هل الحرب الإقليمية أمرٌ لا مفر منه على المنطقة العربية؟

منذ شهر أكتوبر والشرق الأوسط على شفير حربٍ لم يشهد لها مثيل في تاريخه. على الرغم من كمّ الاشتباكات المسلّحة التي دارت رحاها على مدى 75 عاماً، بما فيها بين جهات حكومية وغير حكومية متعدّدة، إلّا أنّ نطاق الصراع هذه المرة واسع لدرجة أنّه يُهدّد بالامتداد إلى المنطقة برمّتها، بشكلٍ غير مسبوق وأكثر خطورةً بأشواط من أي وقتٍ مضى.

وعلى الرغم من أنّ الاضطرابات الحالية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتدمير إسرائيل المستمر لقطاع غزة، اندلعت بؤر توتّر في مناطق أخرى من جنوب لبنان إلى البحر الأحمر. كما وأنّ التصعيد في المواجهة العسكريّة بين الولايات المتحدة والميليشيات العراقية والسورية قد وضع العراق وسوريا اللذين دمّرتهما عقود من الحروب إقليمية السابقة على الخطوط الأمامية لحربٍ أخرى.

ومن باب المفارقة، يبدو أنّ قلّة من الجهات تريد صراعاً إقليمياً شاملاً. غير أنّ الزخم ما زال يتراكم، لا سيما بسبب مقاربة واشنطن المضلّلة، التي تواصل إشعال مصدر الصراع- أي هجوم إسرائيل على غزة- فيما تحاول إخماد صراعات في أمكان أخرى من المنطقة بالقوة العسكرية.

أحداث السابع من أكتوبر هل تصل إلى حرب إقليمية؟

في السابع من أكتوبر، شنّـت حركة حماس هجوماً على إسرائيل قُتل فيه حوالي 375 عسكرياً وعنصراً أمنياً وما بين 600 و700 مدنياً، واحتجاز 240 رهينة بين مدنيين وعسكريين. ردّت إسرائيل بشنّ حرب شاملة وبفرض حصار على قطاع غزة. على مدى الأشهر التالية، وفيما بلغت المجزرة مستويات لا يتصوّرها العقل، انجرّت أطراف أخرى إلى المعركة.

كانت الولايات المتحدة أوّلها، فأرسلت في غضون أيام حاملتَي طائرات إلى شرق البحر المتوسّط. وزعمت أنّ خطوتها هذه تهدف إلى ردع جهات أخرى عن مهاجمة إسرائيل في سعيها إلى القضاء على حماس. وعنت بشكلٍ رئيسي حزب الله في لبنان، الذي فتح بشكلٍ شبه فوري على الحدود اللبنانية الإسرائيلية جبهةً متوسّطة الشدّة ما زالت تُهدّد بتصعيدٍ كبير.

غير أنّ الولايات المتحدة، بمنحها دعماً عسكرياً واستخباراتياً غير مشروط إلى إسرائيل بالإضافة إلى مساعدة مالية وأسلحة وتغطية دبلوماسية، قد مكّنت ومدّدت الهجوم المدمّر الذي شنّته حليفتها ضد غزة وسكانها- والذي قضت محكمة العدل الدولية بأنّه من المعقول أن ترقى أفعال إسرائيل إلى مستوى الإبادة الجماعية -وأشعلت تصعيداً أوسع في المنطقة.

علاوة على ذلك، وضعت الولايات المتحدة جيشها في مواجهةٍ مباشرة مع ما يسمّى بمحور الممانعة، الذي يضمّ مجموعات متحالفة مع إيران أو مدعومة منها من مختلف أرجاء المنطقة. وفيما استشاط الرأي العام غضباً إزاء الفظائع اليوميّة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، تدخّلت هذه القوى بشتى الطرق، فزادت من المخاطر المحدقة بالمنطقة ومن تداعيات دعم أمريكا المطلق لإسرائيل في آن.

ومن خلال فتح جبهة على الحدود اللبنانية على سبيل المثال، أرغم حزب الله إسرائيل على إخلاء معظم مراكزها السكانية في الشمال وتحويل موارد عسكرية بارزة هناك. وفي نوفمبر، بدأ الحوثيون في اليمن باستهداف السفن التجارية التي زُعم أنّها مرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، فهدّدت بذلك طريقاً تجارياً عالمياً رئيسياً ودفعت بالولايات المتحدة إلى شنّ ردّ بحري. وبدورها، كثّفت الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا إلى حدّ بعيد مضايقاتها المستمرّة منذ فترة طويلة للمنشآت العسكرية الأمريكية في البلدين.

وفي كل من هذه الدول، تتعطّل دينامييات محلية مهمة، بما فيها المفاوضات بشأن انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، والمناقشات بين الحكومة العراقية والائتلاف بقيادة الولايات المتحدة حول مستقبل الائتلاف في البلاد، ومحادثات السلام في اليمن الآيلة إلى وضع حدّ للحرب المستمرّة منذ ثمانية أعوام.

