رجل فلسطيني يحمل جثة طفل بعد انتشالها من تحت أنقاض مبنى إثر غارة إسرائيلية على منطقة الزوايدة وسط قطاع غزة في 30 ديسمبر 2023، وسط معارك مستمرة بين إسرائيل وحركة حماس. (تصوير مجدي فتحي/ نور فوتو) (تصوير مجدي فتحي / نور فوتو / نور فوتو عبر وكالة فرانس برس)

غزة وتداعياتها بعد مرور ثلاثة أشهر — آراء من المجلس

تدخل الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة شهرها الرابع ولا تلوح لها نهاية في الأفق. وتترتّب عليها عواقب مدمّرة تفوق التصوّر على 2,2 مليون فلسطيني يعيشون في القطاع، والتي تواجه إسرائيل بسببها الآن اتهامات بارتكاب جرائم إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية. يقدّم الزملاء في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية آراءهم لتداعيات أحداث 7 أكتوبر على مختلف الأبعاد.

11 يناير، 2024

زيارة بلينكن تتخطّى مستقبل غزة

عادل عبدالغفار

بعد ثلاثة أشهر على اندلاع حرب غزة، عاد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى المنطقة في أعقاب سلسلةٍ من الزيارات السابقة. لكن على الرغم من الدبلوماسيّة المكوكيّة المستمرّة، تتواصل الإبادة الجماعية في غزة بلا هوادة. هذه المرة كان بلينكن يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف، أوّلها “تهدئة” حملة إسرائيل من خلال تشجيعها على الانتقال من القصف العشوائي إلى الغارات الموجّهة؛ ثانيها زيادة المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى غزة؛ وثالثها اقتراح سيناريوهات على إسرائيل والدول الإقليمية حول الحوكمة في غزة ما بعد الحرب. ويمكن القول إن ثمّة هدفاً آخر لا يتعلّق بالحرب بقدر ما يتعلّق بالسياسة الأمريكيّة الداخليّة يتمثّل بإنقاذ إدارة بايدن.

 

وصلت نسبة التأييد الشعبي لبايدن إلى 37,7 في المئة، وبالتالي، فهو حالياً الرئيس الأمريكي الأقل شعبيةً في التاريخ المعاصر في هذه المرحلة من ولايته. صحيح أنّ عوامل أخرى لها دور، بما فيها تقدّمه في السن ولياقته الذهنية المثيرة للشك، إلّا أنّ مقاربة بايدن إزاء الصراع في غزة تنعكس سلبياً على هذه النتيجة أيضاً. فقد أظهر استطلاعٌ للرأي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” وجامعة “سيينا” أنّ الأمريكيين لا يوافقون على الطريقة التي يتعامل بها بايدن مع الصراع، وينتقد الأمريكيون الشباب بشكلٍ متزايد أكثر من الناخبين الأكبر سناً سلوكَ إسرائيل واستجابة الإدارة الأمريكية للحرب في غزة. يشعر الديمقراطيون بالقلق من أن يتخلّى الأمريكيون العرب والمسلمون عن بايدن في العام 2024 بسبب موقفه من الحرب. وعلاوة على الاحتجاجات المتزايدة، يُسجَّل استياءٌ لا سابقة له داخل الإدارة نفسها.

 

وفيما تستمرّ المجزرة في غزة ويدخل الحزب الجمهوري موسم الانتخابات التمهيدية هذا الشهر، ستتعرّض الإدارة الأمريكية لضغوط متزايدة لإنهاء الحرب، أو أقلّه دفع إسرائيل إلى تهدئتها. بالفعل، قبيل وصول بلينكن إلى القدس، أعلن الإسرائيليون عن خطوةٍ باتجاه مرحلة أكثر توجيهاً في حملتهم. إلّا أنّ هكذا خطاب سقط أمام استمرار القصف الكثيف وسقوط عدد هائل من الإصابات في صفوف المدنيين. ويبقى معرفة ما إذا كانت مهمة بلينكن الأخيرة ستحقّق أهدافها. وفي غضون ذلك، لا يزال مصير بايدن الانتخابي في مهب الريح.

