الجزائر على عتبة البريكس: مسيرةٌ من التطلّعات والفرص

لم تضمّ مجموعة البريكس في خلال قمّتها الـ15 #الجزائر إلى قائمة الدول التي وافقت عليها. وعلى الرغم من أنّ الجزائر تُعتبر المرشّح المثالي من الناحية السياسيّة، من المحتمل أنّ مكانتها الاقتصاديّة لم تكن جذّابة بما فيه الكفاية. فهل يمكن للوقفة قبل الانضمام المحتمل إلى عضوية البريكس في وقتٍ لاحق، أن تحثّ الجزائر على الإسراع في الإصلاحات الداخليّة التي طال انتظارها؟

17 ديسمبر، 2023
يحيى ح. زبير

في قمة مجموعة البريكس الخامسة عشر التي انعقدت في أفريقيا الجنوبيّة، غابت الجزائر عن قائمة الدول التي وافقت المجموعة المؤلّفة من خمسة أعضاء على ضمّها؛ واختيرت ستة دول من أصل 23 دولة مرشّحة: الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة. على الرغم من أنّ الجزائر تُعتبر المرشّح المثالي من الناحية السياسيّة، من المحتمل أنّ مكانتها الاقتصاديّة لم تكن جذّابة بما فيه الكفاية، أقلّه حتى الآن. فلا بدّ للوقفة قبل الانضمام المحتمل إلى عضوية البريكس في وقتٍ لاحق، من أن تحثّ الجزائر على الإسراع في الإصلاحات الداخليّة التي طال انتظارها وعلى التفكير والابتكار وتعزيز الجهود الآيلة إلى تثبيت موقعها كلاعب بلا منازع على الساحة الدوليّة.

 

لقد دعمت الجزائر على مرّ عقود الفكرة القائلة بتحويل النظام العالمي لجعله أكثر عدلاً. وفي سبعينات القرن الماضي، دافعت بشراسة عن إنشاء نظامٍ اقتصادي دولي جديد تتمثّل أهدافُه الرئيسيّة بوضع حدّ للاستعمار الجديد وقيام نظامٍ دولي أكثر إنصافاً. وسعى إعلان العام 1974 المتعلّق بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد إلى إنشاء عالم “قائم على العدل والمساواة في السيادة والتكافل والمصلحة المشتركة والتعاون بين جميع الدول، بغض النظر عن نظامها الاقتصادي والاجتماعي…” ولا تزال هذه الأفكار موضع نقاشٍ داخل منتديات حركة عدم الانحياز وغيرها من مجموعات الجنوب العالمي (على غرار مجموعة الـ77 والأونكتاد). إلّا أنّ هذه الأحلام المتعلّقة بنظامٍ اقتصادي دولي جديد لم تتحقّق أبداً لأنّ الجنوب العالمي لم يتمكّن من مواجهة الهيمنة الأمريكيّة، التي دافعت عن مؤسّسات نظام “بريتون وودز” (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي…) وما وصفه بعض المحلّلين بـ”إملاء” الدولار الأمريكي في معظم الصفقات التجاريّة العالمية. وازداد ذلك صعوبةً مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار النظام الليبرالي المفروض من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي. ولم تُنهِ سيطرةُ الغرب السعي وراء بدائل للهروب من نظامٍ مالي فرضت مؤسّساته شروطاً سياسيّة واقتصاديّة صارمة. على سبيل المثال، في سبتمبر 1989، شجّعت 15 دولة من أمريكا اللاتينيّة وأفريقيا (بما فيها الجزائر) وآسيا، المعروفة بمجموعة الــ15، النمو والازدهار والتعاون بين الدول النامية من أجل تحدّي مجموعة السبعة G7. وعلى الرغم من أنّ مجموعة الــ15 لم تنجح في تحقيق أهدافها، إلّا أنّ الفكرة التي روّجت لها عن عالمٍ “أكثر إنصافاً” وعدلاً استمرّت.

 

تجسّد مجموعة البريكس “صعود الأسواق الناشئة حول العالم”. وتسلّط الضوء على ضرورة إسماع القوى الناشئة صوتها على نطاقٍ أوسع في الحوكمة العالمية. إنّه مطلب مشروع بالنسبة إلى البريكس، التي تمثّل 43 في المئة من سكان العالم. في العام 2014، أنشأت مجموعة البريكس “بنك التنمية الجديد” و”ترتيب احتياطي الطوارئ”. يؤمّن “بنك التنمية الجديد” قروضاً لأغراض البنى التحتيّة والتنمية المستدامة في الاقتصادات النامية والناشئة بشروطٍ أكثر مرونة وكبديلٍ عن مؤسسات “بريتون وودز”.

