كان الصيف الليبي حارّاً وطويلاً. لقد أجهد الطلب على استخدام مكيّفات الهواء شبكة الكهرباء في البلاد، وتسبّب بانقطاع شبه تامّ في التيّار الكهربائي، كتأكيد إضافي على عجز حكومة الوحدة الوطنيّة عن تحسين الحياة اليوميّة لشعبها. مع تصاعد الاحباط الشعبي إزاء فشل النخب السياسيّة المستمرّ في تنظيم الانتخابات، أثار انقطاع التيّار الكهربائي احتجاجات شعبيّة مُنظّمة – وإن كانت عنيفة في بعض الأحيان – في خلال شهر يوليو الماضي في مختلف المدن الليبيّة. نزل الشباب إلى الشوارع للمطالبة بتحسين الخدمات الحكوميّة والفرص الاقتصاديّة وإجراء الانتخابات التي وعدت بها اتفاقيّة تقاسم السلطة المُبرمة في فبراير 2021.
تزامنت الاحتجاجات مع تزايد المشاحنات بين النخب السياسيّة، خصوصاً بعد إلغاء الانتخابات الرئاسيّة المُقرّرة في ديسمبر 2021، إذ دعا رئيس مجلس النواب عقيلة صالح منذ ذلك الحين إلى تنحي رئيس الوزراء الليبي المؤقّت عبد الحميد دبيبة، ووصلت الأمور بالبرلمان إلى تعيين فتحي باشاغا – حليف صالح – مكانه في فبراير الماضي. من جانبه، رفض دبيبة الاستقالة في ظلّ عدم إجراء الانتخابات، وهو ما أعاد ليبيا إلى حالة من الاضطراب تؤجّجها مطالبة خصمان متنافسان بالقيادة الشرعيّة للبلاد، وصولاً إلى إشعال الميليشيات المُرتبطة بهما حرب شوارع في العاصمة في خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين.
وقد زعزعت الاحتجاجات الشعبيّة والاشتباكات المُسلّحة استقرار النخب السياسيّة التي حكمت ليبيا منذ إبرام اتفاقيّة تقاسم السلطة، فيما أثار العديد من المراقبين مخاوف بشأن العودة المُحتملة إلى الحرب الأهليّة. مع ذلك، من غير المرجّح أن تُحرِز الاحتجاجات أو العنف المُتقطع أي تغيير لافت في الوضع السياسي في البلاد. بل على العكس، ستضمن هيكليّة إتفاقيّة تقاسم السلطة – وخاصةً الحوافز الكثيرة التي توفّرها – أن تحافظ النخب السياسيّة على الوضع الراهن من خلال الجهود المبذولة لحماية التوازن الهشّ بين مصالح طرفي الصراع، وتأجيل الانتخابات أو تعليقها إلى أجل غير مُسمّى.
الإتفاقيّة الهشة لتقاسم السلطة في ليبيا تحت الضغط
تمّ التوصّل لإتفاقيّة تقاسم السلطة التي رعتها الأمم المتّحدة بدعمٍ من المجتمع الدولي الحريص على إنهاء الحرب الأهليّة بسرعة بعد عقد من انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي. تُعتبر الاتفاقيّة ناجحة في هذا السياق، على الرغم من عدم التوصّل إلى حلّ العديد من الميليشيات والمجموعات المسلّحة غير النظامية. صَمّم المفاوضون الإتفاقيّة عبر توزيع الحقائب الوزاريّة والمناصب الحكوميّة على ممثّلي مجموعات المصالح المُتباينة لضمان قبولهم المبدئي بها، وهو ما ترك دبيبة، بصفته رئيساً مؤقّتاً للوزراء، مع حكومة متصدّعة وغير مُتجانسة، وبالتالي عاجزة عن اتخاذ القرارات وتنفيذ الحلول السياسيّة المُتماسكة. أيضاً، خلق هذا الترتيب فرصاً لتفلّت الفساد والمخالفات عن عقالهما، بحيث استغل أعضاء السلطة قدرتهم على الوصول إلى الموارد الحكوميّة لإثراء أنفسهم والمحسوبين عليهم.
منذ دخول الإتفاقيّة حيّز التنفيذ، تجمّعت شبكة مُعقّدة من المصالح الليبيّة المُتنافسة، والمجموعات السياسيّة، والميليشيات، والقبائل حول ثلاث نقاط قوّة تمثّلت بكلّ من دبيبة وصالح وخليفة حفتر الذي يُعدُّ قائد أكبر جيش خاصّ في البلاد. وقد أدّت المنافسة بين الأطراف الثلاثة إلى تعليق صادرات النفط، واستمرار الخلاف حول السيطرة على المؤسّسات السياديّة ولا سيّما المصرف المركزي. ولم تُتخذ أي خطوات جوهريّة لتشكيل جيش أو شرطة ليبيّة موحّدة، أو نزع سلاح الميليشيات أو إجلاء الجيوش الأجنبيّة الداعمة لأطراف الصراع المُختلفة. في الواقع، تفتقر حكومة الوحدة الوطنيّة إلى القدرة على تحسين الخدمات الحكوميّة أو حتّى ضمان احتكار استخدام القوّة، فيما ازداد الخلاف السياسي منذ إلغاء الانتخابات الرئاسيّة التي كانت مُقررة في ديسمبر 2021. مع ذلك، لا تزال إتفاقيّة تقاسم السلطة سارية المفعول بالتوازي مع الهيكليّة الحكوميّة المختلّة وظيفياً.