 

 

سجل الدبلوماسيّة الإقليميّة

غالب دالاي

اضطلعت الجهات الإقليميّة، المستاءة من دعم الغرب المطلق لإسرائيل، بدورٍ دبلوماسي ناشط بهدف إنهاء الحرب في غزة. وبرزت قطر كالمحاور الرئيسي في المفاوضات بشأن الإفراج عن الرهائن والهدنات المقابلة في القتال. حاولت مصر تأدية دور مشابه. ومن جهتها، استضافت المملكة العربية السعودية قمماً للدول العربية الإسلامية، فأنشأت مجموعةً من سبع دول مكلّفة بالدبلوماسية والضغط لدى العواصم الرئيسية بغية التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار. لكن نظراً للدمار المتواصل في غزة وحتى الحديث عن طردٍ جماعي للسكان من قبل مسؤولين إسرائيليين، يبدو أنّ هذه المبادرات لم تؤدِ إلى أي نتيجة ملموسة.

 

برزت تركيا كلاعب دبلوماسي آخر، فسعت إلى التعويض عن دعم الغرب المطلق لإسرائيل من خلال السعي إلى إشراك قوى غير غربية على غرار الصين وروسيا، بالإضافة إلى دول من الجنوب العالمي. وناشدت أنقرة أيضاً المؤسسات الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، التحقيق في جرائم الحرب المرتكبة في غزة. لكن على الرغم من إدانة بكين وموسكو لإسرائيل وانتقادهما لازدواجية المعايير الغربية، لم تبذل أي منهما جهداً أو تمارس ضغطاً دبلوماسياً مستداماً في حين أنّ المحكمة الجنائية الدولية لم تتخذ أي إجراء.

من ناحية الجنوب العالمي، رفعت جنوب أفريقيا دعوى ضدّ إسرائيل لدى المحكمة الجنائية الدولية بموجب اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ووافقت عليها دول أخرى من العالم غير الغربي، بما فيها ماليزيا وتركيا والأردن، بشكلٍ رسمي. أمّا الملفت للانتباه فهو أنّ ما من دولةٍ عربية باستثناء الأردن دعمت هذه الدعوى رسمياً.

وقد اقترحت دولٌ، من ضمنها تركيا وقطر ومصر، مسارات ممكنة لتجاوز هذا الصراع. غير أنّه في غياب وقفٍ لإطلاق النار، تَعتبر دول إقليمية كثيرة أنّ الحديث عن سيناريوهات “اليوم التالي” يخدم الهدف الآيل إلى الإلهاء عن الحاجة إلى وقفٍ فوري لسفك الدماء. علاوة على ذلك، وعوضاً عن تقديم صورة شاملة للقضيّة الفلسطينية، تُركّز هذه الأحاديث على غزة وحماس من منظارٍ ضيّق للغاية. من هذا المنطلق، لا بدّ من أن تسعى الدول الإقليمية إلى تغيير طبيعة الحديث عن القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى بذل قصارى جهدها للتوصّل إلى وقف إطلاق النار.

 

 

غياب القيادة الفلسطينية يجعل الوضع أسوأ بكثير

عمر حسن عبدالرحمن

من حماس إلى فتح، لم تكن القيادة الفلسطينية في أزمة صارخة كما هي عليه الآن.

تمكّنت حماس في السابع من أكتوبر من تنفيذ عمليّة قلبت النمط السائد، ولكنّها ما لم تتمكّن من القيام به كان إدارة نتيجة أعمالها. ووراء قدرتها على محاربة الجيش الإسرائيلي على الأرض -وتحت الأرض- في غزة، وعلى التفاوض من خلال استخدام عدد الرهائن المحدود الذين تحتجزهم، لا تملك حماس القدرة على ترجمة العمل العسكري إلى مكسب سياسي للحركة الوطنية الفلسطينية.

