مسلمون شيعة يضيئون الشموع في مسجد في تشيناي في 22 مايو 2024 في وفاة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي الذي قضى في حادث تحطّم طائرة هليكوبتر. (وكالة الصحافة الفرنسية)

إيران بعد رئيسي

في خضم التوترات الإقليمية، يثير حادث تحطّم مروحية الرئيس الإيراني التساؤلات حول مستقبل سياسة إيران الداخلية والخارجية.

23 مايو، 2024
حميد رضا عزيزي

في 19 مايو الجاري، توفي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، برفقة وزير خارجيّته حسين أمير عبد اللهيان، بشكل مأساوي في حادث تحطّم طائرة هليكوبتر، كانت في طريقها إلى حفل في مقاطعة أذربيجان الشرقية الجبلية عندما واجهت ظروفاً جوّية قاسية، أدّت بداية إلى ما وصف بـ «الهبوط الصعب». وعلى الرغم من جهود الإنقاذ السريعة، أعاق بُعْد موقع تحطّم المروحية عمليات الإنقاذ الفورية، ليتمّ لاحقاً تأكيد خبر وفاة رئيسي ومرافقيه على الفور بعد اصطدام المروحية.

 

أثار هذا الحادث غير المسبوق تكهّنات كبيرة بشأن المسار المستقبلي لسياسة إيران الداخلية والخارجية. وفي الواقع، لا يوجد أسوأ من هذا التوقيت لوقوع الحادث بالنسبة إلى الحكومة الإيرانية التي تواجه تحدّيات داخلية وخارجية سترسم بلا شك معالم مشهدها السياسي في المستقبل القريب.

 

على الصعيد الداخلي، تواجه إيران أزمة شرعية يغذّيها سخط شعبي واسع، تجسّد في احتجاجات كبيرة على مدى العامين الماضيين أبرزها حركة «المرأة، الحياة، الحرية»، إلى جانب أشكال مختلفة من العصيان الاجتماعي. على سبيل المثال، شهدت الانتخابات البرلمانية الأخيرة أدنى نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، إذ شارك فيها أقل من 40 في المئة من الناخبين المؤهّلين. وفي طهران، أفادت تقارير أنّ نسبة المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات لم تتجاوز 8 في المئة. وهذا مؤشّر إلى انفصال عميق بين الدولة ومجتمعها.

 

بالإضافة إلى ذلك، في خلال السنوات القليلة الماضية، تكثّفت المناقشات بشأن خلافة المرشد الأعلى آية الله السيد علي خامنئي مع تقدّمه في السنّ. وتكرّر ذكر رئيسي كخليفة مُحتمل له. ولذلك ينظر بعض المراقبين إلى وفاته غير المتوقّعة كأزمة مُحتملة في النظام السياسي.

 

على الصعيد الخارجي، تصاعدت التوتّرات بين إيران وإسرائيل، وبلغت ذروتها في أبريل الماضي عندما استهدفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق. واستثار ذلك ردّ فعل كبير من طهران، التي أطلقت مئات الصواريخ والمسيّرات من أراضيها. وعلى الرغم من هدوء هذه التوترات في الوقت الحالي، لا يزال الوضع هشّاً خصوصاً في ظل الصراع المستمرّ في غزة.

 

لذلك، من المهمّ تحليل مستقبل السياسة الإيرانية المحتمل بعد رئيسي لفهم التغييرات الممكنة التي قد تترتّب على هذا الحدث المهم.

 

تنصّ المادة 131 من الدستور الإيراني على أنّه في حالة وفاة الرئيس، أو عزله أو استقالته أو غيابه، أو مرضه لأكثر من شهرين، يتولّى النائب الأول للرئيس مهام الرئيس بموافقة المرشد الأعلى. ويقضي هذا الوضع أيضاً بتشكيل مجلس يضمّ رئيس مجلس النواب ورئيس القضاء والنائب الأول للرئيس لضمان انتخاب رئيس جديد في خلال 50 يوماً كحد أقصى.

 

وبعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي، تشكّل هذا المجلس في 20 مايو الحالي بمرسوم صادر عن المرشد الأعلى آية الله خامنئي، وعُيّن نائب الرئيس، محمد مخبر، رئيساً بالإنابة. وأعلن المجلس أنّ الانتخابات الرئاسية ستُجرى في 28 يونيو المقبل، مع احتمال إجراء جولة ثانية في 5 يوليو 2024.

