يشيع الحديث في أوساط الأكاديميين والخبراء هذه الأيام عن احتمالات التعاون بين الصين والولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط. فلكلّ من القوّتين العظيمتين مصالح راسخة في المنطقة تتهدّدها الاضطرابات المزمنة وتنامي مخاطر قيام حرب إقليمية، ما يجعل التعاون حاجة ملحّة، لا مجرّد خيار. ومع ذلك، لا يبدو منطق التعاون هذا بديهياً لصنّاع القرار في واشنطن.
بالفعل، لدى بكين سبب وجيه لأخذ حذرها من الموقف الأمريكي الصدامي المتوجّس من تنامي نفوذ الصين في المنطقة. وقد تجلّت هذه الذهنية الأمريكية في تقرير إستراتيجية الأمن القومي لعام 2022 الصادر عن البيت الأبيض، الذي يشير إلى أنّ الصين دولة “منافسة”، فيما يبدو أنّ السياسة الأمريكية موجّهة على الأرض الواقع نحو احتواء الصين. وحتى حين يتحدّث الساسة الأمريكيون عن التعاون مع بكين، هم لا يعنون بأيّ حال من الأحوال التعاون عن حقّ وحقيق، بل انصياع الصين للنظام الإقليمي القائم الذي تهيمن عليه واشنطن.
هذا الموقف ليس بمستجدّ، فقبيل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، طُلب من الصين “التعاون” مع الولايات المتحدة، وقد عنى ذلك في حينها أن تؤيّد بكين حملة واشنطن العسكرية انطلاقاً من موقعها كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي. ثمّ عادت الولايات المتحدة لتطالب الصين مجدّداً في العام 2011 بدعم التدخّل العسكري لحلف شمال الأطلسي في ليبيا، ثمّ تأييد التدخّل الأمريكي في الصراع السوري.
ولكن في كلّ من هذه النزاعات، اصطدمت المغامرات العسكرية الأمريكية في المنطقة بالسياسة الصينية المنادية بعدم التدخل. ومع مرور الوقت، ثبتت صوابية السياسة الصينية. إذ يقرّ معظم الأمريكيين اليوم بأنّ غزو العراق واحتلاله كان خطأً فادحاً، وأنّ هذه الدولة المحوريّة في الشرق الأوسط بالكاد بدأت تستعيد شيئاً من استقرارها عقب عقدين من الحروب والاضطرابات. أمّا ليبيا، فلا تزال غارقة في بحر من الاضطرابات والتشرذم والعنف، فيما شهدت سوريا إحدى أكثر الحروب الأهليّة فتكاً في تاريخ المنطقة، ومع ذلك لا يزال بشار الأسد في السلطة رغم المساعي الأمريكية للإطاحة به.
التعاون في ظلّ الأزمة
عادت واشنطن اليوم لتطلب من الصين مساعدتها في الشرق الأوسط، وتريدها هذه المرّة أن تدعم السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل وفلسطين والمنطقة عموماً، عقب أحداث السابع من أكتوبر. فالمطلب الرئيسي الأمريكي هو أن تستخدم الصين نفوذها على بعض الأطراف الإقليمية، ومنها إيران، لدفعها نحو التهدئة واحتواء حرب إقليميّة.
وفيما تؤيّد الصين هذا الهدف بشكل عام، فإنّها تتبنّى وجهة نظر مختلفة تماماً حيال سبب عدم الاستقرار. إذ ترى الصين أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ينبع في الأساس عن عقود من الظلم تجاه الفلسطينيين، بينما تتعامل الولايات المتحدة مع المسألة من منظور أمني إسرائيلي وتسعى لحلّها من هذا المنطلق.
يمتد هذا المنظور الأمني ليشمل المنطقة الأوسع. فمع تصاعد المواجهة العسكرية بين إيران وحلفائها من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، حثّت واشنطن بكين على مساعدتها في إخماد الحرائق التي أشعلتها الهجمات الإسرائيلية غير المتكافئة والمدمّرة على قطاع غزة، بدلاً من التعاون معها من أجل تحقيق وقف دائم لإطلاق النار.
ولنأخذ الأزمة في البحر الأحمر على سبيل المثال. بعد أن بدأ الحوثيون باستهداف سفن شحن مرتبطة بإسرائيل قرب مضيق باب المندب الإستراتيجي وخليج عدن، حثّ المسؤولون الأمريكيون الصين على المساعدة في تهدئة الوضع من خلال طلبها من إيران احتواء الحوثيين. ولو فعلت الصين، لعكس ذلك دعماً دولياً واسعاً للنهج الأمريكي الذي يركّز على معالجة الأعراض بدلاً من حلّ جذور الصراع.
