احتجاجات في معتقل للأسرى يبيّن إلى أي مدى تجرّد إسرائيل الفلسطينيين من إنسانيتهم

تتكشّف الكثير من الأمور بعد الاحتجاجات الشعبية في إسرائيل على خلفية اعتقال جنود إسرائيليين بتهمة اغتصاب فلسطيني في معسكر اعتقال مُخصّص للأسرى من قطاع غزّة.

14 أغسطس، 2024
معين رباني

في صباح يوم الاثنين 29 يوليو، وصلت فرقة من الشرطة العسكرية الإسرائيليةالوكالة المسؤولة عن مراقبة القوى الأمنية إلى سدي تيمان، وهي قاعدة عسكرية إسرائيلية في صحراء النقب حُوِّلت إلى معسكر للأسرى الفلسطينيين من قطاع غزّة. وحضرت الشرطة العسكرية لاعتقال تسعة جنود من قوات الاحتياط يخدمون في المعسكر، بعدما سُرِّبت معلومات عن انتهاكات تحصل في داخله منذ أشهر عدّة.  

 

الجنود مطلوبون لتورّطهم في اعتداء جنسي على سجين نُقِل إلى المستشفى قبل أسابيع بسبب إصابات خطيرة في الشرج. وعلى الفور، ظهر السياسيون الإسرائيليون على وسائل الإعلام للتنديد بالاعتقالات، وأعلنوا الجنود المتّهمين أبطالاً كونهم عذّبوا سجناء فلسطينيين، ودعوا أنصارهم إلى اقتحام معتقل سدي تيمان احتجاجاً على الاعتقالات. لم يكن الحشد عادياً بل ضمّ وزراء في الحكومة وأعضاء في البرلمان وجنوداً يرتدون الزيّ العسكري. 

 

وفي وقت لاحقٍ من اليوم نفسه، تكرّرت هذه المشاهد في قاعدة بيت ليد العسكرية، حيث نُقِل الجنود للتحقيق معهم. وعلى الرغم من أنّ اقتحام السجن أو الخروج منه يُعتبر انتهاكاً خطيراً للقانون الإسرائيلي، لم يتم اعتقال أو حتى استجواب أي شخص حتى الآن 

 

ويجمع معتقل سدي تيمان بين سجن أبي غريب الأمريكي في العراق وزنزانة للغستابو. وبالاستناد إلى شهادات سجناء سابقين وموظّفي السجن، فقد وثّقت مجموعة من الانتهاكات بما فيها التعذيب، وسوء التغذية والجفاف الشديدين، وبتر الأطراف نتيجة ربطها عمداً ولوقت طويل بأربطة بلاستيكية مُحكمة لمنع وصول الدم إليها، فضلاً عن إجراء عمليات جراحية من دون مخدّر يجريها طلاب طبّ غير مؤهّلين. لقد قُتِل عشرات الفلسطينيين في المعتقل نتيجة التعذيب أو الحرمان من الاحتياجات الأساسية مثل أدوية الأمراض المُزمنة. 

 

والجدير بالذكر أنّ التعذيب، وهو جريمة حرب، قانوني في «حالات استثنائية للغاية» في إسرائيل وفق ما أكّدته المحكمة العليا، ولا سيما في العام 1987. فضلاً عن ذلك، تعتبر إسرائيل الفلسطينيين مقاتلين غير شرعيين لا يتمتّعون بحماية القانون العرفي في أمور مُماثلة. وبالإضافة إلى ذلك، انخرط كبار القادة الإسرائيليين في حملة منهجية لشيطنة الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم وخصوصاً المُشتبه في انتمائهم لحماس، وهو ما يعني إعطاء ضوء أخضر لتعذيبهم واغتصابهم وقتلهم. 

 

لقد طُلب من الجنود الموقوفين أن يفعلوا ما يحلو لهم من انتهاكات بحقّ الفلسطينيين، بعد أن طمئنوا أنّهم سيفلتون من العقاب كالعادة. بالتالي، يمكن فهم استغرابهم عندما أبلِغوا بتوقيفهم بسبب سلوك اعتُبر مقبولاً رسمياً ومنهجياً. 

 

وتعكس هذه القضية أيضاً تغيّرات أعمق داخل إسرائيل. من المسلّم به أنّ الجيش الإسرائيلي لم يكن يتمتع بسمعة طيبة من حيث انضباطه، ولكنّه شكّل المؤسّسة المركزية للدولة والمجتمع الإسرائيليين.  

 

وعلى هذا الأساس، وُصِفَت إسرائيل بأنّها جيش له دولة وليس دولة لها جيش. ولكن هذا ما بدأ يتغيّر. وكما يقول جيفري أرونسون، فقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور طبقة جديدة من السياسيين الإسرائيليين، وأبرزهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. وعلى عكس الكثير من أسلافهما، لم يدخلا إلى عالم السياسة وينجحا فيه بفضل مسيرتهما العسكرية، بل من خلال معارضتهما للمؤسّسة العسكرية الإسرائيلية وتقويض شرعيّتها. والواقع أنّهما لا يستسيغان الاعتماد على قوات الجيش النظامي، بل يفضّلان الميليشيات والغوغاء.  

