وُصِفت الانتخابات النصفية الأمريكية التي أجرِيت في الثامن من نوفمبر الحالي الأكثر أهمية منذ جيل. ففي بلدٍ شديد الانقسام بين تيّارات أيديولوجية وحزبيّة مختلفة، تتجاوز تداعيات مثل هذه الإنتخابات الشؤون الداخلية، ويتسرّب الاستقطاب الداخلي إلى سياسة واشنطن الخارجية، وبالتالي تصبح انتخابات الكونغرس التي لم تحظَ في السابق بالاهمتمام خارج حدود الولايات المتحدة، مثار اهتمام الحلفاء والأعداء على حدّ سواء.
لم تكن نتائج الانتخابات النصفية حاسمة لأيّ من الطرفين، إذ فاز الجمهوريون بفارقٍ ضئيل في مجلس النواب، بينما احتفظ الديمقراطيون بمجلس الشيوخ. بالحصيلة، لم تصُحّ التوقّعات بحدوث “موجة حمراء” مدفوعة بانتصارات الجمهوريين تعيد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في العام 2024. لكنّها في الوقت نفسه لم تمنع ترامب، بعد أيام من التصويت، من الإعلان عن ترشّحه للانتخابات الرئاسية المقبلة.
بمعزل عن إمكانية عودة ترامب إلى السلطة، هذا الانقسام وعدم الاستقرار في واشنطن يعني أنّه سيتعيّن على الدول الأخرى مواكبة التقلّبات الحزبية وانعكاساتها على السياسات الأمريكية بطرق غير مسبوقة. عدا أنّ المقاربات الحزبية للسياسة الخارجية قد حفّزت قوى أجنبية على التدخّل في الانتخابات لدعم حزبها المفضّل، بدلاً من سعيها إلى تعزيز نفوذها في واشنطن بشكل أشمل.
يعود ذلك إلى ترامب نفسه، وتحديداً إلى شخصيّته وأجندته التي تزيد الاستقطاب على الصعيدين المحلّي والدولي.
باستثناء اليمين الشعبوي في أوروبا، لم يستسغ شركاء أمريكا عبر المحيط الأطلسي ترامب، فقد ازعجتهم آراؤه الجدلية حيال التحالفات وأربكهم عداؤه للمؤسّسات والمعاهدات الدولية مثل الناتو، واتفاقية باريس للمناخ، وخطّة العمل الشاملة المشتركة حول الاتفاق النووي مع إيران. وبالتالي، غمرتهم سعادة كبيرة عندما هَزمه جو بايدن والديمقراطيون في العام 2020. وعلى الأرجح أن يشعروا ببعض التفاؤل بعد أن فشل الجمهورون في حسم النتائج لصالحهم في الانتخابات النصفية، لا سيّما أنّ فوزهم كان سيدفع باتجاه تغيير سياسة الطاقة النظيفة التي وضعها بايدن وبالتالي نسف مقاربته للتصدّي لتغير المناخ، وكان سيضعف الدعم الأمريكي لأوكرانيا في حربها مع روسيا، وهذه قضايا يحتاج الأوروبيون فيها إلى شريك يمكن الاعتماد عليه في الولايات المتّحدة.
في المقلب الآخر، لم تكن نتائج الانتخابات النصفية واعدة بالنسبة لآخرين. في الواقع، توافقت إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة مع إدارة ترامب بشكل وثيق، وشاركت – بل وجّهت – رؤيته للشرق الأوسط، وأعربت عن تقديرها لمقارباته التي تجنّب من خلالها الوعظ في الديمقراطية وحقوق الإنسان. وبالتالي، كان من البديهي أن تتأمّل تلك الدول في تحقيق نصر جمهوري مدوّي يبشّر بعودة ترامب.
ويعود ذلك إلى تغيّر المواقف تجاه المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة داخل دوائر السياسة في واشنطن قبل رئاسة ترامب، بحيث جادل الكثيرون من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي بضرورة إعادة تقييم العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الخليجية والتزام أمريكا بالهيكلية الأمنية للمنطقة. فقد تجمّدت العلاقات مع الدول الخليجية في خلال فترة الرئيس باراك أوباما، وترافق ذلك مع تراجع دعم الحزبين الأمريكيين لإسرائيل، خصوصاً بعد تدخّل رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو في السياسة الأمريكية ضد أوباما.
عكس ترامب هذه الاتجاهات في خلال فترة رئاسته، فاحتضن الدول الخليجية والجناح اليميني في إسرائيل، وجعلهم محور سياسته الخارجية. لكنّه في المقابل خلق بُعداً حزبياً حادّاً لهذه العلاقات. في حين أن الديموقراطيين المعادين للمملكة العربية السعودية بسبب سجّلها السيئ في حقوق الإنسان، وحربها الكارثية في اليمن، وجريمة قتل جمال خاشقجي الوحشية، استخدموا العلاقات مع الدول الخليجية، بوصفها نقطة خلافية ساخنة، للإضراء بمكانة الجمهوريين لدى الناخبين.