وبعد أن قصفت إسرائيل السفارة الإيرانية في سوريا في أبريل الماضي، توقّع مسؤولون وخبراء أمريكيون مجدّداً من بكين المساعدة على احتواء تداعيات الهجوم.
لا شكّ من أنّ التوتّرات في البحر الأحمر والصراع بين إسرائيل وإيران يهددان أمن المنطقة، ويشكّلان خطراً على المصالح الصينية ويؤثّران في سلاسل الإمداد العالمية. ومع ذلك، فإنّ السياسات الأمريكية والإسرائيلية تتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن ذلك، ومن غير المنطقي أن تتبنّى الصين نهجاً أمريكياً في الشرق الأوسط من شأنه أن يؤجّج الصراع بدلاً من تحقيق الاستقرار.
لا تتعارض الأهداف الأوسع للصين بالضرورة مع الأهداف الأمريكية، حتى في ما خصّ إيران. إذ سبق للقوّتين أن تعاونتا على صعيد الملف النووي الإيراني، فقد كانت كلّ من الولايات المتحدة والصين أعضاء ضمن مجموعة خمسة زائد واحد (P5 +1) التي أبرمت الاتفاق النووّي مع إيران في العام 2015. وعندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق بشكل أحادي في العام 2018، توقّعت من دول أخرى مثل الصين أن تتبع خطاها وتشارك في حملة الضغط على إيران، ولكن ذلك لم يكن وارداً بالنسبة إلى الصين التي رأت أنّ السياسة الأمريكية تفتقر للمنطق.
جوهر الخلاف إذاً هو أن الولايات المتحدة تطالب الآخرين بتبنّي مقاربتها إزاء الشرق الأوسط، فيما تطمح الصين إلى التعاون على أسس عادلة لمعالجة القضايا الأساسية التي من شأنها تؤجّج الصراعات وتزعزع الاستقرار.
عملت الصين منذ السابع من أكتوبر على التوصّل لقرار لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن الدولي، ودعمت مساعي دول الجنوب العالمي لمحاسبة إسرائيل عبر عدد من الآليات، منها المحكمة الجنائية الدولية. سعت بكين أيضاً إلى رصّ صفوف الفلسطينيين من خلال استضافتها لمحادثات مصالحة في بكين. وكان نجاحها السابق في تحقيق التقارب بين الخصمين إيران والسعودية فد أتى ثماره في خلال الأشهر العشرة الماضية، ما مكّن الصين من التعاون مع أطراف إقليمية رئيسية لتجنّب اشتعال حرب موسّعة.
تعكير الرغبة في التعاون
لا شكّ في أنّ الصين ستبدي في نهاية المطاف استعدادها للتعاون نظراً لأهميّة استقرار المنطقة بالنسبة إلى واردات الطاقة الصينية وسلسلة إمداداتها، ولكنّ من غير المنطقي التوقّع أن تستمرّ الصين في مدّ يد العون للولايات المتحدة إذا ما استمرّت واشنطن في اتباع سياسات تخريبيّة ومزعزعة للاستقرار، بخاصة في شأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يكمن في صلب معظم الاضطرابات في المنطقة.
إلى ذلك، ضاق ذرع الصين من النفاق الأمريكي في ما خصّ التعاون في الشرق الأوسط. ففيما تطلب واشنطن مساعدة بكين مراراً وتكراراً، هي تبذل في الوقت عينه قصارى جهدها من أجل الضغط على دول المنطقة حتى تدير ظهرها إلى الصين على كافة الصعد، من مشاريع البنية التحتية وصولاً إلى التعاون في مجالات التقنية المتقدّمة، ما يعكّر رغبة الصين في التعاون مع الولايات المتحدة.
في المحصّلة، تجمع بين الصين والولايات المتحدة مصالح مشتركة ضخمة في الشرق الأوسط، بالتالي يمكنهما أو بالأحرى يتوجّب عليهما التعاون في قضايا كثيرة مثل التنمية الخضراء ومكافحة القرصنة ومكافحة المخدّرات وتغيّر المناخ، إلى جانب إدارة التوتّرات الإقليميّة.
مع ذلك، على الرغم من رغبة الصين الصادقة في التعاون، لم تظهر الولايات المتحدة استعداداً كافياً أو جدّياً على هذا الصعيد. ففي حين تريد الصين فعلاً العمل مع الولايات المتحدة، لا ينبغي أن تحدّد واشنطن أحادياً شكل هذه الشراكة انطلاقاً من نهج يتمحور حول مصالحها، وقطعاً لا يعني ذلك أنّ تعالج الصين الفوضى التي تتسبّب بها واشنطن.
تدعو الصين علناً إلى “الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون الذي يحقّق مكاسب للجميع”، فهل يمكن للولايات المتحدة أن تصف علاقاتها بالصين علناً بنفس الطريقة؟