اختتم المؤتمر التاسع والعشرون للمناخ (COP29)، الذي انعقد في أذربيجان هذا العام، أعماله في أجواء مضطربة، بعد انسحاب احتجاجي لممثّلي الدول الأفقر “غير الراضين بتاتاً”. وعلى الرغم من التوصّل في التهاية إلى اتفاقٍ يوفّر تمويلاً سنوياً بقيمة 300 مليار دولار لتعويض “الخسائر والأضرار” التي تتكبّدها الدول الأكثر عرضةً للتأثّر بتغيّر المناخ، برزت رسالة واضحة مفادها أنّ النظام الجيوسياسي يتآكل تدريجياً، ما يُهدّد بنسف التعاون الدولي الذي تعتمد عليه أجندة العمل المناخي. في ظل حربَين رئيستين دائرتَين في أوروبا والشرق الأوسط وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير، تواجه أجندة المناخ خطراً حقيقياً ما لم يتحقّق إحلال السلام وصون الاتفاق العالمي بشأن تغيّر المناخ.
جيواقتصاديّات الطاقة
على مدى العقد الماضي، تحوّلت جهود مكافحة تغيّر المناخ من قضيّة هامشيّة إلى محور رئيسي في السياسات العالميّة. غير أنّ المنافسة الإستراتيجيّة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين تلقي بظلالها على العمل الجماعي الدولي، في ظلّ انقسام العالم بشكل متزايد بين معسكرَين متنافسيَن- الشمال العالمي بقيادة الولايات المتحدة والجنوب العالمي بقيادة الصين. بالتالي، أصبحت التصدّعات أوضح في التحالف الداعم للعمل المناخي، المدفوع حتى الآن بأولويّات الدول الغربية إلى حد كبير.
من أبرز الأمثلة على ذلك تركيز أجندة المناخ حصرياً على جانب العرض من الوقود الأحفوري ومصادر الطاقة الأخرى وتجاهل الاعتبارات المرتبطة بالطلب. ويُعتبَر هذا التوجّه بشكل متزايد أنّه يخدم مصلحة الدول الغربيّة الذاتية، التي تُعد من أكبر مستهلكي الوقود الأحفوري ومركزاً لشركات النفط الكبيرة العاملة على نطاق دولي. علاوة على ذلك، إنّ تحقيق “التحوّل السريع والعادل والمنصف” المتّفق عليه في مؤتمر COP28 في الإمارات العربيّة المتّحدة يتطلّب تنسيقاً مشتركاً بين جانبي العرض والطلب على المستويين المحلّي والعالمي.
بالإضافة إلى هذه التوتّرات، أبرزت صدمتان عالميّتان التقاطع بين الجيوسياسة وأسواق الطاقة، ما أدّى إلى ظهور ما يمكن وصفه بـ “الجيواقتصاديات الجديدة” للمناخ والطاقة. تمثّلت الصدمة الأولى، أي الحرب في أوكرانيا، التي أثّرت مباشرة على الجهود المتعلّقة بالطاقة والمناخ. أمّا الصدمة الثانية، المتمثّلة في هجوم إسرائيل المدمّر على غزة، فتُحدِث تأثيراً غير مباشر.
سلّطت الحرب في أوكرانيا الضوء على المخاطر الجديدة التي تهدّد استقرار إمدادات الطاقة. وتصدّرت المخاوف المتعلّقة بأمن الطاقة أولويات السياسات، لا سيما في أوروبا، إلى جانب أجندة التحوّل في قطاع الطاقة. ودفع ارتفاع أسعار الطاقة العالمية بالسياسيين القلقين من التداعيات السياسية لارتفاع تكاليف الطاقة إلى اتخاذ خطوات لحماية المستهلكين والشركات. وانتشرت أدوات مثل ضوابط الأسعار والإعانات، التي لطالما استُخدمت في الدول النامية، إلى الاقتصادات المتقدمة. بيد أنّ هذه الإجراءات أتت بتكلفة باهظة على الميزانيات وزادت من أعباء الدين العام، لا سيّما في الدول النامية التي تواجه قيوداً في الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية. نظراً لكلفة التحوّل في قطاع الطاقة، سيُصعّب ارتفاع أسعار الطاقة على الدول المحافظة على العمل المناخي في المستقبل.
لم تؤثّر الحرب على غزة بشكلٍ مباشر في أسعار الطاقة، لكنّها أجّجت المخاوف من احتمالية اندلاع حرب إقليمية شاملة قد تعرقل أسواق الطاقة وسلاسل الإمداد. غير أنّ ردود الفعل المتباينة للحكومات إزاء الحربين على غزة وأوكرانيا فضحت ازدواجيّة المعايير التي يعتمدها الشمال العالمي وعمّقت غياب الثقة بين دول الجنوب العالمي في ما يُدعى “النظام القائم على القواعد”. بشكلٍ عام، يكشف التركيز الحصري لأجندة السياسات العامة على تغيّر المناخ على حساب الصراعات الدائرة والقضايا التنموية والأزمات الإنسانيّة خطوط الصدع في النظام العالمي ويُصعّب على المجتمع الدولي التفاوض على حلّ دائم ومستدام لأزمة المناخ.
تقدّم متفاوت
عندما انتُخب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة للمرة الثانية في نوفمبر، شدّد بوضوح في خطاب الفوز على أنّه سيقوم بسحب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ وبتعزّز إنتاج الهيدروكربونات محلّياً. قد تؤدّي هذه الخطوة إلى تراجع أكبر في جهود العمل المناخي، نظراً لأهميّة الطاقة الإستراتيجية في تنافسية الاقتصادات الكبرى، بما فيها الصناعات المدفوعة بالتكنولوجيا. علاوة على ذلك، تحظى السياسة الصناعية المتينة، التي تتطلّب المحافظة على تكاليف منخفضة للطاقة، بزخم متزايد في الشمال العالمي، ما يجعلها تتفوّق على قضايا المناخ بسبب الضغوط السياسية المحلّية وأمن سلاسل الإمداد العالمية والمنافسة الإستراتيجية مع الصين.
بلا شك، تحقّق تقدم كبير نحو “تخضير” قطاع الطاقة، إنما بشكلٍ متفاوت. في الواقع، ازدادت الاستثمارات في الطاقة المتجدّدة بشكلٍ ملحوظ، لا سيما في الاقتصادات المتقدّمة. من جهة أخرى، شهد التقدّم في الدول النامية تباطؤاً بسبب محدوديّة الموارد المالية. في الوقت نفسه، بقيت الاستثمارات المباشرة الأجنبية في النفط والغاز الطبيعي قويّة بفضل الاكتشافات الكبيرة في شتى أنحاء العالم النامي. وفيما اعتُبرت هذه الاكتشافات “قنابل كربونية” في الشمال العالمي، تراها الدول النامية “إضافات مهمّة للطاقة”، لا سيما بالنسبة إلى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى حيث يفتقر نصف السكان إلى إمكانية الحصول على الكهرباء. كما يجب فهم الأولوية التي تُعطى للإضافات في قطاع الطاقة بدلاً من التحوّل في هذا القطاع في الجنوب العالمي كنتيجة للوعد بتحويل 100 مليار دولار سنوياً المتّفق عليه في مؤتمر (COP21) والذي لم يتم الوفاء به. لقد أضرّ هذا الوعد المكسور بالثقة في الدول النامية ولم يُحل إلّا جزئياً في مؤتمر (COP29).
سيؤدي التشرذم المستمر للمجتمع الدولي إلى تباطؤ عملية إزالة الكربون، ما سيكون له انعكاسات كارثية على الكوكب. بالفعل، قد تُمدَّد فترة استخدام الهيدروكربونات في مزيج الطاقة العالمي لتجنّب هيمنة البدائل المتجدّدة. في الاقتصادات المتقدّمة، تستثمر المنصّات الرقميّة في الطاقة النووية بشكلٍ استباقي لضمان توافر الطاقة الكافية لتلبية الزيادة الكبيرة في الطلب الناتج عن الذكاء الاصطناعي. وبالنسبة إلى الدول النامية التي تواجه أولويات اقتصادية أكثر إلحاحا، إلى جانب وفرة مواردها الهديروكربونيّة في الجنوب العالمي، يمكن لتقنيّات مثل احتجاز الكربون وتخزينه أن تساهم بشكل كبير في تقليل الانبعاثات الناجمة عن استهلاك الوقود الأحفوري، رغم التحدّيات التي تحيط بها.
ومن أجل تصحيح المسار ومنع انحراف أجندة المناخ، يجب تبنّي تدابير لبناء الثقة، مثل الوفاء بالوعود المتعلقة بالتحويلات المالية ونقل التكنولوجيا من الشمال العالمي إلى الجنوب العالمي. ولكن إلى جانب العمل المناخي، تبرز الحاجة إلى لتعجيل حل الصراعين الدائرَين في غزة وأوكرانيا. ينبغي على المجتمع الدولي أن يركّز على إنهاء هذه الصراعات، ليس لإنقاذ الأرواح فحسب، بل أيضاً لحماية الاتفاق العالمي بشأن تغيّر المناخ، وبالتالي إنقاذ الكوكب.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.