وصول الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض لحضور القمة الصينية العربية الأولى والقمة الصينية الخليجية، وكذلك للقيام بزيارة دولة إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود. الرياض، المملكة العربية السعودية، 7 ديسمبر 2022. (وكالة الصحافة الفرنسية)

سياسة الصين تجاه الشرق الأوسط في زمن الحروب

تتبنّى بكين مقاربة طموحة وحذرة تجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلّا أنّ الاضطرابات الإقليمية تضع إستراتيجيتها المتحفّظة تحت الاختبار.

18 نوفمبر، 2024
جينغ دونغ يوان، علاء ترتير

تُوسّع الصين منذ سنوات متعدّدة نطاق نفوذها ليصل إلى المعمورة قاطبةً. وفيما تبقى أولويّاتها الإستراتيجيّة متمحورة حول غرب المحيط الهادئ -حيث تواجه منافسة مع الولايات المتحدة وعدداً لا يحصى من النزاعات الإقليميّة وتوتّرات في شبه الجزيرة الكوريّة واحتمال نشوب صراع عسكري بشأن مضيق تايوان- أنتج وجودها المتنامي باستمرار في مناطق مثل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مصالح إستراتيجيّة لا يمكن الاستخفاف بها. لكن في خضمّ الاضطراب الشديد في المنطقة الذي قد يُهدّد المصالح الصينيّة، تبقى بكين حذرة للغاية وغير فعّالة إلى حدّ بعيد في التوصّل إلى نتيجةٍ أكثر استقراراً وسلميّة. وفي ظلّ تعدّد التفسيرات، بما فيها من يرى أنّ السياسة الصينيّة تطوّرت لتصبح أكثر حزماً في الشؤون الإقليميّة، قد يكون من الصعب التغلّب على الميل إلى المحافظة على مقاربةٍ تتجنّب المخاطر وأثبتت فائدتها على مدى أعوام متعدّدة، على الرغم من الفرص التي قد توفّرها.

  

نفوذٌ متنامٍ  

تمثّل الصين اليوم شريكاً اقتصادياً رئيسيّاً لمعظم دول المنطقة، إذ بلغت التجارة بين الصين ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 368 مليار دولار في العام 2022، وهو مبلغ مذهل مقارنةً بـ144 مليار دولار بين الولايات المتحدة والمنطقة في العام نفسه. وبلغت قيمة الاستثمارات الصينيّة المتراكمة وتمويل التنمية في المنطقة 152 مليار دولار بين عامَي 2013 و2021. لقد انخرطت الصين بنشاط في مشاريع البنى التحتيّة في المنطقة والانتقال إلى الاقتصاد الأخضر من خلال مبادرة الحزام والطريق، بالإضافة إلى التطوير التكنولوجي المشترك مع المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة. وقد زوّدت المنطقةُ حوالي نصف إجمالي واردات الصين من النفط الخام في العام 2023 

في ظلّ استمرار هيمنة المصالح التجاريّة، تَوسّع انخراطُ الصين الإقليمي بشكلٍ مطّرد -وإن بحذر- ليشمل الدبلوماسيّة والأمن. عيّنت الصين مبعوثها الخاص الأوّل إلى الشرق الأوسط في العام 2002 وأصدرت وثيقتها السياسيّة الأولى تجاه العرب في العام 2016. وأعلنت بكين في سبتمبر 2022 عن بنيتها الأمنيّة الجديدة للشرق الأوسطالتي تُشكّل إطاراً يُعزّز الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام ويحثّ الجهات الفاعلة الإقليميّة على التحكّم بشؤونها بشكلٍ أكبر. وزار الرئيس الصيني شي جين بينغ المنطقة في أواخر العام 2022 عندما عُقدت أول قمة صينيّة عربيّة وقمة صينيّة خليجيّة في المملكة العربية السعوديّة؛ وأشرفت الصين في العام 2023 على عودة العلاقات الدبلوماسيّة بين الخصمَين اللدودَين، السعودية وإيران -وهما اثنان من أكبر شركائها الاقتصاديين.  

 

في ضوء هذه المصالح المتنامية، من الطبيعي تصوّر اضطلاع الصين بدورٍ أكثر نشاطاً في المساعدة على إدارة الاضطرابات الإقليمية والتوسّط لحلّ صراعات مختلفة، لا سيّما أنّ بكين لا تحمل الأعباء التاريخية لنظرائها الغربيين وأنّ النفوذ الأمريكي يعاني نتيجة ارتباطه بالرد الإسرائيلي غير الشعبي بتاتاً على هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023.  

 

غير أنّ عاماً مرّ من دون أيّ تدخّل صيني فعّال. لا شكّ في أنّ بكين قدّمت اقتراحات لإيقاف الحرب على غزة، وجمعت بين حماس وفتح، ودعت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى تهدئة الصراع، كما أنّها اقتنصت فرصة انعقاد اجتماعاتها مع وزراء الخارجية العرب والخليجيين لإعادة التأكيد على خطط السلام المتعدّدة التي اقترحتها في السابق. لكنّها لم تقم بأيّ محاولة جدّية لضمان تعليق العمليات العسكريّة الإسرائيليّة أو لتقديم اقتراحات ملموسة وقابلة للتطبيق لحلّ طويل الأمد.  

 

 

تعدّد التفسيرات 

 

تبرز هوّة واضحة بين الصورة التي تسعى بكين إلى إظهارها -أي أنّها قوة صاعدة مسؤولة وجادة وملتزمة التزاماً عميقاً بالسلام، بما فيه في الشرق الأوسط- ومقاربتها الحذرة والمتردّدة إزاء الصراع في المنطقة. لكنّ ذلك يعكس أسلوبها الدبلوماسي ويرتكز في الوقت عينه على تفكيرٍ إستراتيجي دقيق بالمنطقة وبأيّ دورٍ عملي يمكن أن تؤدّيه في الوقت الحالي. يمكن تفسير سياسة الصين وإمكانية تطوّرها في المستقبل بأربع طرق على الأقل.  

 

التفسير الأول هو أنّه على الرغم من توسّع التجارة والاستثمار وصورة بكين المتنامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تكتفي الصين بالبقاء بعيدة عن الأضواء وبحرية التصرّف لتجنّب التورّط في الصراعات الإقليمية المعقّدة. وتواصل التركيز على بناء روابط اقتصادية مع الأطراف كافة استناداً إلى مبدأي الحياد وعدم التدخّل. ومن الواضح أنّها تدرك المخاطر الكامنة المرتبطة بالانخراط في مشاكل المنطقة، كما أنّها لا ترغب في أن تحلّ محلّ الولايات المتحدة باعتبارها القوة الخارجيّة المهيمنة، رغم ضعفها. في الواقع، يجادل المحلّلون الصينيون التابعون لهذا التفسير ضد المفهوم الخاطئ القائل بأنّ الصين يمكنها التأثير بفعّالية في تطوّرات المنطقة، ما يبقى ثانوياً في أولويّات بكين الجيوستراتيجيّة -ألا وهي مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي والمنافسة الإستراتيجيّة بين الولايات المتحدة والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.  

 

ويُشدّد التفسير الثاني على أهميّة المنطقة الحيويّة بالنسبة إلى الصين لمواردها من الطاقة وموقعها الجيوستراتيجي للتجارة البحريّة مع أوروبا وأفريقيا، وذلك لتفسير السبب وراء اهتمام القيادة العليا الصينية المتزايد بالمنطقة. ونتيجة لذلك، أصبحت بكين أكثر استباقية في انخراطها مع المنطقة، بما في ذلك مشاركتها في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وإرسال مبعوثين إلى المنطقة واقتراح خطط سلام للصراعات وإنشاء أول قاعدة دائمة للدعم اللوجستي العسكري في جيبوتي عند مصبّ أحد أهم الممرّات المائيّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.  

 

فيما أثبتت القدرة المحدودة أنّ بكين تتمسّك بمبدئها في عدم التدخّل بشكلٍ عام، وسّعت الصين بانتظام نفوذها على التنمية الاقتصادية في المنطقة من خلال زيادة التجارة الثنائية والاستثمارات ومشاريع بناء البنى التحتية والتعاون التكنولوجي. ويشمل هذا التعاون وصول شركات التكنولوجيا الصينيّة على غرار هواوي” (Huawei)، ما يمكّنها من تأدية دور مهيمن في البنى التحتيّة الرقميّة في المنطقة. على نحو مشابه، يزداد التعاون الدفاعي والأمني بين الصين وعددٍ من دول الشرق الأوسط، بما فيه التطوير المشترك للطائرات المسيّرة بين شركة مجموعة صناعات شمال الصين المحدودة (نورينكو) والمجموعة الذهبيّة العالميّة في الإمارات العربيّة المتّحدة؛ وإنتاج الصواريخ البالستيّة مع المملكة العربيّة السعودية ومناورات عسكرية مشتركة وبرامج تدريبيّة مع المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة وقطر. إنّ الروابط الجيواقتصاديّة والأمنيّة المتنامية كافية لدق ناقوس الخطر في واشنطن.  

 

أمّا التفسير الثالث، فهو أنّ تمسّك الصين المستمرّ بسياسة الحياد ومبدأ عدم التدخّل لم يعد يخدم مصالحها المتنامية في المنطقة أو مكانتها كقوة عظمى صاعدة. ويُشير محلّلو هذا التفسير إلى أنّ الربيع العربي والاضطرابات التي نتجت عنه يجب أن يُقنعا بكين بأنّ السلبية والتفاعليّة في الدبلوماسيّة إزاء الأحداث قد يهدّدان مصالحها. نتيجة لذلك، يُعدّ اعتماد دبلوماسيّة أكثر استباقية، بما فيها الوساطة في الصراع بين فلسطين وإسرائيل، مهمّاً حتى لو لم تتطرّق الحلولُ إلى التفاصيل الدقيقة. وتندرج خطط الصين المختلفة للسلام وبنيتها الأمنيّة للشرق الأوسط في إطار هذا التفسير. وتشدّد وجهة النظر هذه على كيفية ممارسة بكين نفوذها وعلى الحوافز التي تقدّمها للمنطقة من خلال المؤسّسات المتعدّدة الأطراف التي تمثّل الصين جهةً فاعلة رئيسيّة فيها. وتشمل هذه المؤسّسات منظمة شنغهاي للتعاون وبريكس+ اللتين جذبتا دولاً كثيرة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنوات الماضية. مُنحت إيران العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون بينما أصبحت مصر وقطر والمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة والبحرين شركاء حوار. في هذه الأثناء، انضمّت مصر وإيران والإمارات إلى مجموعة البريكس 

 

ويتمحور التفسير الرابع حول القيود الكبيرة التي تواجه بكين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حال سعت إلى تحدّي مكانة الولايات المتحدة. لا شكّ في أنّه بعد السابع من أكتوبر، توفّرت فرص أمام الصين للانخراط في منافسة إستراتيجيّة مع الولايات المتحدة ومواصلة توسيع نفوذها وإبراز قوّتها في منطقةٍ حاسمة بالنسبة إلى مصالحها الاقتصادية وأمنها في مجال الطاقة وطموحاتها الجيوستراتيجيّة. بيد أنّ بكين تستمرّ في توخّي الحذر بغية تحقيق توازن ملائم بين مبادئها الراسخة منذ زمنٍ بعيد والداعية إلى احترام السيادة وعدم التدخّل من جهة والحاجة إلى انخراطٍ أكثر نشاطاً في الدبلوماسية الإقليمية -حيث تبدو حلول الصراعات بعيدة المنال، إن لم تكن غير موجودة على الإطلاقمن جهة أخرى. لقد اختارت الصين تأدية دور محدود بصفتها ميسّرة للحوارات ووسيطة أحياناً بين الأطراف المتناحرة- على غرار المملكة العربيّة السعوديّة وإيران وحركتي حماس وفتح الفلسطينيتين- إذ تُحفزّها بشكلٍ متزايد المحافظةُ على مصالحها الإقليميّة أكثر منه وضع خطط محدّدة لحلّ الصراعات.  

 

على الرغم من رغبة الصين في انتهاز الفرصة والتصرّف بحزم أكبر، تظلّ بكين في النهاية قوة حذرة حقّقت إنجازات كبرى من خلال تبنّيها مقاربة بعيدة عن الأضواء تركّز على الأهداف التجاريّة في المنطقة. بالتالي، من المرجّح أن تستمرّ في الامتناع عن تحدّي الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. علاوة على ذلك، بما أنّ أولويّات الصين ومصالحها الجوهريّة تتركّز في منطقة غرب المحيط الهادئ، من المرجّح أن تواصل تفضيلها لمقاربة طويلة الأمد وصبورة ومدروسة بعناية تعتمد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ترتكز على مبادرة الحزام والطريق والمؤسّسات المتعدّدة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي للتعاون والبريكس+ لتحقيق تقدّم ثابت.  

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: العلاقات الإقليمية، منافسة القوى العظمى
البلد: إيران، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، المملكة العربية السعودية، قطر، مصر

المؤلّفون

باحث أوّل ومدير برنامج أمن آسيا والصين في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)
جينغ دونغ يوان هو باحث أوّل ومدير برنامج أمن آسيا والصين في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI). تُركّز بحوثه على الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والسياسة الخارجيّة الصينيّة والعلاقات الصينيّة الهنديّة والعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي ومراقبة الأسلحة النوويّة وحظر انتشارها. كان أستاذاً زائراً في جامعة سنغافورة الوطنية وجامعة ماكاو ومركز الشرق والغرب… Continue reading سياسة الصين تجاه الشرق الأوسط في زمن الحروب
باحث أوّل ومدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)
علاء ترتير هو باحث أوّل ومدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI). هو أيضاً باحث مشارك ومنسّق أكاديمي في معهد جنيف للدراسات العليا وزميل عالمي في معهد أبحاث السلام في أوسلو (PRIO) ومستشار برامج وسياسات للشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية، وعضو مجلس إدارة مبادرة الإصلاح العربي (ARI).