رجل ينظر إلى لوحة إعلانات تحتوي على صور (من اليسار إلى اليمين) حسن نصر الله، أمين عام حزب الله السابق الراحل السابق، والرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، والمرشد الأعلى في إيران، آية الله علي خامنئي، وقائد الحرس الثورية الإيراني السابق الراحل قاسم سليماني، في سريناغار، جامو وكشمير، في 17 يونيو 2025. (تصوير فردوس نذير / نور فوتو عبر AFP)

إيران تواجه أزمة وجودية

يؤدي اندلاع الحرب الشاملة بين إسرائيل وإيران إلى إعادة تشكيل النظام الإقليمي، بعد عام من النكسات المدمّرة لإيران وحلفائها الإقليميين.

17 يونيو، 2025
رانج علاء الدين

لم يكن قرار إسرائيل بشنّ ضربات «استباقية» على المنشآت النووية والمواقع العسكرية الإيرانية مفاجئاً، لا سيّما بعد عام حافل بالانتكاسات المدمّرة التي مُني بها النظام الإيراني وشبكة وكلائه في المنطقة. فعلى مدى قرابة عقد من الزمن، خاض الطرفان حرباً خفيّة وضربات عسكرية متبادلة في ساحات صراع متعدّدة، غير أنّ هذه الحرب الخفيّة، وما كان يقيّدها من قواعد وضوابط تكبح جماح التصعيد بينهما، قد انهارت تماماً عقب إطلاق إيران وابلاً من المسيّرات والصواريخ على إسرائيل في أبريل 2024، ردّاً على استهداف الضربة الإسرائيلية لسفارتها في سوريا.

 

تصاعدت وتيرة الصراع وحدّته بين إسرائيل وإيران واتّسع نطاقه بعد اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله ونجحت في إضعاف بنية الحزب التنظيمية في حملة شعواء دقيقة لتصفية قياداته. كان حزب الله يمثّل رأس الحربة الإيرانية في المنطقة، وبمثابة حرس إمبراطوري لها على الصعيد الإقليمي، وقد ساهم تدميره في تعزيز قدرة إسرائيل على مواجهة الجمهورية الإسلامية وفقاً لشروطها، حتى من دون انخراط مباشر من الولايات المتّحدة في الحملة العسكرية الحالية.

 

لقد وقع النظام الإيراني في فخّ التمدّد المفرط والغطرسة، حتى أضحى وجوده ذاته مهدّداً. ففي غضون أيام قليلة، نجحت إسرائيل في تصفية قمة هرم القيادة في الحرس الثوري الإيراني (IRGC)، بالتوازي مع توجيه ضربات دقيقة استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، وأنظمة الدفاع الصاروخي، ومواقع إنتاج الأسلحة في العمق الإستراتيجي لطهران. لقد انقلب المشهد رأساً على عقب، مقارنةً بما كان عليه الحال ما قبل 7 أكتوبر، تلك الحقبة التي رسمت ملامحها ثورات الربيع العربي في العام 2011 وما تلاها من حروب أهلية فتحت المجال أمام تحقيق مكاسب جيوسياسية متعدّدة للجمهورية الإسلامية، من بينها تحويل العراق إلى دولة تابعة وحديقة خلفية لها بعد تأسيس «الحشد الشعبي» (PMF) في العام 2014 إثر ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وصعود جماعة الحوثيين في اليمن، وبقاء نظام الأسد، فضلاً عن بناء جسر بري إستراتيجي يمكّن النظام من حشد الموارد والمقاتلين من طهران حتى سواحل المتوسّط.

 

وبصرف النظر عن القمع الوحشي الذي يمارسه النظام الإيراني بحقّ شعبه، بما في ذلك ثورة «المرأة، الحياة، الحرية» في العام 2022 التي قوّضت شعبيّته وأضعفت أركان استقراره الداخلي، فقد ارتكب النظام خطأً إستراتيجياً فادحاً حين أغدق الدعم على حركة حماس بالسلاح والتمويل والتدريب، ما مكّنها من تنفيذ هجوم 7 أكتوبر. ولم يقف عند هذا الحدّ، إذ سارع إلى مساندة حماس عبر تحريك حزب الله في لبنان، وجماعة الحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا، لإطلاق حملة من الهجمات الصاروخية والمسيّرات استهدفت إسرائيل والقوات الأمريكية والمصالح التجارية العالمية.