ويُعزى ذلك، إلى حدٍ بعيد، إلى أنّ حماس لم تكن يوماً قادرة على شرعنة نفسها على الساحة السياسيّة الدوليّة. فعلى الرغم من محاولاتها المتكرّرة لتحقيق ذلك، من خلال خوض انتخابات السلطة الفلسطينية وتعديل ميثاقها من بين أمور أخرى، إلّا أنّ جهودها باءت بالفشل لعددٍ من الأسباب، بما في ذلك معارضة معارضيها، وطبيعة أيديولوجيتها وتكتيكاتها. وخلافاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تخطّت معارضة مماثلة واكتسبت اعترافاً وتمثيلاً داخل جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، عجزت حماس عن إحراز تقدّم مماثل، وعن بناء علاقات وطيدة إلّا بعدد قليل من الدول والمجموعات المسلّحة.

غير أنّ منظمة التحرير الفلسطينية-السلطة الفلسطينية ومقرها رام الله، كانت، على شرعيتها، غائبة بشكلٍ غير مبرّر في خلال الأشهر الثلاثة الماضية، في الوقت الذي يتعرّض فيه شعبها لإبادةٍ جماعية. وفي أفضل الأحوال، أصبحت السلطة الفلسطينية مجرد بيدق بين الأيادي الأمريكية الجاهدة للظهور في مظهر نشط في وضع خطة للمستقبل بعد انتهاء حملة إسرائيل.

وفي ظلّ هذا الفراغ، يبذل المجتمع المدني الفلسطيني والنشطاء والمفكّرون في الشتات ومجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان والداعمون الدوليّون لحقوق الفلسطينيين قصارى جهدهم لإيصال السردية الفلسطينية ومكافحة التضليل ودعم السياسات في العواصم العالمية وحشد الإغاثة الإنسانية والدفاع عن القضية الفلسطينية. إلّا أنّ هذه الجهود الحميدة مجزأة وغير منسّقة إلى حد بعيد، وتفتقر إلى قدرةٍ حقيقية على التعبئة وإلى رؤية سياسية توحيدية. باختصار، لا تُشكّل بديلاً مناسباً عن وكيلٍ سياسي منظم وفعّال.

الكثير على المحك وأكثر من أي وقتٍ مضى. فلا يواجه الفلسطينيون كارثةً شبيهة بنكبة 1948 فحسب، بل روّعت أعمالُ إسرائيل العالم، وتبرز فرصة حقيقية للتصدّي لإفلات إسرائيل من العقاب وتحقيق نتائج دبلوماسيّة وسياسيّة. بيد أنّ القيادة الفلسطينية فشلت في انتهاز هذه الفرصة فشلاً ذريعاً.

عوضاً عن ذلك، وقعت المسؤولية على أطراف ثالثة على غرار جنوب أفريقيا للتحرّك، فتحدّت ضغوطاً دولية هائلة لرفع عريضة إلى محكمة العدل الدولية تتّهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. وقد أدّت قطر ومصر دوراً رئيسياً في المفاوضات لتبادل الرهائن ودخول المساعدات الإنسانيّة. لكن في ما يتعلق بالإستراتيجيّة السياسيّة، لا أحد على رأس القيادة.

 

مستقبل حماس؟

بيفرلي ميلتون-إدواردز*

لطالما كانت قدرة حماس على الاستمرار موضع شك من قبل أعدائها منذ تأسيس عند انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987. وعلى مدى العقود التالية، حملت حماس السلاح كجزءٍ من إستراتيجيتها للمقاومة، وأثّرت، من خلال اللجوء إلى التفجيرات الانتحارية وفي وقت لاحق القصف الصاروخي، في إسرائيل وفي السردية القائلة بأنّها لا تقهر، تأثيراً هائلاً.

عندما فازت حماس في الانتخابات الحرة والنزيهة التي جرت في العام 2006، ضغطت إسرائيل عليها من خلال فرض حصار على غزة بأكملها. ومنذ ذلك الحين، سعت إسرائيل في هجمات عسكرية متتالية إلى التأكّد من أنّ لا مستقبل لحماس. غير أنّها أُحبطت مراراً وتكراراً. نجت حماس واستمرّت وازدهرت، فحكمت غزة وواصلت جهادها ضد إسرائيل.