 

سعت الحكومة منذ العام 2020 إلى إعادة إحياء السياسة الخارجية الجزائريّة وإدخال إصلاحات اقتصاديّة بهدف الحدّ من اعتماد البلاد على عائدات المواد الهيدروكربونية. وتداخلت هذه الرؤية مع رؤية مجموعة البريكس. وفي نوفمبر 2022، تقدّمت الجزائر بطلبٍ رسمي للانضمام إلى عضوية مجموعة البريكس. وفي يوليو 2023، أعلن الرئيس عبد المجيد تبون أنّ الجزائر تقدّمت أيضاً بترشّحها للانضمام إلى “بنك التنمية الجديد”، وعرضت المساهمة بمبلغ 1,5 مليار دولار في الرأسمال الأولي. وأوضح أنّ الجزائر تشاطر البريكس والصين الأهداف نفسها في ما يتعلّق بالتنمية وإصلاح الأمم المتحدة والإنصاف في العلاقات الدوليّة، وإنشاء عالم متعدّد الأقطاب؛ وأضاف أنّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين يتطلّبان إصلاحاً جدّياً، لم يعودا يخدمان مصالح البلدان الفقيرة والنامية.

 

يعترف المسؤولون الجزائريون سرّاً بأنّ العوائق الرئيسية أمام الانضمام إلى البريكس هي داخلية، على غرار النظام المصرفي القديم، ووجود اقتصاد غير نظامي قوي، والتحديات الناجمة عن البيروقراطية المتجذّرة والمتوغّلة والفساد المستشري على معظم المستويات. تلك هي نقاط الضعف التي يأمل الجزائريون بمعالجتها تحديداً من خلال الانضمام إلى عضوية البريكس، ما يمثّل نوعاً من المصادقة الخارجية وأداة محتملة للإصلاح الداخلي. فإذا انتسبت الجزائر إلى مجموعة البريكس، قد تستفيد من الاستثمارات من خلال كيانات مثل “بنك التنمية الجديد” و”ترتيب احتياطي الطوارئ”. ومن شأن ذلك أن يسمح لها بالنفاذ إلى أسواق الدول الأعضاء وبتعزيز بناها التحتية وبمواصلة مبادراتها المتعلّقة بالموارد المعدنية.

 

ويتطلّب ذلك التزاماً بمعالجة أوجه القصور المنهجية والفساد المستشري، وبالتالي إرساء قواعد للتقدم الاقتصادي والسياسي المستدام. من خلال معالجة هذه التحديات، تستطيع الجزائر وضع أُسس متينة لإحراز تقدم اقتصادي وسياسي دائم. عندها فقط يمكن للدولة استخدام منصّات مثل البريكس على النحو الأمثل لتحفيز عمليّة تحوّلها، وتعزيز القدرات الداخلية والفرص الخارجيّة لتحقيق تطلعاتها. وكما صرّح وزير الخارجية الجزائري، “على الرغم من أننا (كجزائريين) لم ننضم إلى مجموعة البريكس، نبقى ملتزمين بالدخول في مؤسسات كبنك التنمية الجديد ومنظّمة شنغهاي للتعاون”، مضيفاً أنّه “لا يجب اعتبار النتيجة بمثابة انتكاسة كبيرة للجزائر لا بل كخطوة مرحلية في إطار إستراتيجية طويلة الأمد”.

