طالب يحمل صاروخًا وهميًا خلال مظاهرة للطلاب وأساتذة الجامعات، معظمهم من أنصار الحوثيين، تضامنًا مع الفلسطينيين في حرم جامعة صنعاء، اليمن، 21 أغسطس 2024. رويترز/خالد عبد الله

كيف غيّر الحوثيون مشهد الحرب الإقليمية

في ظل الأحداث المتسارعة في المنطقة، يثير تصعيد الحوثيين في اليمن المخاوف من توسّع دائرة الصراع، خاصة مع تزايد قدراتهم العسكرية واستعدادهم لمواجهة قوى إقليمية ودولية

29 أغسطس، 2024
فوزي الغويدي، عمر حسن عبد الرحمن

اقتربت منطقة الشرق الأوسط من حافة الهاوية في الأسابيع الماضية، إذ تأهّبت إيران وحزب الله اللبناني للانتقام من إسرائيل عقب اغتيالها لشخصيّتين بارزتين في عاصمتيهما، طهران وبيروت. في بادئ الأمر، أرجأت المساعي الدبلوماسية المحمومة والزخم المتجدّد في مفاوضات التهدئة بغزة هذا الرد، والذي كان من شأنه أن يدفع المنطقة إلى أتون حرب شاملة. بيد أنّ تعثّر المحادثات قد ينذر باقتراب شنّ ضربة مشتركة، ولعلّها تضمّ طرفاً آخر متحفّزاً للثأر من إسرائيل، وهم الحوثيون في اليمن.

شكّل انخراط الحوثيين – المعروفين أيضاً بأنصار الله – المباشر في حرب غزة مفاجأةً مثيرة في خضم أزمة الشرق الأوسط المستعرة منذ أكثر من عشرة أشهر. فبعد أقل من أسبوعين من بدء حملة إسرائيل العسكرية الانتقامية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر، بادر الحوثيون بإطلاق صواريخ بالستية وطائرات مسيّرة في اتجاه إسرائيل. ونظراً لبعد المسافة بين صنعاء وتل أبيب، والتي تتجاوز ألفين وخمسمائة كيلومتر، ومحدودية قدرات الحوثيين العسكرية، بدا هذا العمل أقرب إلى بيان تضامني واستعراضي مع حركة حماس وأهل غزة منه إلى هجوم عسكري فعلي على إسرائيل. بيد أنّ الحوثيين ما لبثوا أن شرعوا في استهداف السفن ذات الصلة بإسرائيل في أثناء عبورها البحر الأحمر.

كان لهذا الإجراء تأثير بالغ، حيث أظهر الحوثيون قدرتهم على فرض هيمنتهم في ميدانهم وتعطيل حركة التجارة البحرية العالمية. وقد تكلّلت عملياتهم بالنجاح إلى حدّ دفع البحرية الأمريكية إلى حشد قوى بحرية دولية منذ يناير الماضي، وتوجيه ضربات لمواقع الحوثيين داخل اليمن بهدف ردعهم. غير أنّ هذا الردع باء بالفشل، وتمكّن الحوثيون من تكبيد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر فادحة عبر قطع الوصول إلى مرفأ إيلات على البحر الأحمر، ما أدّى إلى إعلان إفلاسه فعلياً.

شهدت الأحداث الأخيرة تطوّراً لافتاً في مسار الصراع قد تحمل أهمية بعيدة المدى، حيث نجح الحوثيون في استهداف مبنى في تل أبيب بطائرة مسيّرة في 19 يوليو الماضي، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة عشرة آخرين على الأقل. وعلى الرغم من رد إسرائيل بضربة جوية عنيفة استهدفت ميناء الحديدة في اليمن ومحطة كهربائية مجاورة له، إلّا أنّ هذا التصعيد فتح باباً قد يصعُب إغلاقه. أولاً، اكتسب محور المقاومة بقيادة إيران جبهة جديدة لشن هجمات مباشرة على إسرائيل، ما وسّع نطاق الصراع في المنطقة بشكل غير مسبوق. ثانياً، ساهمت التكنولوجيا الحديثة والأقل تكلفة في تقليص الفجوة في القدرات العسكرية بين الأطراف المسلّحة، ما قلّل من “التفوق العسكري النوعي” لإسرائيل المدعوم من الولايات المتحدة. ورغم افتقار الحوثيين للقوة الجوية أو البحرية التقليدية، تمكّنوا من اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية المتطوّرة وضرب قلب إسرائيل.

يمثل هذا التطوّر رسالة ذات أهمية بالغة في سياق صراع يتمحور حول تحقيق النصر الإستراتيجي والنفسي أكثر من كونه مرتبطاً بالمكاسب العسكرية الملموسة. وقد أضحت اليمن، في ظلّ هذه المستجدات، جبهة إضافية تشكّل مصدر قلق لإسرائيل من عدو يصعب ردعه، وسيواصل تطوير قدراته العسكرية دون تردّد في استخدامها.