 وفيما حاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها تصوير بؤر التوتّر تلك وكأنّها منفصلة إلى حد ما عن حملة إسرائيل العسكرية، لا تعتبرها دول المنطقة كذلك، وقد أصرّت قوى الممانعة على أنّها لن تتراجع إلّا بعد وقف إطلاق النار في غزة.

أهميّة الرأي العام إزاء أفعال إسرائيل في قطاع غزة

لقد ازدادت مشاعر الغضب والنقمة منذ السابع من أكتوبر إزاء أفعال إسرائيل في قطاع غزة وقرار الغرب بدعمها، ما يؤدّي إلى تداعيات كثيرة لأسباب متعددة، منها تأثير نظرة الرأي العام في شرعية الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية الموالية لهما. لعلّ الأهم بالنسبة إلى الحرب بحد ذاتها يكمن في تحفيزها للقوى الملتزمة عقائدياً بمقاومة الولايات المتحدة وإسرائيل. من هذا المنطلق، من غير المرجح أن تردعها الخطوات العسكرية الأمريكية.

ممّا لا شكّ فيه أنّ مكانة الولايات المتحدة قد تضرّرت إلى حدّ بعيد. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز العربي ومقره الدوحة في ديسمبر ويناير وشمل 16 دولة عربية أنّ 94 في المئة من المستطلَعين لديهم وجهة نظرة سلبية بشأن استجابة واشنطن لحرب إسرائيل على غزة.

وتشمل هذه المشاعر حلفاء أمريكا الإقليميين الذين اعتُبروا أنّهم لا يبذلون أي جهد يُذكر للدفاع عن غزة، لا سيما مقارنةً مع القوى المرتبطة بإيران. وهذا مهم نظراً للعداوة القائمة منذ زمن بعيد بين هذين المعسكرين في إطار التنافس على النفوذ الإقليمي.

وبحسب استطلاع أجراه الباروميتر العربي في تونس -الذي يُعتبَر مؤشّراً إقليمياً- في الأسابيع التي سبقت وتلت السابع من أكتوبر، فإنّ “كل دولة شملها الاستطلاع تربطها علاقات إيجابية أو ودّية مع إسرائيل شهدت انخفاضاً في نسب التأييد لها”، في حين أنّ معدّلات تأييد القيادة الإيرانية ارتفعت. فقد تعادلت شعبية المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي مع شعبية قادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أو حتى تجاوزتها. ووفقاً لاستطلاع المركز العربي، أيّد 50 في المئة من المستطلَعين ردّ إيران على حرب إسرائيل ضد غزة، وهي أعلى نسبة سجّلها أي بلدٍ شمله الاستطلاع. في المقابل، فقط 20 في المئة رأوا الإمارات بمنظار إيجابي في حين أنّ نتيجة السعودية بالكاد كانت أفضل.

في ظلّ هذا المناخ، لا عجب في أنّ شركاء أمريكا الإقليميين ابتعدوا منذ السابع من أكتوبر، لا بل ينسّقون مع إيران للحؤول دون اتّساع رقعة التصعيد. حين حشدت الولايات المتحدة ائتلافاً ضدّ الحوثيين، كانت البحرين الوحيدة التي انضمّت إليه، على الرغم من الانعكاسات على اقتصادات المنطقة برمّتها. لا تحاول الدول الإقليمية تفادي إعطاء الانطباع بأنّها تمنح التغطية لإسرائيل فحسب، بل تخشى الانضمام إلى القوى الأمريكية كهدفٍ لمحور الممانعة، ما يؤدّي إلى عزل الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية إلى حدّ بعيد في المنطقة.

إستراتيجية الردع الفاشلة لواشنطن على الساحتين الإقليمية والدولية

من المنطقي أن تشعر الولايات المتحدة بأنّها مرغمة على الرد على محاولات عرقلة التجارة العالمية أو على الهجمات ضدّ منشآتها العسكرية والاستخباراتية. ولكن على خلفيّة المجزرة في غزة، من المرجّح أن تؤدّي جهودها الرامية إلى استئصال التوتّر الإقليمي بالطرق العسكرية وفي الوقت نفسه إلى مساعدة إسرائيل والتواطؤ معها في جرائم الحرب، إلى تأجيج الوضع  ليس إلّا. بغض النظر عن الطريقة التي تنظر الولايات المتحدة إلى نفسها، فإنّ المنطقةُ تعتبرها متواطئةً في جريمة خطيرة، ما يمثّل ذريعةً لشن هجمات على القوات الأمريكية.

هذا يعني أنّه من غير المرجّح تحقيق الردع. أولاً، اكتسبت قوى الممانعة شعبيةً وشرعيةً متزايدتين بفضل وقوفها في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل. فالحوثيون على سبيل المثال كانوا جهةً مجهولة وهامشية إلى حدّ ما في الشؤون الإقليمية قبل السابع من أكتوبر. ولكن منذ شنّهم العمليات في البحر الأبيض تحت راية الدفاع عن الفلسطينيين، أصبحوا في الواجهة وبرزوا بقوةٍ جديدة على الساحتين الإقليمية والدولية.

