا.

 

أمّا المعارضة، فتخترقها أيضاً نقاط ضعف بارزة. لقد أشار بعض المحلّلين إلى أنّها تفتقر إلى برنامج واضح لكيفية معالجة المشكلات الاقتصادية المُلحّة في تركيا، ولا تزال تعهّداتها بشأن السياسة الخارجية عبارة عن نظريات مُجرّدة، وخالية من أية تفاصيل مُعمّقة، وغير مجرَّبة في الواقع المُعقّد لعالم مُتعدّد الأقطاب كالذي نشهده حالياً. زد على ذلك أنّ حملتها الانتخابية تخفتها الإضاءة الإعلامية المحدودة في وسائل الإعلام الرئيسية الخاضعة بمعظمها لسيطرة الحكومة والضغط السياسي المكثّف.

 

في الواقع، لقد خلقت قبضة الحكومة الحالية الحديدية تجاه المعارضة قلقاً متزايداً حيال وضع الديمقراطية في تركيا بشكل عام. فقد شهدت البلاد حملة قمع مُكثّفة على وسائل الإعلام واعتقالات طالت ناشطين في المجتمع المدني وشخصيات إعلامية وسياسية معارضة، وحتّى توجيه تهم الإرهاب لإسكات الأصوات المعارضة. وقد أدّت التغييرات الدستورية الكاسحة في العام 2018 إلى تركيز السلطة بين يدي رئاسة الجمهورية وإلغاء الضمانات التي تكفل الفصل العادل والفعّال بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

 

وتنعكس هذه الاتجاهات المُقلقة كذلك على مكانة تركيا على الساحة الدولية والإقليمية. وسيكون من الصعب كثيراً أن تحافظ البلاد على دورها كمستثمر ووسيط إقليمي رئيسي، ومركز استقطاب للمغتربين في المنطقة، إذا ما استمرّت أسس نظامها الديمقراطي في التآكل.

 

تركيا والجوار الإقليمي

 

قد يؤدّي رحيل أردوغان من السلطة إلى تغيير جذري في علاقات تركيا مع شركائها الدوليين، بدءاً من التعديلات في أساليبها الدبلوماسية إلى التبدّلات في السياسات. وسيكون لذلك عواقب وخيمة على دور البلاد على المسرح العالمي. وقد تعتمد هذه التغييرات في طبيعتها على عدد من العوامل المُعقّدة، ولكن يمكن استخلاص بعض التوقّعات من تصريحات تحالف المعارضة التركي.

 

أصدر تحالف الأحزاب الستة في يناير الماضي مذكّرة تحدِّد سياساته، وتشدّد على “المؤسّسية” بدلاً من “المصلحة الشخصية” في السياسة الخارجية. وقد دعا أعضاء التحالف للعودة إلى التشاور في عملية صنع القرار، والابتعاد عن نهج أردوغان المشخصن. وتكشف تصريحات أخرى عن مقاربة تقوم على مزيج من المواقف الشعبوية والموجّهة نحو الغرب، تدفع إلى اعتماد سياسة خارجية أكثر توازناً وأقلّ عدوانية تعطي الأولوية لعلاقات تركيا مع أصدقائها القدامى: أوروبا والولايات المتّحدة وحلف شمال الأطلسي. وتريد المعارضة أيضاً إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وتقليص انخراط تركيا في الشأن السوري.

 

ينسجم كلّ ذلك مع المواقف السابقة لحزب الشعب الجمهوري وحزب الخير اللذين لطالما انتقدا سياسة أردوغان الخارجية، لا سيما مواقفه المجابهة للغرب، وعلاقته الوثيقة مع روسيا، وتعاملاته الغامضة مع الدول الخليجية، بالإضافة إلى الوجود العسكري التركي في الصومال وقطر، والتدخّلات في سوريا وليبيا.

 

في المقابل، يبدو أردوغان واثقاً من استراتيجيته الخارجية التي يعتقد أنّها جعلت تركيا أكثر استقلالية، ومنحتها نفوذاً أكبر في الشرق الأوسط وخارجه. ولطالما تبنّى أردوغان موقفاً حازماً ومستقلّاً سعياً منه إلى إبراز نفوذ تركيا وحماية مصالحها بدلاً من اتباع حلفائها الغربيين التقليديين مثل الولايات المتحدة وأوروبا. ويدافع مؤيّدو أردوغان عن هذه المقاربة مشدّدين على أنّها قد منحت أنقرة مزيداً من المرونة لتحقيق أهدافها في الخارج، لا سيما في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث عزّزت مكانتها كقوّة إقليمية. وقد طوّرت تركيا أيضاً صناعتها الدفاعية، ممّا قلّل من اعتمادها على المورّدين الأجانب، ومكّنها من أن تصبح مصدّراً للأسلحة، ولا سيّما الطائرات من دون طيّار.

 

لكن كلّ هذا، وخصوصاً العلاقات المتنامية مع روسيا والصين، أثار مخاوف حلفاء تركيا في الناتو. ولطالما كانت علاقاتها مع أكبر شريك تجاري لها، أي الاتحاد الأوروبي، متوتّرة بسبب تعليق محادثات انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وأزمات سياسية أخرى.

 

في حال أطاحت المعارضة بأردوغان، قد يتغيّر كل ذلك وسيتعيّن على الجميع التأقلم مع هذا الواقع الجديد. بالتالي، سيكون على الدول التي تربطها علاقات مع تركيا والتي استفادت من مقاربة أردوغان الشخصية إزاء سياسة تركيا الخارجية إعادة توجيه مكانتها ومواقفها نحو حكومة جديدة ذات قنوات مؤسّسية جديدة وأساليب مختلفة في صنع السياسات. قد تسعى أحزاب المعارضة إلى تطبيع العلاقات مع الغرب، لكن يبقى أن نرى ما إذا كانت ستحاول الحفاظ على مكانة تركيا الحالية كجهة فاعلة إقليمية فريدة أو التراجع عنها، والتي يمكن القول إنّها إرث أردوغان الأهم. قد تكون دولة يديرها تحالفٌ سياسيٌ واسعٌ له مصالح وأيديولوجيات متنوّعة مختلفةٌ تماماً عن الدولة التي شكّلها رجل واحد على مدى عقدين من الزمن. لكن كلّ هذا يظلّ مجرد تخمينات حتى تأتي نتائج الانتخابات التركية التي قد تكون الأكثر أهمّية لجيل كامل.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الإنتخابات، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العلاقات الإقليمية
البلد: تركيا، سوريا

المؤلف

عملت أوزغي كخبيرة بحوث وسياسات في مجالات الإصلاح السياسي وبناء المؤسسات والتنمية الإقليمية في أبرز مراكز البحوث في تركيا وعدد من المنظمات الدولية. وكانت سابقاً مديرة البحوث في مركز دراسات السياسة العامة والديمقراطية في تركيا، وتقيم حالياً في الدوحة، قطر.