مواطنون يشترون التمر في سوق يبيع المواد الغذائية بأسعار مخفّضة، بعد ارتفاع الأسعار بشكل حاد إثر انخفاض قيمة الجنيه المصري، في الجيزة - مصر، 28 يناير 2023. رويترز / هناء حبيب

أزمة مصر الاقتصادية تعمّق الحاجة إلى الإصلاحات

في ظل أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد، يشهد المصريون انهيار عملتهم وارتفاعاً كبيراً في أسعار المواد الغذائية، في حين يضع قرض صندوق النقد الدولي الجديد ضغوطاً على المسؤولين الحكوميين لإصلاح الاقتصاد، ولو تطلّب ذلك مواجهة المصالح الاقتصادية الهائلة للجيش. فهل ستكون هذه الأزمة الدافع لتحقيق التغيير؟

15 فبراير، 2023
عادل عبدالغفار

يعيش المصريون في أوضاع اقتصادية مُذرية. منذ أوائل العام 2022، فقد الجنيه المصري أكثر من 40 في المئة من قيمته مقابل الدولار الأمريكي، وارتفعت أسعار السلع المستوردة بشدّة، في حين ضاعفت تداعيات الحرب في أوكرانيا الآثار المُترتّبة على شروط الإنقاذ الصارمة التي وضعها صندوق النقد الدولي. يعيش ثلث المصريين أصلاً تحت خطّ الفقر ويطال التأثير المُدمّر للتضخّم السريع أكثر شرائح المجتمع حرماناً. وفيما تندثر الطبقة الوسطى في مصر بسرعة، أصبحت السلع الأساسية مثل البيض واللحوم من الكماليات المُتاحة لقلّة تتمتّع بامتيازات. لمواجهة التحدّيات المُتزايدة، تحتاج مصر إلى تحفيز القطاع الخاص من خلال الإصلاحات الهيكلية والنقدية والإدارية الموعودة. 

 

قبل تفشّي جائحة فيروس كورونا المُستجدّ والحرب الروسية الأوكرانية، كان الاقتصاد المصري يحقّق نموّاً قوّياً نظراً لاستثمار الحكومة في الكثير من مشاريع البنية التحتية الكبرى. مع ذلك، مُوِّل الجزء الأكبر من هذا النموّ بالديون، ممّا أدّى إلى إثقال البلد بواحدة من أعلى نسب الدَّيْن إلى الناتج المحلّي الإجمالي في العالم. للحصول على الدولارات، كان على الحكومة الاعتماد على ما يُسمّى بالأموال الساخنة من المشتثمرين الأجانب الذين يشترون السندات الحكومية ويراهنون على العوائد المُرتفعة التي يمكنهم تحقيقها من الأسواق الناشئة. 

 

يُضاف إلى مواطن الضعف في مصر أنّها أكبر مستورد للقمح في العالم، ما يعني أنّها تأثّرت بشدّة بالحرب الروسية الأوكرانية في أوائل العام 2022، التي أدّت إلى ارتفاع الأسعار العالمية للحبوب بشكل حادّ. تعاني مصر بالأساس نقصاً في العملات الأجنبية، والآن مع هروب المُستثمرين من البلاد وبيع سندات الخزينة التي يحملونها، فقد أخرجوا معهم نحو 20 مليار دولار أمريكي. زادت هذه العوامل الضغط على الجنيه المصري، ما دفع محافظ البنك المركزي إلى الاستقالة. 

 

ما زاد الطين بلّة هو إعلان عدد من المصارف المصرية منح فوائد بنسبة 25 في المئة على الودائع لتشجيع الإدّخار بالعملة المحلّية. فبدلاً من تهدئة السوق، أخافت هذه الأخبار المستثمرين وأدّت إلى انخفاض إضافي كبير في قيمة العملة. 

 

وقد حاولت الحكومة تهدئة الأسواق والشعب. في الشهر الماضي، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي المصريين إلى عدم القلق بشأن المشكلات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، وأكّد على أنّ الحكومة تبذل كلّ ما في وسعها للتعامل مع الأزمة. لكن بمعزل عن الخطاب الرسمي، هناك بالفعل ما يدعو للقلق. 

 

التحدّيات أمام القطاع الخاص 

 

في يناير الماضي، وافقت الحكومة على سلسلة من الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي للموافقة على منحها قرضاً بقيمة 3 مليارات دولار. وتتضمّن حزمة الشروط الانتقال الدائم إلى نظام سعر الصرف المرن، وخصخصة الشركات الحكومية، ولجم الاستثمار العام في مشاريع البنية التحتية الكبرى. 

 

وتؤيّد الولايات المتّحدة هذه الصفقة بشدّة وفقاً لوزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي قصد القاهرة في زيارةٍ سريعة في يناير الماضي. وقال إنّ خطط الخصخصة التي وضعتها الحكومة “مهمّة”، لكنّه ألمح إلى أنّ التنفيذ سيكون صعباً، من دون التعليق على الدور الاقتصادي للجيش. 

 

ينطوي جوهر الصفقة على الدفع باتجاه إحياء القطاع الخاص لخلق المزيد من الوظائف وتحقيق النموّ. لكن القول أسهل من الفعل، نظراً لدور الدولة الكبير، وتحديداً الجيش، في الاقتصاد على مدار عقود. تشير التقديرات إلى أنّ الجيش المصري يتحكّم بنحو نصف الاقتصاد، حتّى لو تصرّح الحكومة إنّ هذه النسبة تتراوح 1,5 إلى 2 في المئة فقط. 