وقد أثّرت الاحتجاجات الأخيرة في الصراع بين معسكري الدبيبة وصالح. ففي حين وجّه بعض المتظاهرين غضبهم نحو صالح والبرلمان وصولاً إلى حرق مكاتب برلمانيّة، اشتبك رئيس مجلس النواب ورئيس وزرائه باشاغا مع الميليشيات في طرابلس في محاولات فاشلة عدّة للوصول إلى المكاتب الوزاريّة وطرد وزراء حكومة دبيبة منها. في المقابل، كان ردّ دبيبة على الاحتجاجات مختلفاً بشكل لافت، لكنّه أيضاً ساهم في حالةانعدام الاستقرار في السياسة الليبيّة، تمثّل بالتواصل مع خليفة حفتر، المنافس القديم والحليف السابق لصالح، لعقد تحالف صريح معه. وقد عزّز دبيبة هذا التحالف عبر استبدال رئيس شركة النفط الوطنيّة بأحد مؤيّدي حفتر. على الرغم من إدخال المحاصصة على إدارة مؤسّسة أساسيّة مسؤولة عن تأمين الاستقرار الاقتصاد الليبي، إلّا أنّ هذه الخطوة تخلق فرصة لاستئناف تصدير النفط من المحطّات التي أغلقتها قوّات حفتر، وهو ما سوف يضمن بدوره حصول الحكومة على الموارد اللازمة لتوسيع الخدمات وخلق فرص العمل، فضلاً عن تعزيز مكانة دبيبة تجاه الأطراف الخارجيّة المُتحرّقة لاستئناف تصدير النفط الليبي.
الآفاق المُحتملة لإجراء إنتخابات حرّة ونزيهة
عند التفكير في الآفاق المستقبليّة في ليبيا، تبدو المخاوف من إمكانيّة عودة الحرب الأهلية مبالغاً فيها. عند مغادرة منصبها في نهاية يوليو الماضي، حذّرت المستشارة الخاصّة للأمين العام للأمم المتّحدة في ليبيا ستيفاني ويليامز من تقويض استقرار البلاد نتيجة عدم رغبة النخب السياسيّة بوضع مصالح البلاد فوق مصالحهم الخاصّة. بالتأكيد لا يوجد لبس في ذلك، فرغم احتدام المنافسة بين النخب السياسيّة الليبيّة للسيطرة على الدولة ومواردها، سوف يخسر الطرفان في النهاية إذا غرقت البلاد في مستنقعات من العنف واسعة النطاق. لكن من المحتمل أكثر أن يشهد الليبيون فترات من الاشتباكات المُتقطعة، تختبر النخب المحلّية من خلالها إرادة المنافسين والجهات الفاعلة الدوليّة. ومن المرجّح أنّ تصمد الهيكليّة الحكوميّة التي أُنشِئت بموجب إتفاقيّة تقاسم السلطة كونها تخدم مصالح النخب السياسيّة الأوسع.
في هذا السياق، تغيب احتمالات إجراء إنتخابات على المدى القريب. وفي حين أُبرمَت إتفاقيّة تقاسم السلطة بالتوصّل إلى تفاهم بين النخب يقضي بإجراء الإنتخابات الوطنيّة في خلال عام، لم يتضمّن أيّة شروط متّفق عليها. وقد سمح ذلك للسياسيين، مثل دبيبة وآخرين، بالتعبير عن دعمهم لإجراء الإنتخابات علناً، فيما يستمرّون بالجدالات والمراوغة حول التفاصيل من أجل تأخير إجرائها. في الواقع، يتردّد المُحكِمون بالسلطة من إعادة الناخبين إلى صناديق الاقتراع خوفاً من إحداث خللٍ في موازين القوى وتعطيل قبضتهم على السلطة التي استحوزوا عليها من خلال سياسات النخب بدلاً من التفويض الشعبي.
وبالنظر إلى الدوافع المُحفّزة لتأخير الإنتخابات، يُرجّح ألا يُجري هذا الاستحقاق إلّا بعد ضمان نتائجه، أو إذا تغيّرت الحسابات السياسيّة لصالح أحد المعسكرين المتنافسين؛ معسكر الدبيبة أو معكسر صالح. في ظل الأجواء الحالية المُخيّمة على أمن الطاقة، لا شكّ في أنّ المجتمع الدولي سوف يدعم النتيجة التي قد تخرج بها انتخابات مُماثلة حتّى لو لم تكن حرّة ونزيهة. وعلى الرغم من أنّ هذا الاحتمال سوف يحبط الشباب المتظاهرون – وثوّار العام 2011 – الذين يستحقّون فرصة لتحقيق طموحاتهم الديمقراطيّة، إلّا أنّ معظم الليبيين الذي يسعون بشدّة إلى الاستقرار بعد عقد من الصراع والاقتتال، سوف يقبلون بأية خاتمة ناتجة عن الحيل السياسيّة والفوضى الأمنيّة التي عمّت البلاد منذ الثورة.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.