يطرح نجاح إسرائيل في اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ثمّ بدء الاجتياح لبعض مناطق الجنوب اللبناني، قضيّتين مترابطتين. أوّلاً، على مستوى وضع الحزب ودوره المستقبلي في لبنان والإقليم. لا شكّ أن ما حصل كان ضربة كبيرة للحزب خصوصاً أنّها ترافقت مع سلسلة من الاغتيالات التي أصابت هرم الحزب الأمني والعسكري وأنهكت جسمه الرئيسي، إضافة إلى الضربات الوحشية ضدّ حاضنته الشعبية في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع. لكن هذه الضربة لا تنهي الحزب أو المقاومة. فهناك أولاً جسم الحزب السياسي المركزي وعصبه قيادات قديمة ومخضرمة وشابة ترفدها مؤسّسات كبيرة اجتماعية وخدمية وثقافية وسياسية راسخة في المجتمع الشيعي، وعلى رأسها طاقم متمرّس من النواب والوزراء الحاليين والسابقين، ومن المشايخ الذين يمسكون بالمجتمع الديني، ومن قادة الأجهزة والمؤسّسات المختلفة.
زد على ذلك الالتفاف الشعبي الشيعي حول الحزب والذي لا يتوقّع أن ينتهي، بل لعلّه سيشتدّ بشكل دفاعي في وجه ما قد يعتبره الجمهور خطراً يهدّد وجود الطائفة في مواقع السلطة في لبنان. يُضاف إليه وإلى حدّ ما التفاف وطني بلحاظ المظلومية ومواجهة العدوان ليس إلّا، والذي قد يتضاءل وينكفئ تبعاً لسياسات الحزب نفسه في علاقاته مع مكوّنات المجتمع اللبناني الأخرى، كما حدث في مراحل سابقة.
على المستوى الداخلي، سيعمل الحزب بكل تأكيد على إنجاز عملية انتقال سريعة في أعلى هرم القيادة (منصب الأمين العام الذي يبدو محسوماً لخليفته المُعيّن أصلاً السيد هاشم صفي الدين) وفي المواقع العسكرية والأمنية التي شغرت نتيجة الاستهدافات الإسرائيلية، يساعده في ذلك توفّر الكوادر البشرية مع استمرار الإشراف الإيراني المباشر.
سيواجه الحزب بلا شكّ جملة من التحدّيات تتمثّل أولاً في فهم أسباب الفشل في توقّع الخسائر التي حصدها وتجنّبها. لقد بنى الحزب إستراتيجيته في إسناد غزة على تقدير للوضع عنوانه الالتزام بقواعد الاشتباك والردع المتقابل، لكن سرعان ما تبيّن أنّه تقدير خاطئ ما سمح لإسرائيل بالاستعداد لجبهة الشمال. خلال الحرب على غزة، نجح الإسناد في تهجير عدد من مستعمرات الجليل وفي تحقيق إصابات في جنود الاحتلال ومواقعه، ولكن كانت كفة الجيش الإسرائيلي هي الراجحة، أكان على مستوى حجم الخسائر البشرية والدمار في قرى وبلدات الجنوب والبقاع والضاحية، أم على مستوى نجاح إسرائيل في اغتيال عشرات الكوادر والمقاتلين من الحزب وحماس والجهاد فاق عددهم الأربعماية، وذلك قبل الضربات الأخيرة الموجعة.
كما أنّ الخطأ الأهم الذي وقع فيه الجميع كان في تجاهل مستوى الوحشية الصهيونيّة، ناهيك عن عدم فهم إشارات الموقف الأمريكي الحاضن والمشارك في عملية الانتهاء من وجود قوى راديكالية مثل حماس والجهاد وحزب الله على رقعة الشرق الأوسط. وكذلك عدم فهم معنى التلويح الأمريكي والأوروبي المتكرّر بخطرِ الحرب «المفتوحة» وبضرورة ضبط النفس والذي ساهم في شل فعّالية الإسناد الإيراني. من جهة أخرى، لعلّ الجميع أخطأ في تقدير إستراتيجية نتنياهو في إطالة أمد الحرب على غزّة، بحيث فقد الإسناد مع الوقت كثيراً من قدرته وأهدافه بعد أن واصل حكّام إسرائيل وجيشهم إجرامهم المخيف غير المسبوق في تاريخ الحروب المعاصرة، وبدأوا بعمليات التوغّل واعتداءات الجيش والمستوطنين في الضفّة الغربيّة.
لقد تدرّج التصعيد الإسرائيلي قبيل وصول نتنياهو إلى الأمم المتحدة حيث كانت تعقد على هامش اجتماع الجمعية العامة مشاوراتٌ بين الولايات المتحدة وفرنسا ومصر والسعودية وقطر (أواللجنة الخماسية)، وحتى إيران، للتوصّل إلى اتفاق جديد بخصوص غزة سارع الأمريكيون إلى الإعلان عن خطوطه العريضة. لكن نتنياهو مهّد لدخوله قاعة الجمعية العامة في نيويورك بضربات الثلثاء 17 سبتمبر استهدفت أجهزة “البيجر” والأربعاء 18 في أجهزة اللاسلكي، ثمّ اغتيال القيادة العسكرية الجمعة 20 سبتمبر، ثمّ ضربة الإثنين الأسود في الضاحية يوم 23 سبتمبر، ووصولاً إلى أبشع الغارات الجوية التي هدفت لاغتيال السيد نصر الله يوم الجمعة 27 سبتمبر وتمثّلت بإلقاء 85 صاروخاً يزن الواحد منها نحو الطن من المتفجّرات. وهدف نتياهو خلق أمر واقع يدخل من خلاله اجتماعات نيويورك ومشاورات اتفاق غزة من موقع قوّة لفرض موقفه ومطالبه، مدعوماً بموقف أمريكي (وأوروبي) واضح بإعلان الارتياح للخلاص من “الإرهابيين” المطلوبين أمريكياً ودولياً.