 

لم يكن 29 يوليو نقطة تحوّل بقدر ما أنّه دليل واضح على أنّ هذا التحوّل داخل إسرائيل يحدث ويكتسب زخماً سريعاً. وبالتالي، لا يجب الاستغراب من ظهور هذه الطبقة دفاعاً عن العنف الجنسي ضدّ الفلسطينيين. وإلى ذلك، تبرز عناصر كثيرة أخرى جديرة بالملاحظة في هذه المسألة، وليس أقلّها اعتبار كلّ اتهام اعتراف بذاته. فضلاً عن احتلال وزراء الحكومة وأعضاء البرلمان مرتبة أعلى في الأولوية مقارنة بموظّفي وكالة الأمم المتّحدة للاجئين الفلسطينيين المتهمين زوراً. 

 

 

إفلات إسرائيل من العقاب بموجب القانون الدولي 

 

ينمو قلق داخل إسرائيل من استمرارها بالإفلات من العقاب بسبب ارتكاباتها بحقّ الشعب الفلسطيني. وكما أشار ديمي ريدر، فقد أكّد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، في إدانته لأعمال الشغب، أنّ تحقيقات الشرطة العسكرية ضرورية لحماية الجنود الإسرائيليين «في الداخل والخارج … والخارج يعني لاهاي»، حيث مقرّ المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. وبفضل الجهود التي بدأتها بريطانيا زاعمة أنّ سلطة المحكمة الجنائية الدولية تقتصر على التحقيق مع الفلسطينيين ومقاضاتهم حصراً، سمحت المحكمة بتقديم طعون مختلفة بشأن صلاحياتها القضائية لتطال الجرائم الإسرائيلية التي ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. 

 

وطرحت ألمانيا، الدولة الأكثر خبرة بارتكاب الجرائم المنصوص عنها في نظام روما، مجموعة من الحجج المُضلّلة، ومن ضمنها أنّ المحكمة الجنائية الدولية يجب ألّا تصدر أوامر اعتقال إلى حين إكمال إسرائيل جرائمها ضد الشعب الفلسطيني وإنهاء مهمّتها. 

 

أما الحجّة الأخرى فترتبط بـ «التكامل»، وهو المبدأ الذي يمكّن المحكمة الجنائية الدولية من إجراء ملاحقات قضائية بعد فشل الهيئات القضائية الوطنية في ذلك. وفي مديحها للقضاء الإسرائيلي، تتجاهل برلين حقيقة أن كلّ دراسة مستقلّة أجريت عن القضاء الإسرائيلي في ما يتعلّق بالجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون ضدّ الفلسطينيين خلصت إلى أنّ الدور الأساسي لهذا الجهاز كان تمكين إسرائيل من ارتكاب الجرائم وشرعنتها وتبييضها. وحتى لو لم تكن هذه الحال، فإنّ مبدأ التكامل ينصّ على ضرورة تولّي القضاء الوطني التحقيق بشكل موثوق، وإذا لزم الأمر، مقاضاة الأفراد أنفسهم وإدانتهم عن الجرائم نفسها المتهمين بها من المحكمة الجنائية الدولية.  

 

بعبارة أخرى، لن تكون الجهود اليائسة التي تبذلها ألمانيا دفاعاً عن النظام الإسرائيلي الإبادي ذات فائدة لنتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت. لكن هاليفي، ممثّل النخبة العسكرية التقليدية في إسرائيل، يرى المستقبل القاتم. ولا يريد هو ورفاقه الضباط أن يتقاسموا مصير نتنياهو وغالانت، ولا الصعوبات الكثيرة التي قد تترتّب على ذلك، حتى لو لم يتم اعتقالهم أو التحقيق معهم. ولذلك يختلقون حجّة لتطبيق مبدأ التكامل. في مجتمع عقلاني، كان هاليفي ليحظى بالإشادة على بصيرته ويُنتقد لانتظاره طويلاً قبل أن يتصرّف. ولكن المجتمع الذي يثور فيه وزراء في الحكومة وأعضاء في البرلمان وجنود بالزيّ الرسمي وحشد من الغوغاء في موقعين منفصلين في يوم واحد دفاعاً عن الاعتداءات الجنسية الجماعية لا يمكن اعتباره مجتمعاً عقلانياً.  

 

بالفعل، ظهرت في الأيام الأخيرة أدلّة موثّقة بالفيديو على الاعتداءات الجنسية المرتكبة في سدي تيمان. وفي هذا السياق، لعلّه من المناسب التذكير بما قاله الحاخام الأكبر لقوات الدفاع الإسرائيلية قبل سنوات عن أنّ الاغتصاب سلاح حرب مشروع. وإذا بدا ذلك مماثلاً لتصريح من داعش، لا بدّ من إخفاء الأمر عن واشنطن. وكما كان متوقّعاً، ردّ المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر على هذه الأحداث مطالباً إسرائيل بالتحقيق في الأمر بنفسها. 

 

نُشر هذا المحتوى في الأصل على موقع إكس. ثمّ عُدِّل وحرِّر على شكل مقالة. 
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاحتجاجات والثورات
البلد: فلسطين

المؤلف

زميل غير مقيم
 معين رباني هو زميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وهو أيضاً باحث ومحلّل ومعلّق متخصّص في الشؤون الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي، بالإضافة إلى قضايا الشرق الأوسط المعاصر.   ومن بين المناصب التي شغلها ربّاني، كان المسؤول الرئيسي للشؤون السياسية في مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، ورئيس قسم الشرق الأوسط في مؤسسة… Continue reading احتجاجات في معتقل للأسرى يبيّن إلى أي مدى تجرّد إسرائيل الفلسطينيين من إنسانيتهم