 

ويُتوقّع من مخبر، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الحرس الثوري الإسلامي وخبرته الإدارية الواسعة، أن يضمن استمرار نفوذ هذه المنظّمة العسكرية والسياسية القوية. كما أنّ خلفيّته وعلاقاته تطمئن «الدولة العميقة»، التي تضمّ القيادة الأساسية للحرس الثوري الإيراني وشبكة من الشخصيات السياسية والأمنية المؤثّرة، من أنّ انتقال السلطة سيكون سلساً ومستقرّاً. وقد أكّد خامنئي على هذه النقطة، إذ طمأن مؤيّدي الجمهورية الإسلامية بأنّ أعمال الحكومة ستستمر من دون انقطاع بعد وفاة الرئيس.

 

مع ذلك، من المرجّح أن تؤدّي وفاة رئيسي إلى تفاقم الصراعات الداخلية على السلطة في صفوف النخبة السياسية الإيرانية. وبالفعل، قبل تحطّم المروحية، كانت فصائل مختلفة ضمن المعسكر المحافظ والمتشدّد تتنافس للسيطرة على السلطة التشريعية ورئاسة البرلمان. وتظهر هذه المنافسة بوضوح لدى الفصائل المتشدّدة، مثل جبهة الاستقرار وحلفائها في البرلمان الجديد، التي تحاول الوصول إلى إجماع على مرشّح ينافس رئيس البرلمان السابق محمد باقر قاليباف، وهو أيضاً عضو حالي في البرلمان.

 

قد يرى قاليباف، الذي ينتمي إلى الجناح الأكثر واقعية في المعسكر المحافظ، فرصة للترشّح للرئاسة الآن بعد شغور المنصب. وهو يتمتع بدعم بعض شرائح النخبة السياسية الحالية ولديه قاعدة جماهيرية بين مؤيدي الجمهورية الإسلامية ضمن المجتمع. ومع ذلك، فإنّ رئاسة قاليباف المحتملة قد تشكّل تحدّيات أمام الانتقال السلس للقيادة بمجرّد وفاة خامنئي.

 

وقد تميّز رئيسي بثلاث خصائص رئيسة جعلت منه رئيساً مفضّلاً للدولة العميقة ومُسهّلاً لخطط الخلافة، على الرغم من أنّ تفاصيل هذه الخطط لا تزال مجهولة. أولاً، كان رئيسي وفياً لخامنئي وللأسس الأيديولوجية للجمهورية الإسلامية، وهي حقيقة اعترف بها خامنئي نفسه مراراً وتكراراً. ثانياً، كان رئيسي رئيساً ضعيفاً نسبياً، حتى بالمعايير الضيّقة للجمهورية الإسلامية، وكان يفتقر إلى رؤية إستراتيجية وشخصية مستقلّة كالتي تميّز الرؤساء السابقون الأقوياء مثل حسن روحاني أو محمود أحمدي نجاد، اللذين عُرف عنهما تحدّيهما الدولة العميقة عند الضرورة. ثالثاً، كان رئيسي عارفاً ببواطن الأمور، ورجل دين تسلّق سلم السلطة خطوة بخطوة ضمن قواعد النظام، وبالتالي كان موضع ثقة ومدعوماً من بعض النخبة وقاعدة الحكومة الشعبية  على السواء.

 

وفي حين يشاركه قاليباف بالسمة الثالثة، أي معرفته بدهاليز السلطة، فهو معروف أيضاً بشخصيّته المستقلّة. كما أنّ سجلّه الانتهازي المتأرجح بين المعتدلين والمتشدّدين، يدفع إلى التشكيك بولائه، ويثير المخاوف بشأن استقرار رئاسته المحتملة وتأثيرها في انتقال القيادة بعد خامنئي.

 

والبديل بالنسبة إلى خامنئي ومجلس صيانة الدستور – المكلّف بالتدقيق بالمرشّحين – هو العثور على شخصية موالية ضعيفة أخرى لتحلّ محلّ رئيسي. ولكن ضمن الطيف السياسي الضيّق الحالي، من الصعب العثور على شخصية تتمتّع بالحد الأدنى من القبول في صفوف النخبة والجمهور.