وغداة الهجوم الذي شنّته حماس في السابع من أكتوبر 2023، تعهّد السياسيون الإسرائيليون علناً ومجدداً بأنّ حماس لن يكون لديها مستقبل في غزة. من الناحية العسكرية، يمكن تحقيق ذلك. في الحقيقة، تُعتبر سردية حماس حول انتصارها ضد الجيش الأكثر تطوّراً في الشرق الأوسط نسبيةً، علماً أنّ ذلك لا يقدّم الكثير من الراحة لـ 2,3 مليون شخص في قطاع غزة الذين يرزحون تحت وطأة غضب إسرائيل الشديد.

إلّا أنّ استمرار الحركة سياسياً قد يكون قصة أخرى. فخلافاً لباقي القيادة الوطنية الفلسطينية، ما زالت حماس تُعتبر بشكلٍ واسع المجموعة الوحيدة التي تتمتّع بدعمٍ شعبي كونها تحمل لواء الحق المشروع في الدفاع عن النفس والمقاومة باسم شعبٍ خاضعٍ للاحتلال ولسياسات مساوية للفصل العنصري من قبل الدولة الإسرائيلية. بالتالي، كلّما استمرّ الاحتلال ونظام الفصل العنصري، ستستمرّ جاذبية حماس الشعبية.

* بيفرلي ميلتون-إدواردز هي مؤلفة (مع ستيفن فاريل) الكتاب بعنوان: “Hamas, the Quest for Power” (كامبردج: مطبوعات بولتي، )2024. في العام 2010، شاركت بيفرلي ميلتون-إدواردز في تأليف كتاب بعنوان: “Hamas, the Islamic Resistance Movement” وألّفت في العام 1996 “Islamic politics in Palestine”.

 

على الغرب فرض خطوط حُمر على إيران

رانج علاء الدين

في السابع من أكتوبر، أظهرت حركة حماس إمكاناتها الهائلة في وجه خصمٍ ضخم ومتفوّق عليها بأشواط، بالإضافة إلى قوتها البشريّة وإبداعها في استخدام الموارد عندما أطلقت هجوماً إرهابياً لم يسبق له مثيل ضد إسرائيل. من الصعب تصوّر أن يكون هذا العمل لم يحظَ بدعمٍ عملاني ومادي من إيران، التي رحّبت بالهجوم، والتي تمثّل أهم سندٍ لحماس، وزوّدتها بدعمٍ مالي وعسكري كبير طوال عقود. بالتالي، فإنّ هذا الدعم، الذي يُعتَبر أساسياً لبسط حماس سيطرتها في غزة، يجعل من غير المنطقي ألّا تكون إيران على غير علمٍ مسبق بالهجوم، ما يجعل طهران متواطئة، على الأقل، في إتاحته.

تتعدّد الأسباب التي تدفع إيران لدعم هكذا عمليّة وتسهيلها، منها عرقلة عمليّة التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل وتقويض اتفاقات التطبيع القائمة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة ودول عربية أخرى مثل البحرين والمغرب. لقد شهد الصراع في غزة أيضاً قيام وكلاء إيران في المنطقة بفرض نفوذهم. في الواقع، نفّذت الميليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا 60 هجوماً على الأقل ضد القوات الأمريكيّة منذ السابع من أكتوبر، في حين شنّ الحوثيون في اليمن هجمات في البحر الأحمر جعلت التجارة العالمية رهينة لها. وعزّزت هذه العمليّات عرض القوّة الإيرانية في المنطقة بينما قوّضت في المقابل النفوذ الغربي والوضع الأمني في الشرق الأوسط.

