رزح اليمن تحت الحكم السلطوي طوال عقودٍ، إلّا أنّه تمتّع بالحكم عبر المجالس الرئاسية في فترات متقطّعة من تاريخ اليمن المعاصر، ما أضاف التنوع إلى المشهد السياسي اليمني. لذلك، حينما صدر قرار تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل ليحلّ محل الرئيس عبدربه منصور هادي، رحّب به الكثير من اليمنيين ورأوا أنّه الآلية المناسبة والمألوفة لحلّ الصراع وإنهاء الحرب المستمرّة منذ سبع سنوات.
ويضمّ مجلس القيادة الرئاسي الجديد ثمانية أعضاء: أربعة من الجنوب وأربعة من الشمال، ويرأسه رشاد العليمي، وزير الداخلية الأسبق والمنتمي إلى حزب المؤتمر والذي يتمتع بصلاحيات أكبر من الأعضاء السبعة الآخرين، كونه رئيساً للمجلس. وقد نجح المجلس حتى الآن في تهدئة الوضع وتجميع الأطراف المختلفة تحت مظلة الحكومة الشرعية، إلّا أنّه وبحسب تجارب المجالس الرئاسية السابقة، قد يعيق عاجلاً أم آجلاً عملية السلام في اليمن.
تجربة اليمن مع المجالس الرئاسية
لم تكن تجربة اليمن إيجابية مع المجالس الرئاسية منذ ما يقارب نصف قرن أو أكثر، سواءً عندما كانت البلاد منقسمة بين الجمهورية العربية اليمنية شمالاً وجمهورية اليمن الديمقراطية جنوباً، أو ما بعد وحدة الشطرين عام 1990. فقد جرت أول تجربة لمجلس رئاسي عقب ثورة 26 سبتمبر عام 1962، والتي أطاحت بالحكم الإمامي في شمال اليمن. وتألّف المجلس حينها من العسكر وترأسه عبدالله السلال، الذي يُعتبر أول رئيس للجمهورية الوليدة. وظلّ المجلس يتمدّد وينكمش بعدد الأعضاء إلى أن أُلغي عام 1966 بعد أن فشلت تجربة المجلس بسبب تفرّد السلال في صنع القرار، وهو ما أدّى إلى الانقلاب عليه وتشكيل مجلس رئاسي آخر سُمّيَ بالمجلس الجمهوري برئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني. تميّز هذا المجلس عن غيره بعدم تفرّد رئيسه في القرار، لكنه في نهاية المطاف تمّ الانقلاب عليه في ما عُرف بحركة 13 يونيو التصحيحية عام 1974.
شكّل إبراهيم الحمدي، قائد الانقلاب، مجلسَ القيادة العامة وترأسه، ولم يكن المجلس سوى هيئة شكلية، حيث امتلك الحمدي السلطة المطلقة وتفرّد بصناعة القرار، ولم يختلف المجلس الرئاسي بعد اغتيال الحمدي عن سابقه. وفي العام 1979 وعقب اغتيال الرئيس أحمد الغشمي، شهد اليمن صعود علي عبدالله صالح رئيساً للبلاد والذي استمرّ في السلطة 33 عاماً. ولم تختلف المجالس الرئاسية في جنوب اليمن كثيراً عن شماله، بيد أنه أُعطيت سلطة متساوية لأعضاء المجلس الذين تبنّوا الفكر الماركسي لكن تباينوا ما بين النموذج الصيني والروسي، نتج عنه صراعاً داخلياً أفضى إلى محطات من الانقلابات أو إجبار الرئيس على التنحي، ما جعل الأمور تحتدم وتصل إلى حرب أهلية شاملة خلّفت الآلاف من القتلى عام 1986.
أمّا بعد إعلان الوحدة بين الجنوب والشمال عام 1990، فتشكّل مجلس رئاسيّ مثّل شريكيّ الوحدة، علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض. واتّسم هذا المجلس بتقاسم حقيقي للسلطة إلى حدّ ما، لكنّه افتقر إلى التوافق، ممّا خلق خلافات سياسية حُسمت عسكرياً عندما تعذّر التوصّل إلى حلول سياسية، فانجرفت البلاد إلى حرب صيف 1994، نتج عنها سقوط المجلس الرئاسي واحتكار صالح للسلطة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا شهد اليمن هذا التاريخ الطويل من الفشل في الحفاظ على القيادة الجماعية؟ والجواب في شقّين. أولاً، إنّ السبب الرئيسي لفشل المجالس الرئاسية هو احتكار رئيس المجلس للسلطة وتفرّده بالحكم وصناعة القرار بعيداً عن أعضاء المجلس. وكذلك غياب التجربة الديمقراطية والحكم الجماعي، مع ترسّخ حكم الفرد الواحد في الذاكرة اليمنية والنظر إليه كقائد أوحد، مما جعل التوافق داخل المجالس الرئاسية مهمّة غير مُنجزة عجزت عن تحقيقها جميع المجالس الرئاسية في اليمن. ثانياً، لم يكن اختيار أعضاء المجلس يرتكز إلى معايير محدّدة أو طريقة ديمقراطية، وإنّما حدّدتها الأطر الفاعلة في اللحظة الزمنية لتكوّن المجالس الرئاسية. كما أنّ غياب الشفافية والبنية التنظيمية الواضحة للمجالس وعدم تحديد ماهية صلاحيات أعضاء المجلس ورئيسه ومهامهم جعلت تجربة المجالس الرئاسية مليئة بالتخبّطات والاحتقانات والصراعات الداخلية.
