صورة مأخوذة من لقطات نشرها المركز الإعلامي لأنصار الله الحوثيين في اليمن في 19 نوفمبر 2023، تظهر أعضاء من الجماعة في أثناء الاستيلاء على سفينة شحن مرتبطة بإسرائيل في مكان غير محدد في البحر الأحمر. (المركز الإعلامي لأنصار الله/ وكالة الصحافة الفرنسية)

الصراع في البحر الأحمر يفاقم مأساة الملايين

لا تتخطّى تداعيات الهجوم الإسرائيلي على غزة مناطق أبعد من القطاع لتصل إلى لبنان واليمن فحسب، بل يتردّد صداها على الاقتصاد العالمي بأكمله وتهدّد بمفاقمة مأساة الملايين.

22 فبراير، 2024
فوزي الغويدي، أميمة شلبي

لقد تسبّبت الهجمات التي شنّتها جماعة الحوثيين اليمنية على السفن التجارية في البحر الأحمر ردّاً على العُدوان الإسرائيلي على غزّة، بشلّ حركة التجارة العالمية بشكلٍ فوريٍ، إلّا أنّ الاستجابة الدولية التي قادتها الولايات المتحدة زادت من احتمال تصاعد الصراع والأضرار الاقتصادية ليس إلّا. إذ يُنذر تزايد حدّة التوتّرات في مضيق البحر الأحمر بسلسلة من التصعيد التي قد تعيد رسم التوازنات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك الجهود الرامية إلى إنهاء الحرب الطويلة في اليمن.

 

الإستراتيجية الأمريكية الفاشلة

في غضون أسابيع قليلة من بدء القصف الإسرائيلي على غزة في أكتوبر، بدأ الحوثيون – المعروفون أيضاً باسم أنصار الله – بمهاجمة السفن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر وخليج عدن. مع استمرار تدمير غزة، أصبحت الهجمات أكثر تواتراً، ما حوّل مضيق باب المندب – الممر المائي الحيوي بين آسيا والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا – إلى منطقة محفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى الشحن التجاري وزاد تكاليف الشحن والتأمين بشكلٍ كبير.

 

حاولت إدارة بايدن في البداية تجنّب مواجهة في البحر الأحمر خوفاً من توسيع رقعة الحرب الدائرة في غزة، لكن مع تصعيد جماعة الحوثي، اضطرّت واشنطن إلى التدخّل لوقف تهديدات الجماعة عند مدخل البحر الأحمر الذي يشكّل طريقاً رئيسياً لشحن الطاقة البحرية والسلع. ورداً على ذلك، حشدت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تحالفاً بحريا مكوّناً من 20 دولة في ديسمبر عُرِف باسم “حارس الازدهار” (Operation Prosperity Guardian) لضمان حرية الملاحة في الممرّات المائية، بينما شنّت موجة من الضربات العسكرية ضد مواقع الحوثيين داخل اليمن بغارات استهدفت مواقع عسكرية تابعة للحوثيين، أطلقت عليها عملية “سهم بوسيدون” (Archer Poseidon).

 

صحيح أنّ الهجمات الأمريكية تمكّنت من استهداف منصّات صواريخ وطائرات بدون طيار تابعة لجماعة الحوثي بحسب تقارير وزارة الدفاع الأمريكية، إلّا أنّه من غير المحتمل أن تقدر هذه العمليات على ردع الحوثيين أو كبحهم بشكل دائم. لا بل على العكس، فقد زادت من وتيرة تصعيد الجماعة لعملياتها . وعقب الهجمات الأمريكية البريطانية، أصبحت السفن التابعة لدول تحالف “حارس الازدهار” أهدافاً لجماعة الحوثي، الأمر الذي فاقم الوضع وزاد خطورة الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن. علاوة على ذلك، عاملت الولايات المتحدة المسألة على أنّها منفصلة عن حرب غزة ومنحت إسرائيل سقفاً غير محدود لارتكاب الجرائم، ما يزيد احتمال تفاقم الأوضاع وتدهورها أكثر ممّا هي عليه.