 

وكانت الحرب الأوسع التي اندلعت بعد 7 أكتوبر ثمرة سنوات من السياسات الإقليمية الإيرانية الرامية إلى فرض الهيمنة في منطقة تشهد تحوّلات عميقة، من أبرزها توقيع «اتفاقيات أبراهام» وما تلاها من تطبيع للعلاقات بين عدد من الدول الخليجية وإسرائيل. فقد مثّلت هذه الاتفاقيات تحوّلاً جيوسياسياً خطيراً هدّد طموحات النظام الإيراني الأيديولوجية، وقوّض مساعيه الدؤوبة الرامية إلى إضعاف إسرائيل وإخراج الولايات المتّحدة والغرب من الشرق الأوسط. ومع ذلك، بالغت الحكومة الإيرانية في تقدير قدراتها وقدرات وكلائها، ولا سيّما حزب الله، وغفلت عن تقدير قدرة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ليس على اختراق صفوف التنظيم فحسب، بل والتغلغل في مؤسّساتها الداخلية كذلك. كما توهّمت أنها قادرة على الحفاظ على «الإنكار المعقول» لتفادي تحمّل المسؤولية عن تبعات أفعال وكلائها. لكن في الواقع، إذ سرعان ما كشفت الأحداث عن زيف هذا التصور، فما إن جُرّدت تلك القوى من قدراتها، حتى بات المسؤولون والقادة العسكريون الإيرانيون الذين يقفون وراء هذه السياسات أهدافاً مكشوفة.

 

أسفرت هذه التطوّرات عن إعادة رسم ملامح النظام الإقليمي. لقد أنفق النظام الإيراني موارد مالية وبشرية هائلة لدعم نظام الأسد، تارة عبر التدخل المباشر وتارة أخرى عبر ذراعه العسكري حزب الله، غير أنّ السقوط المتسارع للأسد في ديسمبر الماضي جاء بمثابة ناقوس خطر، كاشفاً عن مكامن ضعف خطيرة في بنية النظام الإيراني. واليوم يجد النظام نفسه أمام لحظة مصيرية فارقة تهدّد وجوده.

 

وللمفارقة، قد يتمثّل طوق النجاة الأخير للنظام الإيراني في نفور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من فكرة «تغيير الأنظمة»، وهي مسألة قد تضيف مزيداً من التعقيدات والتحدّيات أمام إدارة تسعى جاهدة إلى تجنّب التورّط في مستنقع الشرق الأوسط. يدرك النظام الإيراني، في قرارة نفسه، عجزه عن تحقيق نصر حاسم في حربه مع إسرائيل، لكنه ربما يراهن على خوض حرب استنزاف. ومع ذلك، تفتقر إيران إلى القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية اللازمتين لتحمّلها أعباء حرب طويلة الأمد، في ظلّ أزمتها الاقتصادية الخانقة وعزلتها الدولية وغياب الحلفاء، ولا سيّما إذا انخرطت الولايات المتّحدة في أتون الصراع. وكلّما طال أمد الحرب، زادت احتمالية تحقيق هذا الهدف.

 

ولكي يضمن النظام بقاءه، قد لا يجد أمامه خياراً سوى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، مراهناً في ذلك على عجز إسرائيل تحمّل حرب طويلة الأمد من دون دعم أمريكي. قد يمنحه ذلك مهلة قصيرة، ولكنه في الوقت نفسه يزرع بذور انهياره في المستقبل: إذ سيخرج النظام من هذه الأزمة مشلولاً ومهاناً وأكثر ضعفاً في الداخل. فضلاً عن ذلك، مع من سيتفاوض، ولأي غاية سيجلس إلى طاولة المفاوضات؟ تكمن معضلة النظام الإيراني في أنّه يفتقر اليوم إلى أي ورقة ضغط قد تغري إسرائيل بوقف هجماتها، إذ تمّ تحييد وكلائه، وقد فقد تعاطف معظم دول المنطقة جراء ما اقترفه من فظائع جماعية في خلال العقد الماضي، عدا أنّه يفتقر للدعم الشعبي في الداخل.