بمعزل عن ترامب، تعتبر سمعة المملكة العربية السعودية مشوّهة بين الجمهور الأمريكي بسبب غياب القيم المشتركة وقربها من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، واعتقاد البعض بتواطئها فيها. في الواقع، وعلى الرغم من الأهمّية الجيوسياسية القديمة للمملكة وشراكتها الوثيقة مع الولايات المتحدة لأكثر من 70 عاماً، لطالما كانت العلاقات بينهما أكثر دفئاً في الكواليس بالمقارنة مع الخطاب العام، قبل أن تساهم ولاية ترامب في تعميق التناقض بين الحزبين في ما يتعلّق بالسعوديين.
بقي السعوديون على صلة وطيدة بالدائرة المقرّبة من ترامب بعد ترك منصبه. على سبيل المثال، استثمر صندوق الاستثمارات العامة (الصندوق السيادي للمملكة العربية السعودية) ملياري دولار في شركة الاستثمارات الخاصة بصهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، ونحو مليار دولار في مشروع وزير خزانته السابق ستيفن منوشين، وأيضاً دخل الصندوق السعودي في شراكة مع ملاعب الغولف الخاصّة بترامب في مشروع ضخم (LIV) بقيمة ملياري دولار يهدف إلى تغيير عالم الغولف. وبالفعل، التُقطت صور لرئيس صندوق الاستثمارات العامة ياسر الرميان مع الرئيس الأمريكي السابق في مناسبات عدّة.
في المقابل، كانت العلاقات السعودية مع إدارة بايدن والمسؤولين الديمقراطيين مُضطربة. بعد فترة وجيزة من تولّي بايدن منصبه، حظر بيع المعدات العسكرية الهجومية للمملكة العربية السعودية. وعندما غزت روسيا أوكرانيا، اتّخذ السعوديون – إلى جانب إسرائيل والإمارات – موقفاً محايداً، ورفضوا محاولات بايدن لحشد المجتمع الدولي في المعسكر المناهض لروسيا. وأكثر من ذلك، رفض القائد الفعلي للمملكة العربية السعودية، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تلقّي مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي. أدّى فشل بايدن في حشد حلفاء الولايات المتحدة في أكبر أزمة دولية تشهدها فترة رئاسته، إلى تنظيمه زيارة إلى المنطقة لإنقاذ تحالفات أمريكا في الشرق الأوسط، لكن انتهى الأمر بخوض جدالات تافهة حول طريقة سلامه على الأمير السعودي الشاب.
أمّا الأسوأ من ذلك، فهو قرار منظّمة أوبك التي تقودها السعودية بخفض إنتاج النفط بنحو مليوني برميل يومياً قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية النصفية، ما أدّى إلى زيادة الضغط على إمدادات الطاقة وبالتالي رفع أسعارها عالمياً، في حين كانت إدارة بايدن تدفع باتجاه العكس، الأمر الذي أثار غضب مسؤولين في الإدارة الأمريكية. ووعد بايدن بمعاقبة السعوديين، وطلب منه نوّاب في الكونغرس سحب القوات العسكرية الأمريكية التي تدافع عن السعودية.
على الرغم من أنّ قرار خفض الإنتاج يتماشى مع المصالح الاقتصادية السعودية، لا بدّ من تحليله أيضاً في ضوء السياسة الأمريكية، نظراً لاستعداد السعوديين منذ فترة طويلة لإدارة أسعار النفط العالمية في خدمة علاقتهم مع واشنطن. لا شكّ في أنّ أسعار النفط ليست قضية للتناحر الديمقراطي – الجمهوري، لكنّها قضية سياسية بامتياز. غالباً ما تكون النتائج الاقتصادية السيئة بمثابة مسمار في نعش الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وبالتالي، سيكون من غير المسبوق أن تستخدم السعودية دورها كمنتج متقلّب للنفط للتأثير في الاقتصاد الأمريكي لصالح حزب سياسي معيّن أو لوصول رئيس مختلف إلى البيت الأبيض.
لكن كلّ شيء ممكن ويبدو عادلاً خصوصاً في ظل الاستقطاب الشديد في الولايات المتحدة. فمن يستطيع نسيان دعوة ترامب إلى روسيا للعثور على “30 ألف رسالة إلكترونية مفقودة” لهيلاري كلينتون وتسريبها لإلحاق الضرر بها في انتخابات عام 2016؟ أو نسيان خطاب نتنياهو الموجّه إلى الكونغرس الأمريكي في العام 2015 من دون أي دعوة رئاسية، وذلك لتقويض مفاوضات أوباما النووية مع إيران؟ في مقالة نُشرت في 12 نوفمبر، كشفت صحيفة ذي واشنطن بوست عن وجود تقرير استخباراتي أمريكي صادم يتّهم الإمارات بالتدخّل في الانتخابات الأمريكية بطرق “تتجاوز مجرّد استغلال النفوذ“.
من المرجّح أن تستمرّ هذه النزعة، إذ يؤدّي التسييس المتزايد للسياسة الخارجية الأمريكية إلى إنشاء هكيلية حوافز جديدة، وفتح الباب أمام مزيد من النفوذ الأجنبي في واشنطن حيث تسعى الدول إلى تأمين مصالحها الوطنية. مع ذلك، ينطوي قيام الدول التي تراهن على حزب سياسي وتسعى إلى تحقيق مصالحه على حساب الآخر على مخاطرة كبيرة قد تؤدّي إلى علاقات أكثر تقلّباُ للجميع.