الداخل اللبناني المنقسم
ثانياً، على مستوى الوضع اللبناني الداخلي، جاءت هذه الحرب المعلَنة على حزب الله ولبنان في وقت كان يتعمّق فيه الانقسام بين مكوّنات المجتمع حول مسألة المشاركة في حرب إسناد غزة، مع وجود تيار قوي بين اللبنانيين يرفض دخول لبنان مرّة جديدة في دائرة دفع ثمن هذه المشاركة. تقاطع هذا الانقسام القديم المتجدّد مع الخلاف المستمر حول الانتخابات الرئاسية والتي جاءت أحداث غزة لتدفع بها إلى الوراء ولتعطل عمل اللجنة الخماسية والجهود الإقليمية والدولية لإيجاد توافق لبناني على مرشّح مقبول. لكن مع تصاعد وحشية العدوان، حصلت حالة صدمة تلتها حالة تضامن مهمّة عبّرت عنها مواقف وليد جنبلاط أساساً والتفاف كلّ اللبنانيين حول جهود إيواء اللاجئين وإعانتهم، وصولاً إلى مواقف مُعلَنة لكل من سمير جعجع وسامي الجميّل وسعد الحريري ونجيب ميقاتي، وغيرهم، بأنّ الوقت ليس للخلاف والمزايدات، بل للتضامن وحماية لبنان. ويراهن الكثيرون على التقاء وجنبلاط وبرّي وميقاتي لبلورة مقترح إنقاذي يوافق عليه بقية الأطراف لحماية لبنان من مستقبل يبدو أنّ نتياهو يريده قاتماً.
المؤلم في الوضع الجديد هو قافلة النزوح التي وصفها البعض بالفاجعة، والتي لم تبدّد مفاعيل التضامن والوحدة، بل فضحت أيضاً خواء البلادِ المنهوبةِ والمجتمعِ الممزّقِ والدولةِ المفلسةِ المتهالكةِ من كلّ ما قد يرُدُّ عن البشر ما يفتَرَضُ ردّه من ويلاتِ الحروب، إذا لم يكن من خوضها بُدّ، على حد وصف الدكتور أحمد بيضون. يُضاعف من حجم هذه الفاجعة وويلاتها غيابُ أي دعم وأي مساعدات دولية وعربية، وغياب أي دور لمنطمات المجتمع المدني والجمعيات اللاحكومية، ناهيك عن المؤسّسات الرسمية، وذلك عكس ما حصل خلال حرب تموز 2006. لكن الأسئلة التي تقلق اللبنانيين اليوم تتمثّل في معرفة إلى أي مدى سيتوسّع الهجوم الإسرائيلي البرّي الذي بدأ فجر الأول من أكتوبر في الجنوب، وما هي احتمالاته في ظل موقف أمريكي معلَن يقول بمعارضة توسّع الحرب في لبنان ولكنّه يوافق على ضرب حزب الله وإنهاء وجوده؟ وفي المقابل ما مدى جهوزية حزب الله في التصدّي للاجتياح، بعد كل الضربات والنكسات التي أصابته.
الأكيد أنّ إسرائيل ذاهبة إلى أبعد مدى لتصفية حسابها بالكامل مع لبنان ومع حزب الله طالما أنّ الفرصة سانحة والمجتمع الدولي يغض النظر. وتشمل الخطة الإسرائيلية اجتياحاً (غير معروف المدى) في جنوب لبنان والبقاع، ربما لخلق منطقة عازلة، تعيد تذكير اللبنانيين بالشريط الحدودي قبل التحرير عام 2000؛ ولعل إسرائيل تريد الوصول إلى نهر الليطاني، وربما إلى أبعد من ذلك، تمهيداً لفرض تسوية على لبنان وعلى حزب الله تتمثّل في تطبيق كامل وشامل للقرار مجلس الأمن 1701 الدّاعي إلى وقفٍ كامل للعمليات القتالية في لبنان، ووضع نهاية للحرب الثانية بين إسرائيل ولبنان التي استمرت 34 يوماً حينها. أي أنّ إسرائيل قد تستمرّ في هجومها، بما في ذلك الهجوم البرّي، لتدمير بنية الحزب العسكرية ومستودعات الأسلحة التابعة له، في محاولة للقضاء عليه أو إضعافه كثيراً، مستفيدةً من نجاحاتها في اغتيالات القيادات السياسية والعسكرية.
أمّا الخيار الثاني، فهو أن تتدخّل ايران مباشرة، وهذا الاحتمال غير واضح حتى اليوم قوته ومداه. وبالتالي، فإنّ الوضع اللبناني برمّته مرهون، بمدى صمود المقاومة في الجنوب بعد كل الضربات التي تلقاها حزب الله، وبالموقف الإيراني ودوره في المواجهة المقبلة، وبمدى استعداد حزب الله وبقية الأطراف المحلية (خصوصاً نبيه برّي ووليد حنبلاط) للموافقة على تطبيق القرار 1701. علمًا بأنّ الحزب لا يزال على موقفه في رفض أي اتفاق في جنوب لبنان لا يرتبط باتفاق لوقف الحرب على غزة (وهذا ما أعلنه الشيخ نعيم قاسم في بيان نعيه للسيد حسن نصرالله). في حين عبّر وليد جنبلاط عن تمسّكه باتفاق الهدنة لعام 1949. ويبدو أخيراً أنّه حصل اتفاق بين برّي وميقاتي على التعجيل بانتخاب رئيس توافقي، لعلّه قائد الجيش جوزيف عون، يتولّى هو التفاوض لتطبيق القرار 1701.