 

وعلى الصعيد الإقليمي أظهر بعض وكلاء إيران تردّداً في الانخراط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. على سبيل المثال، أعلنت كتائب حزب الله في العراق أنّها ستعلّق هجماتها ضدّ القوات الأمريكية بعد الرد الأمريكي على استهداف المجموعة لجنود أمريكيين على الحدود السورية الأردنية. لذا، من المحتمل أن يزيد هذا الأمر الضغط على الحوثيين لمواصلة عملياتهم، خصوصاً مع تردّد المجموعات الأخرى الذي سيجعل التركيز أكثر على جبهة البحر الأحمر.

 

ويبرز هنا احتمالان. الأول، هو أن تستمرّ إدارة بايدن بنهجهها الحالي، أي الضغط على الحوثيين بضربات مضادة وفرض عقوبات مرتبطة بتصنيفه بين المجموعات الإرهابية. بيد أنّ هذا النهج قد يجعل الحوثيين يكثّفون هجماتهم ضد الأهداف الغربية بشكل عام لإثارة ردّ فعل أكثر عدوانية من واشنطن، نظراً لأنّ الاشتباك المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية يرسّخ عقيدتهم الأيدولوجية وتكسبهم شرعية نضالية على المستوى المحلّي والإقليمي هم بحاجة إليها.

 

أمّا الاحتمال الثاني، فهو أمكانية أن توسّع الولايات المتحدة تدريجياً عملياتها العسكرية. ولكن قد يترتّب على ذلك أيضاً عواقب سلبية كبيرة كإغلاق ميناء الحديدة في اليمن، ما سيفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي المروّع أصلاً في البلاد. كما من المحتمل أن يضطر الحوثيون إلى الانخراط في حرب شاملة، وعلى إثر ذلك ستتعثّر المباحثات الجارية لإرساء السلام في اليمن. على الرغم من التقارير التي توضح عزم المملكة العربية السعودية على استكمال عملية وقف اطلاق النار في اليمن، أخّرت أحداث طوفان الأقصى وحرب غزة عملية التوقيع. وطالما لم تنضم السعودية إلى التحالف الدولي لصدّ هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، تبقى احتمالية توقيع اتفاقية السلام قائمة ومحتملة الحدوث. ما لم تقرّر الولايات المتحدة التصعيد.

 

 

التداعيات الاقتصادية

لقد فاقمت أهميّة البحر الأحمر الإستراتيجية كشريانٍ للتجارة البحرية التداعيات الاقتصادية المترتّبة على هجمات الحوثيين التي كانت تهدف في البداية إلى الضغط على الاقتصاد الإسرائيلي. ولكن لاحقاً عندما وسّع الحوثيون نطاق أهدافهم، طالت تداعيات هجماتهم التجارة البحرية الدولية، ما ينذر بعواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي بشكلٍ أوسع حيث أنّ الارتفاع في تكاليف الشحن يُهدّد بتأجيج التضخم المرتفع أصلاً.

 

بالإضافة إلى إسرائيل التي أصبحت تجارتُها البحرية عبر ميناء إيلات شبه مشلولة، ازداد اعتمادُ أوروبا على الدول الخليجية لتلبية احتياحاتها من الطاقة في أعقاب اجتياح روسيا لأوكرانيا، ما جعلها عرضةً للاضطرابات في سلاسل الإمداد. وبدأت الاقتصادات الآسيوية الرئيسية تضعف، سواء أكانت مستوردة كبيرة للنفط أم مصدّرة للسلع الأساسية.

 

في ظلّ استمرار الهجمات، أُرغم عدد من شركات شحن رئيسية على تعليق عمليّاتها في البحر الأحمر أو تغيير مسار سفنها عبر رأس الرجاء الصالح. وقد زادت كلفة الشحن بالفعل بسبب إطالة الطرق وارتفاع التكاليف الناتجة عنها -سواء في ما يتعلّق بالوقود أم بالعمالة. وبحسب منصّة الشحن العالمية “فريتوس” (Freightos)، فقد ازدادت أسعار حاويات الشحن من آسيا إلى البحر المتوسّط بثلاثة أضعاف. وفي الوقت نفسه، انخفضت حركة المرور اليوميّة عبر قناة السويس بنسبة 45 في المئة، ما يترتّب عليه تداعيات وخيمة على خزينة مصر المتعثّرة.

