بعث الاتفاق الدبلوماسي بين المملكة العربية السعودية وإيران الآمال في إمكانية التوصّل إلى اتفاقية سلام في اليمن الذي شهد حرباً مستعرة لأكثر من ثماني سنوات بدعم من الطرفين. فعلى مدى الأسبوع الماضي، عقد مسؤولون حوثيون محادثات سلام في صنعاء مع وفد يقوده سفير المملكة العربية السعودية في اليمن محمد بن سعيد آل جابر وفريق وساطة عُماني.
يشير اجتماع صنعاء إلى أنّ اتفاق وقف إطلاق النار بين السعودية والحوثيين أصبح وشيكاً وأنّ الرياض مستعدّة للإعتراف تدريجياً بمكاسب الحوثيين والتنازل عن مطالبها. لكن في ظلّ غياب موافقة الجهات الفاعلة المحلّية الأخرى، من المرجّح أن تستمرّ الحرب وأن يسهم الاتفاق في تعزيز سلطة الحوثيين.
وتدلّ المؤشِّرات على أنّ اتفاق وقف إطلاق النار سيتضمّن التزامات بإجراء محادثات مباشرة بين الحكومة اليمنية والحوثيين. مع ذلك، سيحتاج الطرفان إلى إثبات قبولهما بهذه الشروط، ولا بدّ من أن تشمل أي مفاوضات لاحقة جميع الفصائل المعنية من أجل تحقيق سلام دائم.
لقد عزّز استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران في أوائل مارس الماضي التفاؤل في إنهاء الحرب بين الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية والحوثيين المدعومين من إيران. لكن بعد أقل من أسبوعين، اندلع القتال مُجدّداً، مُنهياً الهدنة التي استمرّت ستة أشهر ومشيراً إلى أنّ التقارب بين هاتين القوّتين الإقليميتين قد لا يجلب السلام إلى اليمن.
وتشير الاشتباكات الأخيرة في محافظة مأرب وغيرها من المناطق إلى أنّ الاتفاق الإيراني السعودي قد يكون فرصة للحوثيين للاستيلاء على مناطق إضافية في ظلّ خفض التصعيد من قبل الأطراف الأخرى، إذ إنّ الحوثيين لا يملكون سبباً للاعتقاد بأنّ هذه التطوّرات الإقليمية سوف تخدم مصالحهم، عدا أنّ سجّلهم حافلٌ باستغلال المفاوضات لتعزيز سلطتهم.
صحيح أنّ الانفراج السعودي الإيراني خطوة ضرورية نحو تحقيق الاستقرار في اليمن، لكنّه لا يشكّل إلّا عاملاً واحداً في حرب تحرّكها عوامل محلّية بقدر ما تحرّكها المنافسات الإقليمية. بالتالي، سيتطلّب تحقيق السلام الدائم في اليمن جلوس جميع الأطراف الرئيسية في الحرب على طاولة المفاوضات.
تهدئة الصراع أم تكتيك حرب؟
لقد لاقى الاتفاق بين الحكومة اليمنية والحوثيين لبدء تبادل الأسرى في 11 أبريل ترحيباً باعتباره خطوة لتهدئة الصراع. ومع ذلك، يبدو أنّ المقايضة تصبّ في صالح الحوثيين الذين وافقوا على إطلاق سراح 181 معتقلاً فقط مقابل الإفراج عن 706 معتقل لدى الحكومة. وقبل اجتماع صنعاء الأخير، وكجزء من تبادل أكبر للأسرى، أطلق الحوثيون معتقلاً سعودياً واحداً مقابل إفراج السعودية عن 13 أسيراً حوثياً. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحوثيين لم يتفاعلوا إيجابياً مع الضغوط من جانب وسطاء الأمم المتّحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر من أجل تسليم الأسرى المتبقين في صفقة تبادل شاملة.
فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من الاتفاق الإيراني السعودي ودقّة طبيعة المفاوضات الجارية في صنعاء لوقف إطلاق النار، يستمرّ الحوثيون في قمع الأصوات المعارِضة، حيث أصدرت محكمة حوثية حكماً بالسجن ضدّ أربعة ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، تبعه قرارٌ بالعفو عنهم. وبحسب بعض التقارير، قام الحوثيون بتعذيب الناشط حمدي عبد الرزاق المعروف في إبّ وقتله. وبالتالي، لا ينبغي النظر إلى صفقة تبادل الأسرى بمعزل عن باقي الأحداث أو اعتبارها إشارة إلى أنّ الاتفاق السعودي الإيراني يؤدّي إلى وقف التصعيد، بل لا بدّ من قراءتها على أنّها خطوة تكتيكية من جانب الحوثيين لانتزاع المزيد من التنازلات من الرياض.