مجلس القيادة الرئاسي: حلٌ مؤقت أم قنبلة موقوتة؟
تمّ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الحالي برعاية المملكة العربية السعودية والإمارات (وهما طرفان فاعلان في حرب اليمن)، ومن المؤسف أن تشكيله لم يتمّ بناءً على تجارب الماضي، بل جاء نتيجة النفعية السياسية والرغبة في تجاوز فترة رئاسة هادي المؤقتة والذي حكم بسلطة مركزية منذ عام 2012، وكما في الماضي تألّف من أعضاء يفتقرون إلى الثقة والتعاون الفعّال في ما بينهم. وبينما قد يساهم النفوذ المستمرّ للسعودية والإمارات في بقاء المجلس وحمايته من التفكك، إلّا أنّه سيجعل صناعة القرار مرتهنة للجهات الخارجية.
وعلى هذا النحو، وصف الرئيس العليمي المجلس بأنه “مربعات متقاطعة“، ويمتلك بعضهم أهدافاً خاصة وتصورات مختلفة، وما يجمع بينهم هو مناهضة جماعة الحوثي المسيطرة على العاصمة صنعاء وأجزاء من شمال البلاد.
وفي مقابلة أجراها رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة، مؤخّراً مع معهد الشرق الأوسط في واشنطن، أوضح أنّه اتفق مع الأعضاء على تأجيل البتّ في التصورات المتباينة إلى أن يحقّق المجلس أهدافه المتمثّلة باستعادة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها، وتقديم الخدمات في المناطق المحرّرة، وتحسين مستوى معيشة المواطن. كما أنّه لم يُستخدم التصويت داخل المجلس في معالجة القضايا، وإنما يُستخدم التوافق والحلول المشتركة وأحياناً أسلوب الضغط على العضو من قبل جميع الأعضاء.
إلّا أنّ أحداث محافظتي شبوة وأبين في أغسطس الماضي أظهرت عدم التوافق داخل مجلس القيادة الرئاسي، حيث حدثت اشتباكات بين قوات المجلس الانتقالي المدعومة من الإمارات العربية وقوات الأمن، والتي يُقال بهيمنة حزب الإصلاح عليها، وهما ممثلين في المجلس. وقد أفضت هذه الاشتباكات إلى سيطرة قوات المجلس الانتقالي على مدينتي أبين وشبوة، مما يُظهر غياب اعتماد التوافق في اتخاذ القرارات كما ينصّ إعلان نقل السلطة. كما توضّح بأن رئاسة المجلس قد تفشل في منع أعضائه من استخدام القوات المسلحة خارج الإرادة الجماعية للمجلس، أو حتى احتواء التوترات بين القوات المسلحة لأعضائه على أرض الواقع.
في حين لا يبدو أنّ المجلسَ الحاليّ معرّضٌ لخطر هيمنة الفرد الواحد عليه، إلّا أنّ هناك مخاوف مشروعة من أن يكون رئيس مجلس القيادة مجرّد رئيس صُوَريّ يمرّر مصالح القوى الخارجية، كما أنّه لا يزال يتجاهل دروس الماضي من الفشل في تحقيق التوافق في صناعة القرارات الفعّالة والشاملة، بحيث أنّ التوافق داخل مجلس القيادة سينعكس على الميدان من وقف إطلاق النار وإحلال السلام.
لا مجال للشكّ بأن مجلس القيادة الحالي تشكّل في لحظة تاريخية قد تكون أصعب من كلّ اللحظات التي عاصرتها المجالس السابقة. فهناك ضغوطات كبيرة من أطراف خارجية لها أجندتها، وحرب مستمرة، وجماعات مسلّحة، ووضع إنساني كارثي، واقتصاد قائم على المساعدات، وهي كلّها عوامل لم تجتمع في وقت تشكيل المجالس السابقة. ورغم ذلك، نرى أنّ المؤشّرات كافة، وأحداث شبوة على وجه التحديد، قد تقود إلى سيناريو انفجار المجلس كقنبلة موقوتة يحاول كلّ طرف فيه شراء الوقت والإعداد لما بعد ذلك. أمّا السيناريو الآخر، فهو استمرار الضغط السعودي والإماراتي على مجلس القيادة الرئاسي في حلّ خلافاتهم سلمياً، وتحقيق أهداف مجلس القيادة الرئاسي التي أُعلن عنها. ولكنه بطبيعة الحال قد يقود إلى تنفيذ أجندة خارجية، وهو ما يجعل مهمّة المجلس الرئاسي في قيادة البلاد إلى برّ الأمان أشبه بالمهمة المستحيلة.
كُتبت هذه المقالة أصلاً باللغة العربية وتُرجمت إلى اللغة الانكليزية.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.