 

وقد أعرب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) عن قلقه بشأن الاضطرابات في التجارة وحذّر من مغبّة ارتفاع الأسعار التي يمكن أن تولّدها، لا سيما في أسواق الطاقة والأغذية. ويأتي ذلك في الوقت الذي بدأ فيه الاقتصاد العالمي لتوّه بالتعافي من الصدمات الناجمة عن جائحة فيروس كورونا المستجدّ وعن الصراع في أوكرانيا.

 

في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تشكّل الضغوط المتعلّقة بالتضخم تهديداً كبيراً للدول التي تعتمد بشكلٍ كبير على استيراد الأغذية والتي هي عرضة لصدمات الأسعار. في الواقع، تعاني المنطقة أصلاً انعداماً في الأمن الغذائي الذي يُعزى إلى ندرة المياه والأراضي الصالحة للزراعة، ويفاقمه التغير المناخي. وعلى الرغم من الانخفاض الطفيف في الأسعار العالمية للأغذية في العام 2023، لا تزال دول متعدّدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تواجه نقصاً في السلع الأساسية بسبب تراجع قيمة عملتها وندرة العملات الصعبة وعدم قدرتها على تسديد المدفوعات بشكلٍ مسبق. غالباً من تعتمد دول مثل مصر وتونس على الإعانات للحدّ من تأثير تقلّبات الأسعار العالمية، وهي الآن تواجه صعوبات للقيام بذلك بسبب تنامي الدين العام والضغوط التي تمارسها المؤسسات المالية الدولية لإصلاح الدعم.

 

يأتي كل ذلك في الوقت الذي ترزح فيه المنطقة تحت وطأة أزمات إنسانية كارثية متعدّدة في آنٍ واحد – في السودان وغزة وبالطبع في اليمن نفسه. وأفادت التقارير بأنّه في العام 2023 كان حوالي 21,6 مليون يمني بحاجة إلى مساعدات إنسانية و17 مليون شخص في حالة انعدام في الأمن الغذائي. من باب المفارقة، يُعزى جزء من ذلك إلى الارتفاع في تكاليف الشحن الناجم عن كلفة التأمين ضد الحرب. وتُهدّد عمليات التصعيد الأخيرة وإعادة تصنيف الحوثيين كمجموعة إرهابية بتأجيج الأزمة الإنسانية، حيث تتعرّض عمليات الإغاثة والتمويل للخطر. وبالتالي، فإنّ قدرة البلاد على امتصاص التأثير المحتمل لارتفاع الأسعار ضئيلة.

 

بالتالي، ستؤدّي الاضطرابات في البحر الأحمر، إلى جانب اندلاع العنف في أماكن أخرى من المنطقة في الآونة الأخيرة، إلى تفاقم المآسي في اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي ترزح تحت وطأة التضخّم. ومن السهل أن يحفّز ذلك مزيداً من الاضطرابات الاجتماعية، لا سيما نظراً للمساحات المالية المحدودة والتوترات الجيوسياسية المتنامية في المنطقة. إذا استمرّ التصعيد على هذا المنوال، سيتردّد صدى تداعيات الأزمة في البحر الأحمر أبعد من ممراته المائية الضيّقة.

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفَين حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الاحتجاجات والثورات، الاقتصاد السياسي، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العلاقات الإقليمية، عدوان إسرائيل على غزة
البلد: اليمن، فلسطين، فلسطين-إسرائيل

المؤلّفون

زميل زائر مبتدئ
فوزي الغويدي هو زميل زائر مبتدئ في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية ويحمل ماجستير في التاريخ من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر. تشمل اهتماماته البحثية التاريخ الحديث في اليمن والخليج، بالإضافة إلى الحركات الاجتماعية وحلّ الصراعات وتشكيل الدولة. وساهم في البحث والتحليل حول الديناميكيات السياسية والاجتماعية التي تشكّل اليمن والخليج، والعلاقات بينهما. وقد ألّف… Continue reading الصراع في البحر الأحمر يفاقم مأساة الملايين
زميلة زائرة مبتدئة
أميمة شلبي هي زميلة زائرة مبتدئة في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّجت مؤخراً من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملةً شهادة الماجستير في اقتصاديات التنمية. تشتمل مواضيع بحثها على الفساد، والحوكمة، واقتصاديات التنمية، وريادة الأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقبل ذلك، كانت متدربةً في مؤسسة كونراد أديناور شتيفتونغ في عمّان في الأردن، وفي… Continue reading الصراع في البحر الأحمر يفاقم مأساة الملايين