 

تتوافق العضوية في مجموعة البريكس مع مقاربة الجزائر إزاء العلاقات الدولية، المتجذّرة بعمق في سياسة عدم الانحياز. بموجب هذه السياسة، تحافظ الجزائر على موقف منصف في تفاعلاتها مع القوى العالمية، وتسعى إلى بناء علاقات تخدم مصالحها الوطنية على أفضل وجه. وتربط هذه المقاربة بحركة عدم الانحياز. وعلى الرغم من معارضتها لهيمنة الغرب، لا ترغب الجزائر في أن تصبح طرفاً في مواجهةٍ جديدة بين التكتلات، “والانضمام إلى هذه المجموعة (أي البريكس) سيبعد الجزائر التي تعتبر رائدة في عدم الانحياز عن تجاذب القطبَين”. أسوةً بجنوب أفريقيا، تَعتبر الجزائر الدول الغربية شركاء مهمين في التجارة والأمن كما في مجالات أخرى متعدّدة. وبالنسبة إلى الجزائر، يعني عدم الانحياز بناء علاقات جيدة مع كافة الجهات “المستعدة للاستجابة لإحتياجاتها…إذا كانت الصين، فهي الصين. إذا كانت روسيا، فهي روسيا. إذا كانت الولايات المتحدة، فهي الولايات المتحدة. الشيء الأهم هو مصلحتنا الوطنيّة”.

 

الجزائر بلدٌ غني. وهي تحتل مرتبة عالية في مؤشّر التنمية البشريّة للأمم المتحدة، غير أنّ نقطة ضعفها تكمن في إدارة اقتصادها. على الرغم من أنّ مجموعة البريكس لم تضع قائمة بمعايير العضوية بعد، لكن من الواضح أنّه ينبغي على الجزائر تطوير اقتصادها وتقويته وجعله مستقلاً عن المواد الهيدروكربونية، في حال أرادت أن يتم قبولها لأن الأداء الاقتصادي هو الذي يربط بين دول البريكس، التي يبلغ احتياطي عملاتها المشترك حوالي 4 تريليون دولار؛ وستمثّل بشكلٍ جماعي 32,1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي بحلول نهاية العام 2023، وتفوق بالتالي مجموعة السبعة. لقد بلغت التجارة داخل مجموعة البريكس 762 مليار دولار في العام 2022. بهدف تحقيق قدراتها الاقتصادية، ينبغي على الجزائر اعتماد إستراتيجيّة متعدّدة الأوجه. أولاً، من شأن تحديث القطاع المصرفي وتبسيط الإجراءات البيروقراطية أن يسهّل الطريق أمام الاستثمارات الأجنبية. لقد دأبت الجزائر في الآونة الأخيرة على تطوير إطارها الاقتصادي بغية جذب الرساميل المحليّة والدوليّة، ما يتجلّى في القوانين الجديدة على غرار قانون المال والائتمان وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص. تتوافق هذه التغييرات التشريعية مع مخطط عمل الحكومة لسبتمبر 2021، الذي يوصي بالاتجاه نحو التنمية وخلق الوظائف بقيادة القطاع الخاص. ومن أجل المحافظة على هذا المسار الإيجابي، ينبغي على الجزائر مواصلة تطبيق الإصلاحات لبناء مناخ مؤات للاقتصاد الكلّي حيث يمكن للقطاع الخاص أن يشكّل حجر الزاوية للنمو المستدام. ثانياً، بإمكان الجزائر أن تبادر إلى اتخاذ خطوات في اتّجاه اندماج عالمي أوسع من خلال إبرام اتفاقات ثنائية أو متعدّدة الأطراف مستهدفة مع دول مجموعة البريكس، مع التركيز بشكلٍ خاص على مجالات مثل الزراعة والطاقة والتعليم. على سبيل المثال، بإمكان الجزائر أن تضيف إلى مساهمة البريكس الحاليّة التي تشكّل حوالي 40 في المئة من إجمالي إنتاج الحبوب في العالم وأكثر من 50 في المئة من القيمة الزراعية العالمية. يقدّم ذلك فرصة قيّمة أمام الجزائر للتعلّم من هذه الدول الغنية زراعياً وللتعاون معها. من خلال المشاركة في عمليات نقل التكنولوجيا وتبادل الخبرات المتعلّقة بأساليب الزراعة المعاصرة، حتى في الصحراء الكبرى، تستطيع الجزائر تحفيز إنتاجيتها الزراعية إلى حدّ بعيد وبالتالي تأمين إمدادات غذائية مستقرّة وخلق منافع متبادلة. ومن شأن إنشاء تحالفات في مجال الطاقة مع دول البريكس أن يعزّز قدرة الجزائر على الصمود في مجال الطاقة ويولّد طرقاً جديدة للتصدير. أخيراً، قد يكون للتعاون في قطاع التعليم، ربما عبر برامج تبادل الطلاب المخطّط لها بين دول البريكس أو مبادرات البحوث المشتركة، فائدة مزدوجة: تحسين نظام التعليم الجزائري وبناء قوة عاملة ماهرة وقادرة على دفع عجلة الابتكار والنمو. وهذا يمكن تحقيقه لا سيما منذ عودة تبون من روسيا والصين باتفاقات اقتصادية هامة. تُعقد الآمال على تمكّن صفقة الاستثمارات بمليارات الدولارات التي وقعها مع الصين من مساعدة الاقتصاد الجزائري إلى حدّ بعيد وفي الوقت نفسه من تعزيز مكانة الجزائر داخل مجموعة البريكس.