وقد ساعدت المفاوضات واتفاقيات وقف إطلاق النار السابقة الحوثيين في تعزيز سلطتهم، ويبدو أنّ المفاوضات الأخيرة لن تكون استثناءً. فبعد ورود تقارير عن محادثات سعودية حوثية غير مُعلنة في وقت سابق من هذا العام، أفادت القوات البحرية الأمريكية والبريطانية والفرنسية عن احتجاز أعداد مُتزايدة من السفن التي تحمل أسلحة من إيران إلى اليمن. وهذا يشير إلى أنّه لا طهران ولا الحوثيون يخوضون محادثات بحسن نيّة، بل يستغلونها لتعزيز مواقعهم العسكرية والاستعداد للجولة المقبلة من الحرب.
أمّا الواقع على الأرض، فيبيّن أنّ الهدوء المُستتب منذ أبريل 2022 قد مكّن الحوثيين من حشد المزيد من المقاتلين وزيادة ترسانتهم بمساعدة طهران. وتُظهر الاشتباكات الأخيرة أنّ الحوثيين يريدون إثبات قدرتهم على مواصلة القتال بمعزل عن الاتفاق السعودي الإيراني. كما يأملون في السيطرة على مأرب ونفطها قبل أي تسوية سياسية محتملة.
ومن جانب آخر، من المستبعد أن يعزّز الاتفاق السعودي الإيراني أو المحادثات السعودية الحوثية موقف الحكومة اليمنية، فالمفاوضات السابقة خير دليل على ذلك. كما أنّه من المرجّح أن يسفر الاتفاق الذي تجري هندسته حالياً عن نتيجة رئيسية وهي تقوية موقف الحوثيين على حساب الحكومة اليمنية المُعترَف بها دولياً، مع احتمالية أن ينتج عنها تجديد اتفاق وقف إطلاق النار. حتّى لو أدّى التقارب السعودي الإيراني إلى مزيد من المفاوضات بين السعودية والحوثيين في المستقبل، فلن تخرج عن نطاق هدنة طويلة الأمد. كما أنّ أي محادثات مُماثلة تخاطر بتهميش الجهات الفاعلة المحلّية الأخرى لن تقود إلى خارطة سلام مستدام.
أكثر من مجرّد حرب بالوكالة
الحرب اليمنية تنخرط فيها مجموعة من الجهات الفاعلة المحلّية والإقليمية وقد قسّمت أوصال البلاد منذ اندلاعها وشهدت صعود الحوثيين كلاعب رئيسي بعد أن استولوا على جزءٍ كبيرٍ من شمال اليمن والعاصمة صنعاء في نهاية العام 2014. وقد أدّى ذلك إلى تدخّل التحالف العربي في العام 2015 بقيادة المملكة العربية السعودية وبدعم مسلّح أمريكي وبريطاني عبر قوّات من دول مجلس التعاون الخليجي– باستثناء عُمان ومن بينها قطر إلى حين الأزمة الخليجية في العام 2017 – بالإضافة إلى دول عربية أخرى. وكان الهدف من هذا التدخّل مواجهة النفوذ الإيراني وإعادة بسط سيطرة الحكومة اليمنية المُعترف بها دولياً. ومع مرور الوقت ودعم السعودية وإيران للفصائل المُتصارعة، وصف بعض المحلِّلين هذا التدخل بأنّه حرب بالوكالة بين خصوم إقليميين.
لكن دوافع الصراع الرئيسية كانت ولا تزال داخلية. شنَّ الحوثيون تمرّداً في بداية الألفية بهدف أيديولوجي يتمثّل في استعادة الدولة الزيدية الثيوقراطية التاريخية – المذهب الزيدي هو إحدى الفرق الشيعية القريبة من السُنة التي تستمدّ منها جماعة الحوثي فكرها وخطابها الأيديولوجي. تتراوح دوافع جماعة الحوثي بين الرغبة في السيطرة على السلطة والأنفراد بها ورفض التدخّل السعودي والغربي في السياسة اليمنية. وبرز الحراك الجنوبي أيضاً مطلع الألفية بهدف استعادة دولة الجنوب قبل العام 1990 والمطالبة بحقوق الجنوبيين. وقد استطاع كلّ من جماعة الحوثي والحراك الجنوبي استغلال أجندات القوى الإقليمية لحشد الدعم الخارجي لمشاريعهما الخاصّة، كما سعى كلاهما في ذات الوقت إلى تحقيق أجندتهما المحلّية بمعزل عن مصالح داعميهما الإقليميين. أضف إلى ذلك أنّ الحرب قد أفرزت مشاريع جهوية وعصبوية لها جذورها التاريخية وقد تقاطعت مع مصالح القوى الإقليمية.