دور إيران وحلفائها في إطار الحرب على غزة

ثانياً، إنّ إيران والجهات الشريكة لها ملتزمة على المستوى الإستراتيجي بطرد الولايات المتحدة من المنطقة في الأمد البعيد. في الواقع، تشكّل الخطوات الأمريكية العسكرية في إطار الحرب في غزة فرصةً وساحةً لدفع هذا الهدف قدماً، نظراً للغضب العارم تجاه الولايات المتحدة.

أخيراً، تدرك قوى الممانعة أنّ واشنطن معادية لأي انخراط عسكري كبير آخر في الشرق الأوسط في أعقاب عقودٍ من الصراع غير المجدي. وترى أنّه من غير المرجّح أن تدخل في مواجهةٍ شاملة مع الجيش الأمريكي، وتسعى إلى تفادي ذلك. تُعتبَر حملة محدودة من الضربات الموجّهة مقبولةً ومن المستبعد أن تفرض استسلاماً.

لقد اعترف بايدن بذلك. فعندما سأله صحافي في يناير إذا كانت الضربات الأمريكية ضد مواقع الحوثيين في اليمن مجدية، أجاب بايدن: “عندما تقول إنّها مجدية، هل يعني أنّها توقف الحوثيين؟ كلا. هل ستستمر؟ نعم”. يوضح هذا التصريح البسيط معضلة السياسة الأمريكية الحالية وتهوّرها.

تُجسّد النتيجة رقصةً محفوفة بالمخاطر، يستخدم فيها الطرفان القوة الفتّاكة بينما يحاولان عدم إشعال حرب شاملة. إلّا أنّه مع تورّط هذا العدد الكبير من الجهات على جبهات متعدّدة، يمكن حدوث تصعيد خطير بمجرد زلة قدم.

العواقب طويلة المدى لحرب إسرائيل على غزة

إنّ الجهات الوحيدة التي تريد تصعيداً أوسع هي بنيامين نتانياهو ووزراء اليمين المتطرّف في حكومته. فبعدما فقد رئيس الوزراء الإسرائيلي مصداقيته جراء هجوم حماس في السابع من أكتوبر، أصبح من مصلحته تمديد الحرب لأطول فترةٍ ممكنة بغية تفادي محاسبته من قبل الرأي العام على إخفاقاته. من هذا المنظار، يمكن اعتبار الاغتيالات الأخيرة لشخصيات معادية على يد إسرائيل في لبنان وسوريا خططاً آيلة إلى إثارة تصعيد، لا بل إلى توريط الجيش الأمريكي الذي أصبح هدفاً للانتقام.

لكن على المدى الطويل، تتمثّل فرصة نتانياهو الوحيدة للبقاء سياسياً -وهو ما يطمح إليه فوق كل شيء- بتبرئة نفسه أمام الرأي العام. من المعقول كثيراً أنّ نتانياهو يظنّ أنّ خلاصه يكمن في تخليص إسرائيل من مصدر الاستياء والعنف الذي يدوم منذ عقود، أي قطاع غزة. لهذه الغاية، يبدو أنّ حملة إسرائيل العسكرية تهدف إلى تصفية القطاع. لقد سبق أن ولّد ذلك معاناة هائلة للفلسطينيين، سيتردّد صداها لفترةٍ طويلة من الزمن. لكنّه يزعزع أيضاً استقرار المنطقة إلى حد بعيد، ويتخطى التهديد الفوري باندلاع حرب أوسع.

على طول الحدود مع غزة، تخشى مصر من أن تسعى إسرائيل إلى إخلاء الأراضي من السكان من خلال نقل الملايين منهم إلى سيناء. أمّا االأردن، حيث يعيش ملايين الفلسطينيين ضمن حدوده، فهو الآخر قلق من التداعيات المحتملة لأعمال إسرائيل في غزة والضفة الغربية على استقراره الداخلي.

عندما حدث أمرٌ مماثل في العام 1948، خلق اضطرابات على مرّ أجيال وأجيال في المنطقة تُرجمَت بحروب وانقلابات، وبروز النزعة الراديكالية والإرهاب، وقيام الدولة الأمنية على حساب الحرية والديمقراطية.

كلّما استمرّت إسرائيل بسلوكها الحالي، كلّما تصاعد الغضب في أرجاء المنطقة. إنّ الوسيلة المنطقية الوحيدة لتفادي حرب إقليمية في المدى المنظور والحدّ من تداعياتها المستقبلية، هي بوضع حدّ للإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل في غزة ومعالجة مسألة حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بصورةٍ جدّية. أمّا في الوقت الحاضر، فيبدو أنّ الحلول العسكرية هي الأوراق الوحيدة المطروحة على الطاولة.

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية