الصراع على المعابر الحدودية يعكس حالة عدم الاستقرار المزمنة في غرب ليبيا

أصبحت التجارة غير المشروعة عند معبر حدودي رئيسي نقطة تنافس ومصدراً للاضطرابات في غرب ليبيا.

22 أغسطس، 2024
علي بن موسى

بعد نحو أربعة أشهر من إغلاق معبر رأس جدير مع تونس بسبب اشتباكات مُسلّحة بين مجموعات ليبية متنافسة، أُعيد فتحه أخيراً في الأول من يوليو الماضي. يقع المعبر البرّي الرئيس نحو الجارة الغربية تونس على بعد 170 كيلومتراً غرب طرابلس، العاصمة الليبية التي مزّقتها الحرب، وهو شريان حيوي للتجارة الرسمية وغير الرسمية في آنٍ معاً 

 

ولكن قيمة المعبر الاقتصادية تحديداً هي التي جعلته محوراً للاشتباكات المُتكرّرة بين المجموعات المسلّحة، التي تتصارع على السلطة منذ اندلاع انتفاضة العام 2011 التي أطاحت بالزعيم الليبي، معمر القذافي، الذي حكم ليبيا طويلاً 

 

وتكشف المعارك الأخيرة عن هشاشة تحالفات السلطة في غرب ليبيا، حيث تتحرك الشخصيات السياسية والميليشياوية برغبة في السيطرة على الموارد المُربحة عبر المناورة بين القوى السياسية والعسكرية والدينية لتعزيز نفوذها. ويؤكّد التنافسُ على رأس جدير الصراعَ المستمر في طرابلس للتحكم في فصائل الميليشيات التي تضع يدها على أصول الدولة الإستراتيجية، ومن ضمنها المعابر الحدودية، لتحقيق مكاسبها الخاصة. 

 

وتطمع الفصائل العسكرية والسياسية في غرب ليبيا في معبر رأس جدير بسبب الأرباح الكبيرة التي يمكن تحقيقها من خلال التجارة مع تونس. ففي العام 2023، بلغ إجمالي حجم التجارة الرسمية بين ليبيا وتونس حوالي 850 مليون دولار، بينما عبر حوالي 3,4 مليون ليبي وتونسي الحدود من أجل السياحة والعلاج الطبّي في تونس والتجارة. 

 

بيد أنّ التجارة الرسمية عبر الحدود تنشط بالتوازي مع التجارة غير المشروعة والمزدهرة في السلع والوقود، وكذلك تهريب البشر، فهي تشكّل شرياناً اقتصادياً حيوياً للمهرّبين والتجّار الصغار في جنوب شرق تونس وعدد من المدن على الجانب الليبي من الحدود. لقد غضّت سلطات البلدين الطرف تاريخياً عن هذه التجارة لما توفّره من بديل عن التنمية الإقليمية التي تشتدّ الحاجة إليها. إذ يهدّد فرض قيود صارمة على تهريب السلع بخطر إشعال فتيل الاضطرابات الاجتماعية. والواقع أنّ الإغلاق المُتكرّر للمعبر في الماضي قد أثّر بشدّة في المناطق المحيطة به والتي تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة. 

 

والجدير بالذكر أنّ التجارة غير الرسمية بين ليبيا وتونس قائمة منذ عقود بسبب الارتباط الجغرافي والتاريخي بين البلدين، غير أنّ اقتصاد الحدود هذا حسّاس تجاه الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية المتغيّرة. تعطّلت التجارة في العام 2011 بسبب الانتفاضات التي عمّت تونس وليبيا، وخصوصاً بسبب تدهور الوضع الأمني على الجانب الليبي في أعقاب الإطاحة بالقذافي الذي نتج عنه تداعيات خطيرة، أبرزها الهجوم الجهادي على مدينة بن قردان التونسية الحدودية في مارس 2016، منطلقاً من ليبيا. وقد أدّت التدابير الأمنية المتزايدة لمعالجة الاضطرابات على الجانب الليبي إلى جولات مُتكرّرة من التوترات والاحتجاجات والعنف في المناطق الحدودية. 

 

لقد دفعت الإطاحة بنظام القذافي وتشظي السلطة المركزية في ليبيا الكثير من الفصائل المحلّية إلى التنافس للسيطرة على المواقع والمنشآت الإستراتيجية من أجل تأمين حصص أكبر من الموارد الاقتصادية الليبية. وبرزت مدينة زوارة الحدودية كلاعب رئيس، وهي مدينة تقطنها غالبية أمازيغية استُبعِدت من اقتصاد الحدود في عهد القذافي. استولت ميليشياتها على معبر رأس جدير وضمّته إلى بلدية زوارة، محوّلة المدينة إلى مركز قوة هام. وعلى الرغم من ـأنّها تقع ضمن نطاق سيطرة الحكومات المُتعاقبة في طرابلس، تمتّعت زوّارة منذ ذلك الحين باستقلالية كبيرة. 

 

السياسة والدين والإثنية 

لقد غذّت الطموحات الشخصية لوزير الداخلية الليبي عماد الطرابلسي، بعد أكثر من عقدٍ، الاشتباكات الأخيرة في رأس جدير وقد أدّت جهوده لتوسيع نفوذه إلى زعزعة توازن القوى في غرب ليبيا. 

 

وانحاز الطرابلسي، وهو ينحدر من مدينة الزنتان وقائد سابق لميليشيا الصواعق، إلى القائد العسكري في شرق ليبيا، خليفة حفتر، في خلال الحرب الأهلية الليبية 2014-2015، قبل أن ينقل بندقيته إلى الكتف الآخر. في العام 2018، عيّنه رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، مديراً لجهاز الأمن العام. وفي العام 2022، تولّى منصب وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، وتسيطر على طرابلس اليوم. اتُهِم الطرابلسي في تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في العام 2018 بقبول رشاوي من شاحنات تهرّب المنتجات البترولية إلى تونس في المناطق الخاضعة لسيطرته آنذاك، ونُشِرت أخبار عن توقيفه لفترة وجيزة في مطار باريس في العام 2023 لـ«حمله مبلغاً كبيراً من النقود» من مصدر مجهول، قبل إطلاق سراحه. 

 

وفي مارس الماضي، تعهّد الطرابلسي، بدعم من الدبيبة، بإعادة معبر راس جدير إلى سيطرة الدولة «ولو بالقوة»، تحت ذريعة وقف التهريب واستعادة الأمن. وقد أثارت تصريحاته المُتكرّرة بشأن السيطرة على المعبر معارضة القوى السياسية المتحالفة مع ميليشيات زوارة، وخصوصاً المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا. واتَهم زعيمه عبد الهادي برقيق الطرابلسي بتقويض التماسك الاجتماعي وإضعاف مصداقية الحكومة، قائلاً إنّه من الممكن أن يؤدّي إلى سقوطها. كما قال برقيق إنّ أي محاولة عسكرية للسيطرة على رأس جدير تعني إعلان الحرب على أمازيغ ليبيا. أدّت هذه التطوّرات إلى إعلان حالة الطوارئ ودقّ النفير لتعبئة الميليشيات في مدن أخرى ذات غالبية أمازيغية على طول طرق التهريب المرتبطة بزوارة.  

 

ولإضفاء الشرعية على عملياتهما العسكرية للسيطرة على المعبر، استغلّ الطرفان الخطاب السياسي المُحرِّض على الانقسام الإثني والديني. أصدرت هيئة الأوقاف الإسلامية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، ويهيمن عليها التيّار السلفي المدخلي، فتوى تدعو إلى تكفير طائفة الإباضية التي ينتمي إليها معظم الأمازيغ الليبيين. ما دفع المجلس الأعلى للإباضية إلى إدانة الفتوى بوصفها عملاً إجرامياً، وهدّد بمقاطعة هيئة الأوقاف، كما اقترح إنشاء هيئة مستقلّة للأوقاف خاصة بالمذهب الإباضي. وإدراكاً لخطورة الموقف، أدان الدبيبة الهيئة لـ «إثارتها الفتنة» وحثّها على عدم تجاوز صلاحياتها. وفي غضون ذلك، اتّهمت دار الإفتاء الليبية، وهي مؤسّسة دينية أخرى تابعة لحكومة الوحدة الوطنية ويقودها الشيخ الصادق الغرياني الخصم السياسي للتيّار السلفي المدخلي – الهيئة بتنفيذ أوامر وكالات الاستخبارات الدولية بهدف تخريب التآلف الديني والمجتمعي في ليبيا. 

 

من جانبه، يستخدم المجلس الأعلى للأمازيغ في ليبيا، المتحالف مع ميليشيات زوارة، خطاب الأقليات الإثنية، ويصوّر جهود قوّات الطرابلسي وحلفائه للسيطرة على المعبر على أنّها هجوم على الأمازيغ كمجموعة إثنية. هذا على الرغم من حقيقة أنّ الجانبين قاتلا كتفاً إلى كتف في السابق ضمن تحالف عسكري كبير ضدّ خليفة حفتر عندما حاول الاستيلاء على طرابلس بالقوة بين أبريل 2019 ويونيو 2020. 

 

يجسّد الوضع في رأس جدير الطبيعة المعقّدة والهشّة لتوازن القوى في ليبيا، حيث تتصارع قوى من انتماءات متشعبّة وأهداف متعدّدة ضدّ بعضها البعض. وقد أطالت هذه الديناميات أمد الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية في ليبيا منذ العام 2011. كما أنّها تخلق باستمرار فرصاً للجهات الطامحة لاستغلال الانقسامات المذهبية والإثنية، وبالتالي تعميق الخلافات المجتمعية، وكل ذلك لخدمة الطموحات السياسية وجيوب القادة المتنافسين. 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحرب الأهلية، العلاقات الإقليمية
البلد: تونس، ليبيا

المؤلف

زميل زائر مبتدئ
علي بن موسى هو زميل زائر مبتدئ في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّج مؤخراً من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملاً شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.   تشتمل مواضيع بحثه على الانتقال الديمقراطي، وبناء الدولة، والتاريخ السياسي والسياسات الخارجية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.   وكان سابقاً باحثاً مساعداً في… Continue reading الصراع على المعابر الحدودية يعكس حالة عدم الاستقرار المزمنة في غرب ليبيا