لقد أعلن تبون في أكتوبر 2023 أنّ “ملف البريكس أُغلق نهائياً”. قد يكون خطأً فادحاً إذا عنى بذلك أنّ الجزائر لن تسعى إلى العضوية بعد الآن. بعد ذلك بوقتٍ قصير، شدّد الرئيس فلاديمير بوتين على أنّ عضوية الجزائر في البريكس مهمة جداً. إنّ الباب إلى البريكس مفتوح على مصراعيه؛ فمن شأن انضمام الجزائر إلى هذه المجموعة المهمة أن يقدّم فرصة فريدة لتنميتها. بفضل نقاط القوة الخاصة بها –احتياطيات الطاقة والمعادن الوافرة ودورها البارز كمركز إقليمي واقتصادي في أفريقيا بالإضافة إلى علاقاتها الدبلوماسية الراسخة مع دول البريكس الحالية- لا تزال الجزائر تمثّل مرشّحاً حتميّاً لعضوية البريكس.

 

بيد أنّه ينبغي على الجزائر اتخاذ بعض الخطوات للتحضير لعضويتها. فبالإضافة إلى الشروع في الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، قد يكون من الحكمة إنشاء مركز أو مراكز للدراسات المتعلّقة بالبريكس بغية إجراء بحوث حول أعضاء المجموعة وسبل التعاون في ما بينهم. وينبغي على الحكومة إنشاء مجموعة ضغط لتمثيل الجزائر لدى أعضاء البريكس. ويتوجّب على الحكومة أيضاً تشجيع برامج التبادل بين الباحثين والطلاب والفنانين والصحافيين والإعلاميين والمؤثّرين من أجل تقديم معلومات حول قدرات البلاد. على سبيل المثال، تستطيع الجزائر الترويج لفكرة بناء مدرسة تابعة للبريكس بالتعاون مع إحدى الدول الأعضاء أو العديد منها. ويمكنها أيضاً اقتراح إقامة منطقة تجارة حرّة بين البريكس والجزائر أو الأفضل من ذلك منطقة للتجارة الحرّة القارية بين أفريقيا والبريكس على نسق منطقة التجارة الحرّة بين الصين ورابطة دول جنوب شرق آسيا، واقتراح تسديد المدفوعات بين الدول الموافقة بالعملات المحلية. كما يمكن أن تبادر الجزائر إلى إنشاء مجلس للأعمال تابع لمجموعة البريكس في إحدى مدنها الجنوبية، حيث تُطوّر الجزائر الزراعة الصحراوية وتعزز تنمية الاكتفاء الغذائي. ومع إنجاز الطريق السريع العابر للصحراء، تُعتبر الجزائر في وضعٍ جيّد يؤهلها لتطوير التجارة بين مجموعة البريكس ودول جنوب الصحراء الكبرى. إنّ الإمكانيات هائلة، ومن شأن رعايتها أن تجعل من الجزائر عضواً لا غنى عنه حقاً من أعضاء مجموعة البريكس.

 

نُشرت هذه المقالة في الأصل على الموقع التالي:
https://valdaiclub.com/a/highlights/algeria-at-the-brics-doorstep/
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاقتصاد السياسي، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العلاقات الإقليمية، منافسة القوى العظمى
البلد: الجزائر

المؤلف

زميل أوّل غير مقيم
يحيى ح. زبير هو زميل أول غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية وبروفيسور في الدراسات الدولية والجغرافيا السياسية في عدد من الجامعات وكليات الأعمال في فرنسا والولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وغيرها. وكان في العام 2020 زميلاً زائراً في مركز بروكنجز الدوحة. وهو متخصّص في سياسات شمال أفريقيا… Continue reading الجزائر على عتبة البريكس: مسيرةٌ من التطلّعات والفرص