 

من المستحيل معرفة النسبة الحقيقية بالنظر إلى غياب الشفافية في الدولة المصرية. لكن ما هو واضح هو الدور العسكري الضخم الذي يشكّل عقبة أمام القطاع الخاصّ، ويخيف المستثمرين الأجانب، ويمنح الشركات المملوكة للجيش مزايا غير عادلة، من ضمنها إعفاءات ضريبية كبيرة. 

 

لقد أثارت قبضة الجيش على الاقتصاد انتقادات مُعلّقين سعوديين بارزين، من ضمنهم تركي الحمد، الذي وصف مصر بأنّها “بلد البطالة، والأزمات الاقتصادية والسياسية، والمعضلات الاجتماعية، والتقلّبات الراديكالية العنيفة”. ونظراً لعلاقات الحمد الوثيقة مع الحاكم السعودي بأمر الواقع ولي العهد محمد بن سلمان، يشير ذلك إلى أنّ الدولة الخليجية الكبرى، التي تقدّم دعماً حيوياً لنظام السيسي، ربّما بدأت تفقد صبرها مع الرئيس المصري. 

 

بموجب قرض الإنقاذ الجديد الممنوح لمصر، يضع صندوق النقد الدولي تحدّياً من خلال المطالبة بخصخصة الشركات المملوكة من الجيش بشكل مباشر أو غير مباشر. وهو ما يتصدّى لمحاولات الجيش على مدى العامين الماضيين لتوسيع قبضته على الاقتصاد. 

 

مع ذلك، لا يُعدُّ الجيش العقبة الوحيدة أمام القطاع الخاص، إذ إنّ رجالَ الأعمال المصريين مستهدفون أيضاً. ففي العام 2021، سُجِن صفوان ثابت، مؤسّس شركة جُهَينةللصناعات الغذائية، أكبر شركة لمنتجات الألبان والعصائر في مصر، مع ابنه بتهم تتعلّق بصلات مزعومة بجماعة الأخوان المسلمين. وتردّدت شائعات بأنّ اعتقالهما هدف إلى الضغط على عائلة صفوان للتنازل عن أصولها لصالح الدولة، وهو ما بعثَ برسائل إنذار إلى مجتمع الأعمال المصري وكذلك المُستثمرين العالميين. 

 

قاوم الرجلان الضغوط المُمارسة لبيع شركاتهما، ثمّ أُطلِق سراحهما ربّما كإشارة إلى صندوق النقد الدولي ولتهدئة المُستثمرين. وعلى الرغم من الإفراج عنهما، إلّا أنّ قضيتهما سلّطت الضوء على سهولة استهداف الدولة لرجال الأعمال. وربّما خوفاً من مواجهة سيناريو مماثل لما تعرّضت له شركة جهينة“، نقلت بعض العائلات المصرية ملكيّة أصولها إلى كيانات ماليّة في الخارج لحمايتها من عمليات الاستحواذ المُحتملة من الدولة في حال لم يعد مَرضيّاً عنها. 

 

تعمل كلّ هذه الديناميكيات ضدّ نشوء قطاع خاصّ قوي قادر على خلق فرص عمل ومساعدة الجنيه على استعادة بعضاً من قيمته. لتشجيع القطاع الخاص حقّاً، تحتاج الحكومة إلى الشروع في إصلاحات هيكلية ونقدية وإدارية من ضمنها إصدار قانون موحّد للصناعة. وهو ما يتطلّب مراجعة التشريعات الصناعية التي يعود بعضها إلى ستينيات القرن الماضي. يجب على الحكومة أيضاً إقناع روّاد الأعمال بإمكانية الاستثمار بحرّية وأمان في البلاد، لا سيّما من خلال التخلّي عن تكتيكاتها القسرية ضدّ رجال الأعمال. 

 

أخيراً، وربّما الأهم، تحتاج الحكومة المصرية إلى الوفاء بوعودها لتخفيف قبضة الجيش على الاقتصاد. وبالنظر إلى مقاومة الجيش لمثل هذه الخطوات، سيكون هذا الإصلاح الأكثر تحدّياً على الإطلاق من الناحية السياسية. لكن مع تفاقم مشاكل البلاد، سيتعيّن على النظام الموافقة على بيع المزيد من الأصول لإدراجها في البورصة. صحيح أنّ الكلام عن إصلاحات مماثلة جارٍ منذ سنوات، ولكن نظراً للأوضاع الاقتصادية السيئة التي يمرّ بها الاقتصاد المصري اليوم، تشتدّ الحاجة أكثر للتحرّك نحو الإصلاح. 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاقتصاد السياسي، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: مصر

المؤلف

زميل ومدير برنامج
عادل عبد الغفار هو زميل ومدير برنامج السياسة الخارجية والأمن في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. كان سابقاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية بمعهد بروكنجز وزميلاً في مركز بروكنجز الدوحة حيث كان مديراً للبحوث بالإنابة. وهو أيضاً أستاذ غير متفرّغ في كلية الشؤون الدوليّة بجامعة جورجتاون في قطر. عبد الغفار متخصّص في الاقتصاد… Continue reading أزمة مصر الاقتصادية تعمّق الحاجة إلى الإصلاحات