 

قد يلجأ الجيش الإيراني إلى شنّ هجمات على عواصم إقليمية وبُناها التحتية الاقتصادية، آملاً في أن يدفع ذلك جيرانه للضغط على الولايات المتّحدة لوقف الحملة الإسرائيلية. بل إنّ مجرّد التلويح بهذا الخيار قد يدفع دولاً كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة وقطر إلى بذل جهود حثيثة مشتركة لاحتواء التصعيد. ولكن تنطوي هذه الإستراتيجية على مخاطرة جسيمة، إذ قد تدفع دول المنطقة إلى التكتل ضدّ الجمهورية الإسلامية، ومن ثم توسيع دائرة التأييد الإقليمي لانهيار النظام الإيراني.

 

ومن منظور إسرائيل وبعض الدوائر داخل إدارة ترامب وبعض الأطراف في المنطقة، قد تمثّل هذه اللحظة فرصة سانحة لتوجيه مزيد من الضربات العسكرية للجمهورية الإسلامية، على أمل أن يؤدّي شلّ قدرات قوّاتها المسلحة إلى إشعال ثورة شعبية داخلية في أفضل الأحوال، أو على الأقل ضمان خروج النظام من الصراع الحالي ضعيفاً وعاجزاً عن استعادة قوته في المستقبل المنظور. غير أنّ تحقيق ذلك يتطلّب التزاماً أمريكياً بدور عسكري طويل الأمد وواسع النطاق في هذه الحملة الشعواء، وهو ما لا يبدي ترامب حماسة كبيرة له.

 

في نهاية المطاف قد يُلقى على عاتق دول المنطقة، وفي مقدمتها الدول الخليجية، عبء منع تحوّل الصراع إلى حريق إقليمي واسع النطاق، قد يجر أطراف إقليمية أخرى إلى الصراع، سواء كأطراف مقاتلة أو كضحايا لردود فعل إيران الانتقامية. وسيتعين على الدول الخليجية تقديم مبرّرات مقنعة توضح لماذا ستكون المفاوضات هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، لا سيّما في ظلّ اعتقاد إسرائيل بأنّها تتمتّع بالتفوّق العسكري وامتلاكها زمام المبادرة، فضلاً عن ادّعاء إسرائيل والولايات المتّحدة المستمرّ بأنّ إيران تفاوض بسوء نية. وعلى الجانب الآخر، ستعتبر أي تنازلات جدّية من إيران، مثل التخلّي عن برنامج التخصيب، بمثابة إعلان استسلام، وقد يسفر عنه زعزعة استقرار النظام داخلياً ويقوّض شرعيته. ومع ذلك، لا يعني الأمر التخلّي عن هذه الجهود، فربّما تمثل هذه اللحظة اختباراً مصيرياً للمنطقة وللدول الخليجية، التي حققت نجاحات متعدّدة في مجال الوساطة في خلال العامين الماضيين، وستجد نفسها أمام اختبار غير مسبوق لقدرتها على قيادة جهود الوساطة وحشد الدعم لإنهاء الصراع الحالي بسرعة.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية، خطة العمل الشاملة المشتركة
البلد: إيران، فلسطين-إسرائيل

المؤلف

رانج علاءالدين هو زميل في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وكان سابقاً زميلاً غير مقيم في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنجز وباحثاً زائراً في جامعة كولومبيا. علاءالدين متخصص في السياسة الخارجية وتركّز بحوثه حول قضايا الأمن الدولي والحوكمة الرشيدة والتحديات الأمنية المرتبطة بالمناخ، بالإضافة إلى دبلوماسية المسار الثاني والتداخل بين السياسات العامة والأمن البشري.… Continue reading إيران تواجه أزمة وجودية