ضربة رادعة أم شرارة للتصعيد

منذ اختراق حماس للحدود المحصنة لقطاع غزة في 7 أكتوبر، يسعى القادة الإسرائيليون لاستعادة قدرتهم في الردع. وتأتي الحملة العسكرية الشرسة التي تشنها إسرائيل على غزة في إطار هذا المسعى، حيث تهدف إلى عرض قدراتها التدميرية الهائلة كرسالة تحذير للأطراف الأخرى في المنطقة. وينطبق الأمر نفسه على الضربات التي نفّذتها في لبنان وسوريا وإيران، حيث قامت إسرائيل باغتيال خصوم رفيعي المستوى، ما يبرز قدرتها على الوصول إلى أي هدف في أي مكان، وهي قدرة لا يضاهيها أي طرف آخر في المنطقة.

اتّبعت إسرائيل في هجومها على ميناء الحديدة اليمني أسلوبها المعهود في استخدام القوة المفرطة ضد المنشآت المدنية. ويبدو أنّ الهدف من هذا النهج هو خلق رادع قوي ضدّ أي هجمات مستقبلية، وذلك عبر فرض تكلفة باهظة على السكان المدنيين، ما قد يؤدي إلى تقليص دعمهم للعمليات العسكرية. هذه الإستراتيجية ليست جديدة على إسرائيل، بل تعود إلى بدايات تأسيس الدولة الإسرائيلية. فبالرغم من استمرارها في تطبيق هذه الإستراتيجية، إلّا أنّ نتائجها تظلّ موضع شك كبير، خاصة في ظلّ تغيّر ديناميات الصراع في المنطقة.

تثير الهجمات غير المتكافئة على المنشآت المدنية إشكاليات قانونية وإنسانية جمّة، فهي لا تخالف القانون الدولي فحسب، بل تؤجّج مشاعر الغضب والاستياء لدى السكان المحليين المتضرّرين. وفي ظل هذه الظروف، غالباً ما يتّجه الأهالي نحو القوى المحلّية القادرة على الرد، بحثاً عن الحماية والانتقام. وتختلف هذه القوى باختلاف السياق الإقليمي؛ ففي غزة تبرز حركة حماس، وفي لبنان يظهر حزب الله، أمّا في اليمن، فيتصدّر الحوثيون المشهد.

نفّذت القوّات الجوّية الإسرائيلية عدوانها على ميناء الحديدة في اليمن بطريقة درامية متعمّدة، فقد استخدمت 25 طائرة من فئة F35 في وضح النهار. استخدمت مساراً يسهل رصده واستهدفت صهاريج النفط في الميناء التي أدّت إلى انفجارات ضخمة وحرائق امتدّت لأيام. واستهدفت كذلك محطة طاقة تقع على بعد 90 كيلومتراً شمال الميناء في منطقة الصليف، علماً أنّ ميناء الحديدة هو المنفذ الوحيد لدخول المساعدات الإنسانية في المناطق الشمالية. ويُتوقّع أن تُفاقم هذه الضربة الوضع الإنساني المتردّي في اليمن من خلال تفاقم انعدام الأمن الغذائي وتقييد تدفّق الإمدادات الأساسية.

من الناحية العسكرية، يُستبعد أن تؤثّر الضربات الإسرائيلية في الحوثيين بشكل كبير أو تثنيهم عن مواصلة هجماتهم. فقد أظهر الحوثيون قدرة كبيرة على المرونة والصمود في وجه هجمات سابقة، سواء من الولايات المتحدة منذ أشهر، أو التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية منذ سنوات. فضلاً عن ذلك ومنذ بداية تدخلهم في أكتوبر الماضي، ازداد نفوذ الحوثيين محلّياً وإقليمياً ودولياً كمدافعين عن القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من أنّ حكمهم في اليمن سيّء السمعة، إلّا أنّ مشاركتهم النشطة في الحرب ضد إسرائيل والولايات المتحدة تعزّز من قوتهم على الصعيد الدولي. ومن المرجّح أن يعزّز الهجوم الإسرائيلي على اليمن من صورة الحوثيين كقوة مقاومة ويمنحهم حافزاً إضافياً لمواصلة القتال.

لا شكّ من أنّ الحوثيين يواجهون وضعاً مضطرباً داخل اليمن من شأنه أن يعيق موقفهم الإقليمي المقاوم. لقد تعثّرت الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب في الداخل، وظهرت الاشتباكات العنيفة مجدّداً في أجزاء مختلفة من البلاد بعد هدنة توسّطت فيها الأمم المتّحدة في العام 2022. وتصاعدت التوتّرات بين المصارف المركزية المتنافسة لأشهر متعدّدة، وهدّدت بدفع البلاد إلى مزيد من الانهيار الاقتصادي. ومع ذلك، بعد الهجوم على الحُديدة، وافقت الحكومة المُعترف بها دولياً على تهدئة الوضع بين المصارف المتنافسة وتخفيف التوتّرات في قطاعات رئيسة أخرى مثل النقل.