 

وبالنسبة إلى حكومة وصلت إلى السلطة في العام 1979 تحت الشعار الثوري بإنشاء «جمهورية» إسلامية، فإنّ إبراز صورة عن تمتّعها بشرعية شعبية، أو في أقل تقدير قبول شعبي، لطالما كان أمراً مهمّاً. كما ذكرنا سابقاً، لقد دقّت الانتخابات البرلمانية الأخيرة ناقوس الخطر، وسلّطت الضوء على خيبة الأمل العامة تجاه العملية السياسية. ومع بقاء أقل من 50 يوماً لتنظيم انتخابات رئاسية جديدة، تواجه الحكومة تحدّياً كبيراً في تعبئة الناخبين. ومن الممكن أن يؤدّي انخفاض نسبة المشاركة إلى نزع الشرعية عن العملية الانتخابية وتفاقم أزمة الشرعية القائمة.

 

وللتخفيف من هذه الأزمة المحتملة، قد تسمح الحكومة لمرشحين أكثر اعتدالاً، مثل علي لاريجاني، بالترشّح في محاولة لتنشيط الأجواء السياسية وتشجيع مشاركة الناخبين. ومع ذلك، تبرز المشكلات نفسها مع الشخصيات القوية المشكوك بولاءاتها ويُنظر إليها على أنّها مثيرة للمتاعب. وتتلخّص المعضلة التي يواجهها صنّاع القرار الإستراتيجيين في الجمهورية الإسلامية في كيفية إيجاد التوازن بين المشاركة العامة وإجراء انتخابات آمنة تضمن الاستمرارية بعيداً من التغيير.

 

والجدير بالقول إنّ الانقسام القديم بين المعتدلين والمتشدّدين اندثر من المشهد السياسي الإيراني. وفي خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2021 التي أوصلت رئيسي إلى السلطة، والانتخابات البرلمانية هذا العام، استبعد مجلس صيانة الدستور كلّ الذين لديهم صلة، ولو هامشية، بالإصلاحيين والمعتدلين.

 

ونظراً لهذه التجربة والتحدّيات الراهنة، من المرجّح أن تقرّر القيادة الإيرانية تنظيم عملية انتخابية تحت رقابة مُشدّدة، وإعطاء الأولوية للاستقرار السياسي على التمثيل الديمقراطي، وهو ما قد يزيد ترسّخ هياكل السلطة القائمة. وعلى الرغم من وفاة رئيس الجمهورية، فإنّ ما يحدّد مسار السياسة هو الانتقال إلى عصر ما بعد خامنئي الذي يلوح في الأفق، وليس مصير الرئاسة بذاتها.

 

بعبارة أخرى، تكمن أهمّية الرئيس المقبل في تأثيره المرتقب عند تحديد المرشد الأعلى المقبل. وأياً كان الفصيل الذي يسيطر على الفروع الثلاثة للحكومة، سيكون في وضعية فضلى للتأثير في هذه العملية. وبطبيعة الحال، لا تريد القيادة الحالية أن يؤدّي «غرباء» هذا الدور.

 

ولهذا السبب، من غير المرجّح أن نشهد أي تحوّلات جوهرية في سياسة إيران الداخلية أو الخارجية في خلال هذه المرحلة الانتقالية أو حتى بعد انتخاب الرئيس المقبل. من حيث المبدأ، وعلى الرغم من نفوذه، لا يحدِّد الرئيس بشكل مستقل سياسات الإستراتيجية في سياستي إيران الخارجية والداخلية؛ بل يرسمها المرشد الأعلى، وبشكل غير رسمي، الحرس الثوري الإيراني.

 

صحيح أنّ غياب رئيسي سيكون محسوساً لبعض الوقت، لا سيما في الجوانب الإدارية والرمزية للحكم، إلّا أنّ الاتّجاه الإستراتيجي لسياسة إيران في جوهره سيظل ثابتاً على الأغلب. ومن المرجّح أن تصبّ الحكومة تركيزها على الحفاظ على الاستقرار والاستمرارية، على الصعيدين المحلي والدولي، في خلال هذه المرحلة الانتقالية.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الإنتخابات، عدوان إسرائيل على غزة، منافسة القوى العظمى
البلد: إيران، فلسطين-إسرائيل

المؤلف

زميل غير مقيم
حميد رضا عزيزي هو زميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وزميل زائر في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، وهو أيضاً باحث مشارك في معهد كليندال الهولندي للعلاقات الدولية.   وكان عزيزي قبل ذلك زميلاً مشاركاً في مركز الشرق للأبحاث الاستراتيجية في العام 2022. وقد حاضر في عددٍ من الجامعات الإيرانية، مثل جامعة… Continue reading إيران بعد رئيسي