يصادف 10 مارس الذكرى السنوية الأولى لإعلان المملكة العربية السعودية وإيران استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما في مصالحة تاريخيّة توسّطت الصين في تحقيقها. ومنذ إعلانهما عن المصالحة في بيان مشترك من بكين، نسجت الدولتان روابط متينة وتفاعلتا بانتظام على المستوى الوزاري. إلّا أنّه ينبغي على الطرفين بذل المزيد من الجهود من أجل تعميق علاقاتهما، وذلك لصالحهما ولمصلحة المنطقة ككلّ – لا سيما في ظلّ الاضطرابات التي تصعف بها منذ ذلك الحين.
أهمية المصالحة السعودية الإيرانية للمنطقة
لا يمكن المبالغة في التشديد على أهميّة المصالحة السعودية الإيرانية، لا سيما أنّها تنعكس على الشرق الأوسط بطرق رئيسية متعدّدة. أولاً، لقد أدّت المصالحة إلى تهدئة التوتّر بين الطرفين الرئيسيين المتخاصمين في المنطقة. إذ تتنافس الرياض وطهران لسنوات طويلة على النفوذ الجيوسياسي من خلال جبهات في لبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن، فوضع تطبيع العلاقات بينهما حدّاً لهذه المنافسة، لا بل عكس التوجّه العام في المنطقة برمّتها للمنافسة الحادة.
ثانياً، ساهمت المصالحة السعودية الإيرانية بين الدولتين في المحافظة على مستوى لا بأس به من الاستقرار. وقد ذكّرت أحداث السابع من أكتوبر والحرب اللاحقة على غزة بأنّ الاستقرار في هذه المنطقة هش دائماً. فقد دفع يأس الفلسطينيين الناجم عن الاحتلال الإسرائيلي الطويل الأمد بالإضافة إلى ردّ إسرائيل غير المتناسب، بالمنطقة إلى كارثةٍ جديدة. لكن نظراً لإمكانية اتّساع رقعة الصراع إلى المنطقة ككلّ، شكّلت المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران قاعدة حيوية لتحقيق الحدّ الأدنى من الاستقرار الإقليمي.
ثالثاً، تساهم المصالحة في تعزيز القضية الفلسطينية المشروعة. ليست المملكة العربية السعودية وإيران قويّتين في منطقة الخليج فحسب، بل أيضاً عبر المنطقة والعالم الإسلامي. وتعطي وحدتهما الناتجة عن المصالحة قوةً للعالم الإسلامي في النضال من أجل القضيّة الفلسطينية، ما ينعكس على السلام والاستقرار في المنطقة بأسرها.
تعزيز المصالحة السعودية الإيرانية
في خلال العام الماضي، أظهر كل من الطرفين استعداداً لدفع المصالحة بينهما قدماً. فبُعيد إعلان التقارب بين البلدين في بيان مشترك، استأنفت الرياض وطهران العلاقات الدبلوماسية بينهما وأعاد كلّ منهما فتح سفارة في عاصمة الأخر، وفقاً للجدول الزمني المتّفق عليه. وفي نوفمبر، زار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي المملكة العربية السعودية للمشاركة في القمة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض حول الوضع في غزة. وفي مطلع فبراير، أعلنت إيران عن إلغاء تأشيرة الدخول من طرف واحد عن مواطني الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين والكويت وقطر (القرار سارٍ أصلاً لمواطني عُمان).
وتجدر الإشارة إلى أنّ الدولتين أظهرتا اهتماماً بالغاً بإجراء حوار أمني. ففي 30 نوفمبر 2023، اتّصل رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري بوزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان. وقد أعربا عن جهوزيتهما لتعزيز الروابط العسكرية الثنائية، ما يعكس استعداد الطرفين لانخراطٍ مكثّف.
بالنسبة إلى منطقةٍ عرضة للاضرابات، لا يمكن المبالغة في التشديد على أهميّة هذه المصالحة. ولكن يجب مواصلة هذه الجهود من أجل الحد من الضبابية. صحيح أنّ أسباب الصين كثيرة للتوسّط وأنّ بكين على استعداد دائم لبذل جهود من أجل تعزيز المصالحة السعودية الإيرانية في المنطقة، ولكن يمكن للطرفين العمل بشكلٍ ثنائي لتعميقها من خلال عددٍ من الوسائل.