على مدى أعوام، اشتكت المنطقة من استعداد إيران للقتال حتى آخر عراقي وسوري ويمني؛ والآن تخاطر إيران بحياة الفلسطينيين كجزءٍ من طموحاتها العقائدية الملتوية في المنطقة. ما لم توعز إيران وكلاءها -بمن فيهم الحوثيين وحزب الله وقوات الحشد الشعبي في العراق- بالتراجع، سيزداد خطر اندلاع حرب إقليمية. وفقاً لحسابات إيران، فهي تظنّ أنّ الأمر سيكون كالمعتاد وستواجه ردود فعل سلبية محدودة في الداخل. بالتالي، ينبغي على الغرب تغيير هذه الحسابات من أجل الحؤول دون اندلاع حرب إقليمية كبرى، لا سيما من خلال مضاعفة تصميمه على ردع إيران والتزامه بذلك، ما يتطلّب فرض خطوط حُمر تحذّر من أنّ أي هجوم جديد لوكلاء إيران سيُنسب مباشرةً إلى النظام الإيراني نفسه.

 

الصراع يضرّ باقتصادات المنطقة

طارق يوسف

دخل العنف في قطاع غزة شهره الرابع في ظلّ ازدياد احتمال استمرار انعدام الاستقرار الجيوسياسي، بما فيه خطر اتّساع رقعة الصراع. يضرّ حجم المأساة الإنسانية المستمرّة وعدم اليقين المتزايد لما يخبئه المستقبل  بشكلٍ كبير بمعنويات المستهلكين والشركات والمستثمرين وصناع السياسات في أنحاء المنطقة. ونتيجةً لذلك، من المرجّح أن تنتقل الخسائر الاقتصاديّة المسجّلة في نهاية العام 2023 إلى العام الجديد وربما بعده.

بدايةً، لعلّ التباطؤ في النشاط الاقتصادي في العام الفائت مقارنةً مع العام 2022 كان أكثر حدةً مما كان متوقّعاً بكثير في منتصف العام، بما أنّ الربع الرابع يتزامن عادةً مع نشاطٍ تجاري متقدّم في قطاعات رئيسية متعدّدة تشمل السياحة والبيع بالتجزئة والخدمات المالية. وعادةً ما تُسرّع الوكالات الحكومية الإنفاق في الربع الأخير من أجل التعويض عن فترة الصيف البطيئة وتحقيق الأهداف المتوخاة لنهاية السنة. بينما يتطلّب الاحتساب الكامل للنتائج أشهراً عديدة، توحي المعلومات المتوفّرة بأنّ الكثير من القرارات المتعلّقة بالإنفاق والتوظيف والاستثمار تأجّلت أو أُلغيت بعد السابع من أكتوبر، لا سيما في الاقتصادات الأضعف حيث مدّدت الضغوط المرتبطة بسعر الصرف ومعدلات البطالة المرتفعة الأزمةَ المعيشيّة.

وفي الوقت الذي يهيمن فيه عدم اليقين على العام الجديد، ستنعكس تداعياته سلبياً على الاقتصاد، وستؤثّر في القرارات المتعلّقة بالإنفاق والتوظيف وستردع المستثمرين الأجانب أكثر فأكثر. وستُؤجّج الحكومات الإقليميّة التي تؤدّي دوراً مفرطاً في الاقتصادات، المخاوف على الأمن القومي في منح العقود والموافقات التنظيميّة، ما يكثّف الضغوط على النشاط التجاري. وحيث لا تخفّض الحكومات النفقات، ستعطي الأولويّة للإنفاق على قطاعي الدفاع والأمن على حساب الأولويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة. بالتالي، ينبغي تخفيض التوقّعات السابقة بشأن انتعاشٍ اقتصادي في العام 2024 لتعكس الظروف الحاليّة.

 

تداعيات الحرب بين إسرائيل وحماس على أسواق الطاقة

عبدالفتاح علي

لقد تجاوزث الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس نطاقها الجغرافي وأثّرت في أسواق الطاقة على الرغم من مساهمة إسرائيل الصغيرة والمحدودة كمنتج للطاقة. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنّ هذه الازمة تأتي في أعقاب صدمات كبيرة تعرّضت لها أسواق الطاقة على مدى السنوات القليلة الماضية إثر الغزو الروسي لأوكرانيا وقرار الأوبك + بخفض الإنتاج في يونيو 2023، ممّا يزيد من غياب الاستقرار على الساحة الجيوسياسية. بالإضافة إلى ذلك، للحرب في غزة تداعيات مباشرة على الممرات المائية الحيوية وتشكّل تهديداً كبيراً بالتصعيد في منطقة تقع في قلب إمدادات الطاقة الهيدروكربونية في العالم.

