شهد العام الجديد انضمام أربعة من أكبر الاقتصادات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى اتّحاد البريكس الاقتصادي. في الواقع، يُشكّل انضمام مصر وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة خطوةً إستراتيجية بعيداً عن الولايات المتحدة وأوروبا. بالنسبة إلى أعضاء البريكس الجُدد، قد يوفّر فرصاً جديدة للتجارة والاستثمار مع الأعضاء المؤسسة للكتلة. وقد يقدّم لهم أيضاً الفرصة للحدّ من اعتمادها على الدولار الأمريكي، ما يمنحها المزيد من المرونة لمواجهة الضغوط السياسية والاقتصادية الأمريكية. لكن فيما دعا بعض مسؤولي البريكس إلى تخلّي الكتلة عن الدولار بشكلٍ كامل، من شأن ذلك أن يُشكّل مهمّة شاقة على أرض الواقع.
فهم سيطرة الدولار
شكّل الدولار الأمريكي العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بموجب اتفاقية بريتون وودز لعام 1944، ثبّتت الدول الأعضاء في البدء عملاتها بالدولار، الذي كانت قيمته مرتبطة بالذهب، ما أدّى إلى استقرار الاقتصاد العالمي في أعقاب الحرب. لكن في العام 1971، تخلّت إدارة نيكسون عن معيار الذهب، ما زعزع الاقتصاد الدولي من خلال التهديد بتقويض قيمة الدولار والأرصدة الاحتياطية لدول متعدّدة.
شكّل ذلك مصدر قلق للمملكة العربية السعودية، التي كانت قد سعّرت صادرات النفط بالدولار منذ إبرام اتفاقيةٍ في العام 1945 تَضمن نفاذ الولايات المتحدة إلى النفط السعودي مقابل ضمانات أمنيّة. بعدما جمعت الحكومة السعودية احتياطيات بالدولار، عملت مع الولايات المتحدة بعد “صدمة نيكسون” على تعزيز الطلب على الدولار. وواصلت السلطات السعودية تسعير النفط بالدولار ونجحت في الضغط على زملائها الأعضاء في كارتل الطاقة أوبك للحذو حذوها، ما دعم الدولار في وقتٍ حاسم وربط قيمته فعلياً بالنفط بدلاً من الذهب.
ولا يزال الدولار العائم يشكّل منذ السبعينات العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، مسيطراً بذلك على التجارة الدولية والأعمال المصرفية، حتى عندما اعتمدت الدول أسعار صرف مرنة. وأثبتت سندات الخزينة الأمريكية كذلك أنّها استثمارٌ يمكن الاعتماد عليه وذات مخاطر ضئيلة. يُعزّز عمق النظام المالي الأمريكي وحجم سوق الأسهم الأمريكية وتنوّعها الطلب على الدولار. علاوة على ذلك، أبقت قابلية الدولار للتبادل الجاهزة تكاليف المعاملات منخفضة. وقد أقنعت هذه العوامل مجتمعةً أجيالاً من صانعي السياسات عبر العالم بأنّه يمكن الوثوق بقيمة الدولار.
تغيير الرؤى حول الدولار
صحيح أنّ المصارف المركزية وصانعي السياسات المالية يقدّرون الدولار، إلّا أنّ قلقهم بشأن اعتمادهم عليه قد ازداد. وتتراوح المخاوف من الشكوك المتعلّقة بالاستقرار السياسي الأمريكي واستمرارية السياسات إلى التحوّلات الاقتصادية على نطاقٍ أوسع المرتبطة بالمنافسة بين القوى العظمى. يُشكّل تنامي الديون الأمريكية والصراع السياسي الداخلي بشأن الموازنات وحدود الديون والسياسة الخارجية هموماً تساور الحكومات في كل أنحاء العالم. بالنسبة إلى الاقتصادات النامية، لا سيّما الاقتصادات ذات أسعار الصرف الثابتة، أضعفت قوة الدولار في السنوات الأخيرة قدرة الصادرات التنافسية ورفعت تكلفة خدمة الديون المقومة بالدولار.
بالإضافة إلى ذلك، يعتري المصارف المركزية القلق إزاء “استخدام الدولار كسلاح” من خلال العقوبات الاقتصادية الأمريكية. لطالما استخدمت الولايات المتحدة العقوبات أداةً في سياستها الخارجية، إذ اعتبرتها أقل كلفةً وأكثر إنسانية من التدخّل العسكري. وحتى وقت قريب، كانت تستخدم بشكلٍ أساسي العقوبات ضد الدول المنبوذة، بالتعاون مع المجتمع الدولي على نطاقٍ أوسع، أو ضد الحكومات الصغيرة والمهمّشة. بيد أنّ العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب ضد إيران وعقوبات الرئيس جو بايدن ضد روسيا بعد غزو أوكرانيا أثّرت في المزيد من الدول بشكلٍ أوسع، وهي تشمل الحلفاء الأوروبيين الذين طوّروا روابط اقتصادية مع إيران من أجل دعم الاتفاق النووي لعام 2015. وانعكست هذه العقوبات كذلك على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتين كانت قد نسجتا روابط وثيقة مع روسيا وأنشأتا كتلة أوبك+ بهدف التنسيق بين أسواق النفط. في الوقت الذي تتفكّك فيه العلاقة الاقتصادية الأمريكية الصينية، يخشى الكثيرون أن تلجأ الولايات المتحدة إلى العقوبات بغية تقويض منافستها.
نظراً إلى انتشار الدولار، تتوفّر طرق قليلة متوفّرة أمام الدول للتحايل على العقوبات بعدما تفرضها الولايات المتحدة. في الواقع، تبسط واشنطن سلطتها القانونية على النظام المالي الدولي، بدءاً من المعاملات التي تشمل عملتها وصولاً إلى المواطنين والشركات الأمريكية والأصول الموجودة في الولايات المتحدة والمؤسسات المالية المتمركزة في الولايات المتحدة أو ذات وسطاء في الولايات المتحدة، وأنظمة الدفع بين المصارف الأمريكية. خوفاً من الغرامات ومن فقدان إمكانية الوصول إلى المصارف المراسلة التي تتّخذ من الولايات المتحدة مقرّاً لها وإلى التسويات بين المصارف، قليلة هي المصارف الدولية المستعدّة لمحاولة تجاوز العقوبات، لا سيما أنّ واشنطن كانت متشدّدة في ملاحقة الذين قاموا بذلك. ونظراً إلى المخاطر التي يشكّلها ذلك على اقتصاداتها، تبحث المصارف المركزية عن طرق تمكّنها من الحدّ من اعتمادها على الدولار.
نحو إيجاد بديل
يمكن القول إنّ دول البريكس هي المستفيدة الكبرى من إيجاد بديل للدولار وقد اتّخذت خطوات كبيرة (وإن كانت محدودة) بعيداً عن العملة في الآونة الأخيرة. تسعى الصين والهند إلى بناء الطلب الدولي على عملاتهما الخاصة. على غرار الولايات المتحدة قبلهما، ركّزت الدولتان على سوق النفط، في محاولةٍ للتفاوض على مبيعات النفط بغير الدولار مع كبار المنتجين من أجل ضمان إمداداتهما النفطية وتعزيز الطلب على عملاتهما الخاصة. من جهتها، ركّزت الصين على المملكة العربية السعودية، سعياً إلى صفقةٍ حول النفط بعملة الرنمينبي في خلال قمة الرياض في العام 2022. أمّا الهند، فوقّعت في العام 2023 على اتفاقٍ مع الإمارات العربية المتحدة لاستكشاف تسعير النفط بالروبية. ومع ذلك، يعتري كل من الرياض وأبو ظبي القلق حيال المخاطر المرتبطة بصرف العملات الأجنبية وتكاليف المعاملات وقابلية تحويل الحيازات غير الدولارية.
في أغسطس 2023، دعا الرئيس البرازيلي لولا إلى إنشاء عملة مشتركة للبريكس. من الناحية النظرية، من شأن وحدة نقدية بين دول البريكس، التي تمثّل حوالي ثلث إجمالي الناتج المحلي العالمي، أن توفّر بديلاً جذاباً عن الدولار. غير أنّ إنشاء وحدة نقدية من شأنه أن يثير مجموعة من التحديات المعقّدة. في نهاية المطاف، قد يعتمد ذلك على تطوير دول البريكس مقاربة مشتركة إزاء السياسة الاقتصادية، بما في ذلك الاتفاقات المتعلّقة بالديون وحدود الإنفاق العام. وقد تحتاج هذه الدول إلى توفير شفافية كافية بشأن البيانات الاقتصادية والسياسة النقدية لبناء الثقة بين المستثمرين الدوليين والشركاء التجاريين، وهي عوامل كانت أساسية في ارتفاع الدولار.
إنّ الدول التأسيسية لمجموعة البريكس بعيدة كل البعد عن تلبية هذه المعايير. تواجه البرازيل حالة انعدام استقرار اقتصادي وسياسي، وقد انخفضت قيمة عملتها مرات عديدة في خلال العقود القليلة الفائتة في سياق تراجع التصنيع. من جهتها، شهدت روسيا المعتمدة على النفط انحساراً في النمو وستواجه المزيد من القيود في ظلّ زيادة النفقات المتعلّقة بالحرب وتداعيات العقوبات. أمّا الهند، فترزح تحت وطأة البيروقراطية الصارمة والمقاومة الشعبية للإصلاحات الموجّهة نحو السوق، إذ تحافظ على الضوابط المفروضة على الرساميل وغالباً ما تلجأ إلى فرض قيود على التصدير بهدف إدارة التضخم. وعلى الرغم من أنّ الصين اتّخذت خطوات لضمان قابلية تحويل الرنمينبي، إلّا أنّ الاقتصاد مستمرّ في التباطؤ وتلوح صدمةٌ عقارية في الأفق وقد تكون معدية. أخيراً، تعاني جنوب أفريقيا بطءاً في النمو وارتفاعاً في معدّلات البطالة وضعفاً في البنية التحتية، بالإضافة إلى إنفاق عام غير مستدام.
لا يبذل أعضاء البريكس الجُدد الكثير من الجهد لتغيير هذه المعادلة. لا تزال المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تعتمد على النفط إلى حدّ بعيد. أمّا مصر، فتواجه أزمة اقتصادية وشيكة في حين أنّ إيران تكافح للخروج من عقدٍ من تباطؤ النمو أجّجته العقوبات الأمريكية. وتتخبّط أثيوبيا في صراعٍ أهلي وانعدام الاستقرار على نطاقٍ أوسع.
لا تؤمّن أي من هذه الدول للمستثمرين المعلومات الاقتصادية بالحجم والشفافية اللذين تقدّمهما الحكومة الأمريكية بشأن وضع اقتصادها. وفي حين أنّ إمكانات دول البريكس الاقتصادية جذّابة بطبيعتها للمستثمرين، إلّا أنّها لا توفّر العمق المالي وأمن السوق اللذين يوفّرهما الاقتصاد الأمريكي. علاوة على ذلك، تفتقر مجموعة البريكس إلى أساسٍ سياسي أو أيديولوجي يسمح بتطوير التنسيق الضروري حول السياسات الاقتصادية الجدليّة في معظم الأحيان من أجل المحافظة على عملة مشتركة. في الواقع، لا يزال عددٌ من هذه الدول في حالة منافسة جيوسياسية عميقة.
إحتياطيات مجزأة
لا تلغي التحدّيات المرتبطة بتطوير عملة للبريكس قيمة السياسات. بينما تنمو اقتصادات دول البريكس وتتدهور العلاقة بين الولايات المتحدة والصين وتُوسّع الولايات المتحدة نطاق استخدام العقوبات، ستحتاج الدول التي تسعى إلى التجارة المرنة والاستثمار عبر الحدود إلى عملةٍ احتياطية تنافس الدولار أو تحلّ محله. سواء أكانت هذه عملة البريكس أو عملة أحد الأعضاء أو بديل آخر، سيرتكز بروزها كعملةٍ احتياطية على الطلب الدولي مدعوماً بالشفافية والثقة.
وعوضاً عن استبدال الدولار بعملةٍ واحدة، من المرجّح أن نشهد تجزئةً للاحتياطيات بينما تُعاد هيكلة التجارة والاستثمار بحيث يعكسان عالماً متعدّد الأقطاب بشكلٍ متزايد. سيظلّ الطلب على الدولار قوياً، إلّا أنّ حيازات الرنمينبي والروبية والعملات الأخرى ستنمو، حتى في الوقت تشهد فيه التجارة والاستثمارات مزيداً من الغموض وارتفاعاً في تكاليف المعاملات.
استعداداً لذلك، من مصلحة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إدارة عمليّة إزالة الدولرة وتنسيقها. وينبغي أن تستعدّ للتجزئة القادمة من خلال تعزيز حيازاتها الاحتياطية البديلة، بما فيها الرنمينبي والروبي والذهب. ويجب عليها كذلك إعطاء الأولوية للعمل مع الهند والصين للتأكّد من أنّ عملاتهما قابلة للصرف، لا سيما في سياق مبيعات النفط. في الوقت نفسه، من مصلحة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حماية الدولار من الصدمات. وقد يتطلّب ذلك من الحلفاء الأمريكيين في المنطقة استخدام علاقاتهم مع الولايات المتحدة بغية إقناعها بتركيز سياستها الاقتصادية على تثبيت الدولار -عوضاً عن استخدامه كسلاح.