كيف يمكن توطيد العلاقات السعودية الإيرانية؟
أولاً، بإمكانهما العمل معاً لترتيب المزيد من اللقاءات الرفيعة المستوى التي من شأنها تعزيز العلاقات السعودية الإيرانية السياسية وتعميق الثقة المتبادلة، بالإضافة إلى إرساء إطار للتعاون المستقبلي. لقد سبق أن زار رئيسي المملكة العربية السعودية، بالتالي يمكن الآن أن ينظّم الطرفان رد الزيارة الجانب السعودي. هذه الخطوات قادرة على بناء الثقة ويمكنها أن تضفي زخماً جديداً إلى عملية المصالحة. ويمكن للتبادلات الرفيعة المستوى بشأن القضية الفلسطينية بشكلٍ خاص أن تعطي دفعاً جديداً للعلاقة.
ثانياً، يمكن أن يجري الطرفان بشكل دوريّ حوارات أمنية عبر منطقة الخليج. تستدعي الضبابية المتأتية من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والوضع المضطرب في المنطقة بشكلٍ عام تبادلاً لوجهات النظر في الوقت المناسب لتجنّب سوء التفاهم. وقد أشارت النوايا الحسنة التي أعرب عنها القائدان العسكريان في نوفمبر 2023 إلى أنّ مثل هذه التبادلات مرحّب بها – فلِمَ لا تصبح منتظمة؟ على سبيل المثال، يمكن لكبار الضباط الجلوس إلى الطاولة كل شهرين أو ثلاثة أشهر لإجراء مناقشات حول كافة القضايا ذات الاهتمام المشترك. على الأقل، يمكن أن تساهم هذه التبادلات في تعزيز الثقة المتبادلة.
ثالثاً، بإمكان طهران والرياض العمل معاً من أجل توطيد التعاون الاقتصادي بينهما. ومن شأن المنافع الاقتصادية أن تُرسّخ مصالحتهما السياسية وتُعطيها دفعاً. صحيحٌ أنّ العقوبات الغربية على إيران قد تعيق التعاون الاقتصادي، إلّا أنّه يمكن للسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى أن تحاول، على سبيل المثال، الاستثمار في مشروع واحد ليس إلّا في إيران، ما قد يساهم في تشجيع طهران على تعميق المصالحة أيضاً. وعلى الرغم من العقوبات، من المرجّح أن يجد رجال الأعمال سُبُلاً لتنفيذ مشاريع مماثلة.
رابعاً، يمكن للطرفين إجراء المزيد من التبادل الأكاديمي. سبق أن حصلت تبادلات في مناسبات متعدّدة بين خبراء من إيران والسعودية ودول بارزة أخرى من مجلس التعاون الخليجي في أماكن وفّرتها أطراف ثالثة، حتى عندما كان البلدان متخاصمين. لكن لكي تكون المصالحة متينة، على الطرفين تشجيع المزيد من هذه التبادلات. وبإمكان المؤسسات الأكاديمية في كل من المملكة العربية السعودية وإيران دعوة باحثين من الطرف الآخر لكي يكونوا زملاء زائرين، أو للمشاركة في مؤتمرات أكاديمية بكل بساطة. وبوسع المؤسسات الميسورة مالياً في دول مجلس التعاون الخليجي تقديم المزيد من هذه البرامج الخبراء الإيرانيين. ولا شكّ في تبادل الخبراء المباشر بين مركز البحوث سيقلّل بشكل كبير من المفاهيم الخاطئة بين صانعي السياسات من كلا الجانبين.
بشكلٍ عام، لا ينبغي التقليل من أهميّة المصالحة السعودية الإيرانية. صحيحٌ أنّ الاختلافات ستستمرّ، لكن الدولتين مجاورتان في نهاية المطاف. ومن أجل تأمين مستقبل أفضل للبلدين وضمان استقرار المنطقة، سيتعيّن عليهما إيجاد السبل للمضي قدماً في المصالحة بينهما. تتعدّد الطرق لتحقيق ذلك شرطَ أن يكون الجانبان جادَين ويتواصلان باستمرار لكي يتمكّنا من كسر المفاهيم الخاطئة وتذليل العقبات.