وفي ظل اشتداد الصراع، ارتفعت أسعار خام برنت ووصلت إلى ما يقارب 98 دولاراً للبرميل عند افتتاح الأسواق الآسيوية. ويمتد تأثير الصراع إلى سوق الغاز الطبيعي المسال حيث ارتفعت الأسعار الفورية للغاز الطبيعي المسال أكثر من 40 في المئة في خلال أسبوع بعد السابع من أكتوبر. وعلى الرغم من استجابة السوق الحالية بإدخال علاوات المخاطر لتحقيق الاستقرار في الأسعار بإضافة 3 و4 دولارات للبرميل في أسعار النفط الخام، فإنّ طبيعة الصراع وتصعيده المحتمل يشكّل تحدّياً كبيراً على تدفقات الطاقة. وقد حذّر البنك الدولي بالفعل من أنّ أسعار النفط قد تصل إلى 150 دولاراً في العام 2024 – مستوى وصل إليه سعر النفط مرّة واحدة من قبل في العام 2008 – إذا توسّعت الحرب كما حدث في العام 1973 وتأثير الحظر النفطي العربي.

وقد تكون لحالة عدم اليقين الجيوسياسية تداعيات اقتصادية على الكثير من الدول يتردّد صداها عبر مشهد الطاقة العالمي. وقد يمتد مسار الصراع إلى الدول المجاورة، وخاصة لبنان اليمن وإيران، خصوصا وأنّ إسرائيل تستمرّ بضرب أهداف خارج غزة. وفي حين أن الأدلّة المباشرة على الدعم الإيراني لحماس لا تزال غائبة، قد تدفع هكذا أدلّة بالولايات المتحدة إلى تشديد العقوبات على صادرات النفط الإيرانية. ويمكن أن تؤدّي زيادة إنفاذ العقوبات إلى تقليص الكميات، ممّا يؤثّر في العجز المتوقع في العرض وربما ينعكس على خطط خفض الإنتاج في المملكة العربية السعودية. ومن المرجّح أن تقوم المملكة العربية السعودية وشركاء أوبك+ بمراقبة الوضع، وتجنّب القرارات غير المحسوبة بناءً على تقلّبات السوق على المدى القصير.

 

السياسة الأمريكية الفاشلة بشأن غزة تكلّف واشنطن مصداقيتها الدوليّة

سحر خميس

في الوقت الذي يصعب فيه الحديث عن منتصرين ومهزومين في خضم المأساة الإنسانية الصادمة المستمرّة في غزة، يمكن القول إنّ البعض قد استفاد والبعض الآخر خسر. على الرغم من عدد القتلى المدنيين الهائل والمجزرة المروّعة بحق الشعب الفلسطينيين، حظيت قضيته من أجل التحرير اهتماماً ودعماً وتضامناً دولياً غير مسبوق منذ السابع من أكتوبر. أما الخاسر الأكبر، فهو الولايات المتحدة التي تلقّت سمعتها ونفوذها ومصداقيتها الدولية ضربة قاسية. فقد خلق دعم واشنطن غير المشروط لإسرائيل منذ بداية الأزمة معضلةً أخلاقية هائلة بالنسبة إلى البلاد التي ربّعت نفسها على عرش المدافع الدولي عن حقوق الإنسان وحكم القانون. في الواقع، لقد تضرّرت نفوذ الولايات المتحدة ومصالحها في الخارج كثيراً بسبب استخدام قذائف وأسلحة أمريكية الصنع على نطاق واسع لقتل مدنيين أبرياء في غزة، كثيرون منهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى تعطيلها المتكرّر لقرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