وفي الأخير تبدو إسرائيل أضعف من أي وقت مضى. يرى الحوثيون وحلفاؤهم الإقليميون أنّ اعتماد إسرائيل المتزايد على الولايات المتّحدة والذي لا ينحصر  بالحصول على الدعم المادي والدبلوماسي، بل يصل إلى الدفاع عنها، يُعتبر تغييراً بارزاً.

الأوضاع الأسوأ

ّخلقت القرارات الإسرائيلية الأخيرة – في وقت قصير – بتنفيذ ضربات في اليمن ولبنان وإيران حاجة ملحّة إلى الانتقام، ما قد يجر المنطقة نحو مواجهة ملحمية. وكما حدث في أبريل الماضي، عندما قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في سوريا، يتعيّن على طهران أن تردّ مباشرة على إسرائيل نظراً لطبيعة الاستفزاز والذي تمثّل باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في خلال زيارة رسمية إلى العاصمة الإيرانية. في المرة السابقة، شنّت إيران أول هجوم مباشر لها ضدّ إسرائيل عبر رسال  مئات الصواريخ والمسيّرات في استعراض مدروس للقوّة، ولكنّه لم يسفر عن أضرار فعلية تجنّباً لأي تصعيد. لكن هذه المرة، قد تحتاج إيران إلى اتخاذ خطوة أبعد من ذلك، وربما تنسيق الهجمات مع حزب الله والحوثيين لإظهار قدرة مختلفة.

بعد الهجوم على الحديدة، أعلن زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي عن بدء مرحلة عسكرية جديدة ضد إسرائيل أطلق عليها اسم ‘المرحلة الخامسة” وأوضح أنّ هذه المرحلة ستشمل أيضاً استخدام طائرة “يافا” المسيّرة التي ضربت تل أبيب الشهر الماضي، زاعماً أنّها صناعة يمنية.

من خلال هذه القدرات، يظهر الحوثيون أنّهم أكثر فائدة لإيران من الماضي، وخصوصاً في البيئة الحاليّة التي تحتاج فيها طهران إلى تهديد متعدّد الأطراف كرادع تفرضه على إسرائيل. وتشير هذه التطوّرات إلى أنّ المنطقة قد تدخل في مرحلة جديدة من الصراع المطوّل، مع ارتفاع خطر توسّع التصعيد الإقليمي. ما قد يعزّز التعاون بين الحوثيين وإيران، ويوفّر للمجموعة اليمنية دعماً عسكرياً ولوجستياً أكبر.

وفي ظل الحذر الإيراني التقليدي في الرد المباشر، قد يصبح الحوثيون الخيار الثانوي لطهران بعد حزب الله، للرد بشكل غير مباشر على هذه الهجمات. مع احتمال متزايد لتوسّع نطاق الصراع ليشمل مناطق أوسع في البحر الأحمر وخليج عدن، وربما يمتدّ إلى المحيط الهندي والبحر المتوسط. وقد يسبّب بزيادة التداعيات الاقتصادية العالمية. يأتي هذا التوسّع المحتمل في ضوء العلاقات التي نسجها الحوثيون مع جماعات مسلّحة في القرن الأفريقي والعراق حيث قٌتل مؤخّراً أحد قادة الحوثيين العسكريين في ضربة يرجّح أنّها أمريكية جنوب غرب بغداد.

ومع ذلك، حتى لو لم ينضمّ الحوثيون إلى الضربة الانتقامية المتوقّعة ضدّ إسرائيل، فقد تمكّنوا من إرسال رسالة إقليمية بأنّهم قوّة عسكرية لا يمكن تجاهلها بعد الآن.

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفان حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: العلاقات الإقليمية، عدوان إسرائيل على غزة
البلد: إيران، اليمن، فلسطين، لبنان

المؤلّفون

زميل زائر مبتدئ
فوزي الغويدي هو زميل زائر مبتدئ في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ويحمل ماجستير في التاريخ من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر. تشمل اهتماماته البحثية التاريخ الحديث في اليمن والخليج، بالإضافة إلى الحركات الاجتماعية وحلّ الصراعات وتشكيل الدولة. وساهم في البحث والتحليل حول الديناميكيات السياسية والاجتماعية التي تشكّل اليمن والخليج، والعلاقات بينهما. وقد ألّف… Continue reading كيف غيّر الحوثيون مشهد الحرب الإقليمية
عمر حسن عبد الرحمن هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، حيث يركّز على فلسطين وجيوسياسيات الشرق الأوسط  والسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة. وهو محرّر أفكار، المدونة الالكترونية الصادرة عن المجلس لمعالجة التطورات الإقليمية وأهم القضايا التي تهمّ المنطقة.   كان سابقاً زميلاً غير مقيم في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس في هيوستن.… Continue reading كيف غيّر الحوثيون مشهد الحرب الإقليمية