على هذا النحو، يشكّل الانفراج السعودي الإيراني أحد العوامل التي يمكن أن تسهم في تحقيق السلام، لكنّه لن يؤدّي إلى ذلك وحده. ففي حين أدّى التوتّر بين القوى الإقليمية إلى تفاقم الحرب، فإنّ المصالحة الإقليمية وحدها لا تكفي لإنهائها. ليس لدى الحوثيين سببٌ وجيه للوثوق في الجهات الخارجية، بما فيها إيران، للعمل من أجل مصالحهم. وقد أشار البعض داخل معسكر الحوثي بالفعل إلى استقلالهم الذاتي عن طهران. كذلك، إنّ استئناف القتال بعد الاتفاق السعودي الإيراني علامةٌ أخرى على أنّ الجهات الفاعلة المحلّية سوف تواصل محاولاتها لتعزيز سيطرتها على الرغم من التطوّرات الإقليمية.
فضلاً عن ذلك، يُظهر التاريخ أنّ الحرب في اليمن قد تستمرّ حتى بعد انسحاب الجهات الفاعلة الإقليمية. ففي خلال الحرب الأهلية في ستينيات القرن الماضي، وافقت مصر والمملكة العربية السعودية – الداعمان الخارجيان الرئيسيان للأطراف اليمنية – على الانسحاب من حرب اليمن في العام 1967، لكن عوضاً عن ذلك استمرّت الحرب لثلاث سنوات أخرى. لذا قد يُعيد التاريخ نفسه، فقد تنسحب السعودية من اليمن بعد ضمان أمن حدودها، وقد تخفِّض إيران دعمها للحوثيين، لكنّ الحرب ستستمرّ إلى حين جهوزية الجهات المحلية للتوصّل إلى تسوية شاملة أو أن ينتصر أحدها.
“لا حرب ولا سلام”
وقد رحَّب المجتمع الدولي بالاتفاق السعودي الإيراني ووضع آمالاً كبيرة على اليمن، إذ قال المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، إنّ إنهاء الحرب في اليمن يمثِّل أولوية بالنسبة لواشنطن. كما وصف المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن هانس غروندبرغ الاتفاق بأنّه “فرصة للانتقال نحو مستقبل أكثر سلاماً”. وأعلن مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتّحدة أنّ دفء العلاقات الإقليمية سيسرّع الوصول إلى هدنة في اليمن. وقد سعت قوى إقليمية ودولية إلى الضغط على الأطراف اليمنية لتجديد وقف إطلاق النار والتوصُّل إلى تسوية سياسية.
وقبل بضعة أيام، زار صنعاء سفير المملكة العربية السعودية في اليمن، إلى جانب وسطاء عُمانيين من أجل التفاوض على وقف إطلاق النار مع مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين. وتشير هذه الزيارة إلى أنّ المملكة العربية السعودية التي أنهكتها تكاليف الحرب المادية والسياسية تسعى إلى الخروج من اليمن ومستعدّة للإعتراف بالمكاسب التي حقّقها الحوثيون بقبول دوليّ. إنّ جهود المملكة للضغط على الحكومة اليمنية والأطراف الأخرى للمساومة وتقديم التنازلات والتوصّل إلى تسوية متسرّعة قد تدفع الأطراف إلى تسوية من شأنها تقسيم البلاد رسمياً وتوسيع نطاق سيطرة الحوثيين.
أثبتت تداعيات اتفاق ستوكهولم لعام 2018 أنّ أي عملية متسرّعة لبناء السلام بدعمٍ من جهات فاعلة دولية لا تنظر إلّا إلى مصالحها وتضغط على الأطراف اليمنية لتحقيق إصلاحات سريعة، لا تخدم سوى الحوثيين وحدهم، وتمنحهم الوقت لتعزيز مكاسبهم العسكرية. وقد حذّر محلِّلون بعد اتفاق ستوكهولم من أنّ الجهات الفاعلة الدولية التي تعمل على تطبيع انتصارات جماعة الحوثي على الأرض تُساهم في استمرار سياسة شراء الوقت من خلال المفاوضات مع كسب مناطق جديدة عبر هجمات عسكرية خاطفة، ممّا عرّض محافظة مأرب لهذه الهجمات من ضمنها الهجوم الأخير.
كما وأنّ المحادثات السعودية الحوثية الأخيرة وأي اتفاقات لوقف إطلاق النار قد تنجم عنها تهدّد كذلك بالاعتراف بمكاسب الحوثيين. لذا من غير المرجّح أن تحقّق أي مفاوضات مع الحوثيين تستثني الأطراف المحلّية الفاعلة الأخرى أي نتائج إيجابية، كون ما تبحث عنه جماعة الحوثي هو الاستئثار بالسلطة وزيادة رقعة سيطرتها وليس التوصل إلى ترتيبات تقاسم السلطة مع الأطراف الأخرى. حتى وإن توصّلت المباحثات المباشرة بين السعودية والحوثيين في خلال الأسابيع المقبلة إلى وقف شامل لإطلاق النار، فإنّ الوضع الراهن المُتمثّل في “لا حرب ولا سلام” سيستمرّ إلى حين التوصل إلى تسوية محلية تشمل جميع الجهات الفاعلة المعنية، أو تحوّل الديناميكيات الداخلية بشكل جذري لصالح طرف واحد بعد جولة جديدة من الصراع.