إنّ الولايات المتحدة بضعفها الحالي تُمهد الطريق أمام نهاية “الاستثنائية الأمريكية” والعالم الأحادي القطب تحت الهيمنة الأمريكية. بالفعل، لم تفوّت روسيا والصين أي فرصة لاستغلال هذا الوضع من خلال اتخاذ مواقف مضادة للمواقف الأمريكية. لقد بدا الخطاب الأمريكي الرسمي المنادي بـ”هدنات إنسانية” بغية السماح بإيصال مساعدات إلى المدنيين في غزة والداعي في الوقت نفسه لإسرائيل إلى توخي دقة إستراتيجية أكبر في هجماتها ضد أهداف لحماس، بنظر العالم كمحاولةٍ متأخّرة ومحدودة وفاشلة من الولايات المتحدة لتجميل صورتها المشهوّة إلى حد بعيد، من دون ممارسة تأثير حقيقي في الأزمة التي قامت بتمكينها. وفي ظل موجات الغضب والاستياء المتصاعدة في الداخل في صفوف الكثير من الأمريكيين الذين يعارضون أن تساهم أموال ضرائبهم في تمويل إبادة جماعية مستمرّة في غزة، لا يكلّف دعم بايدن غير المشروط لإسرائيل أمريكا قيادتها وسلطتها ومصداقيتها الدولية فحسب، بل أيضاً مصداقية إدارته في الداخل، وربما ولاية ثانية في البيت الأبيض.

 

الازدواجية الغربية إزاء حقوق الإنسان

الهاله الكواري

لقد كشفت الحرب الدموية على قطاع غزة إزدواجية المعايير المترسّخة في العالم الغربي. لقد تغنّت الحكومات الغربية لقرون بدورها في ترسيخ قيم حقوق الإنسان والعدالة والمساواة. وغالباً ما تُرفع الثورات التي قامت على أساس دحض الظلم واسقاط الأنظمة الشمولية والاستبدادية، كالثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، مثالاً في الفكر السياسي الغربي على أهمية حرية واستقلال الفرد. ولكن فشلت الحكومات الغربية في ترجمت هذه القيم إلى أفعال في وجه الظلم والطغيان والمستمرّين في غزة.

وحيث أن الحرية هي أعظم القيم الإنسانية المعاصرة، فمن البديهيات والمسلمات أن نرى كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تسخران ترساناتهما العسكرية والإعلامية والسياسية لدعم الشعب الاوكراني المضطهد في حربه الأخيرة مع الدب الروسي منذ ٢٠١٤ وحتى الان. فالحضارة الغربية تدّعي وقوفها مع المظلوم والمضطهد والمسلوب من حريته وارادته، وتبغض الظالم والمحتل والمستبد، لأن الحرية والعدالة هما القيمة العليا والمطلب الأول.

يدّعي الغرب أنّه يقف مع المضطهدين ويكره الظالمين، وأنّه يتبنّى الحرية والعدالة كقيمه العليا. ورداً على الغزو الروسي لأوكرانيا، سارع كلّ من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى حشد الدعم العسكري للشعب الأوكراني. ولكن في غزة، حيث لا يخدم جهد مماثل المصالح السياسية للحكومات الغربية، لم تفشل هذه الحكومات في مكافحة الظلم فحسب، بل تقوم أيضاً بتسليح المضطهِد.

وقد شهدت شوارع غزة انهياراً تاماً لما فُرِض على الدول غير الغربية في ما يتعلّق بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وحقوق الأقليات الدينية والعرقية. فبينما يواجه الفلسطينيون عنفاً جنسياً وقتلاً للأطفال وقصفاً عشوائياً يستهدف المدنيين العزل، تستمرّ الحكومات الغربية في شحن الأسلحة إلى إسرائيل من دون فرض خطوط لأعمال النظام. وتثبت المعايير المزدوجة الحالية أنّ المصالح السياسية هي القوة الدافعة وراء سياسات هذه الحكومات، وأنّ حقوق الإنسان ليست أكثر من أداة لتبرير الاستعمار في الماضي والحاضر.

 

 

 

هذه المقالة هي ضمن سلسلة مقالات “آراء من المجلس” يعبّر من خلالها الزملاء والخبراء في المجلس عن آرائهم ورؤياهم حول القضايا الرئيسية التي تواجه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: آراء من المجلس، السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية، عدوان إسرائيل على غزة
البلد: إيران، العراق، سوريا، فلسطين، قطر، مصر