عشرات الأطفال والمراهقين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى رفح من غزة، يحملون لافتات في أثناء تجمّعهم للاحتجاج على ندرة الغذاء والماء في ظل الهجمات الإسرائيلية المستمرّة في رفح، غزة في 27 فبراير 2024. (الأناضول عبر وكالة الصحافة الفرنسية)

الدبلوماسيّة الإقليميّة في خضم الحرب على غزّة

لم ترقَ الاستجابة الدبلوماسية من دول الشرق الأوسط حتى الآن إلى مستوى خطورة الأزمة أو المخاطر التي تشكّلها على المنطقة.

29 فبراير، 2024
غالب دالاي

على مرّ الأشهر الأربعة الماضية، استاءت دول منطقة الشرق الأوسط من دعم الحكومات الغربيّة شبه غير المشروط لإسرائيل في قصفها وحصارها على قطاع غزة، وهي الآن في صدد تكثيف هجومها على رفح حيث تجمّع أكثر من مليون نازح من المدنيين. نتيجةً لذلك، حشد البعض اقتراحاته الدبلوماسيّة ولجأ إلى جهات أخرى داخل عواصم الغرب وخارج الكتلة الغربية وفي المنتديات الدولية. لكن في نهاية المطاف، كانت هذه الجهود محدودة وغير فعّالة، إذ استمرّ العدوان الإسرائيلي بلا رادع.

 

الجهود الإقليمية

 

اختلفت المقاربات الدبلوماسية باختلاف الجهات الإقليمية. فقد برزت قطر كالمحاور الرئيسي في المفاوضات حول إطلاق سراح الرهائن وما يقابلها من فترات هدنة في القتال، في حين حاولت مصر تأدية دور مماثل وإنّما بنجاحٍ محدود. أمّا المملكة العربية السعودية، فاستضافت قمةً مشتركة بين جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، التي أصدرت قراراً كلّفت بموجبه سبعة وزراء خارجية بممارسة الضغط على العواصم الرئيسية من أجل وقف إطلاق النار. وأيّدت المنظمتان قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية ودعتا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى التحقيق مع صانعي القرار الإسرائيليين بشأن الجرائم ضدّ الإنسانية.

 

باستثناء ذلك، بقيت الرياض بعيدةً عن الأضواء في هذه القضية إلى حدّ بعيد. ونظراً إلى الحرب المستمرّة وتداعياتها الإنسانيّة المُدمّرة – وفي ظلّ طرح المسؤولين الإسرائيليين العلني لطرد السكان- لم تسفر هذه الجهود الإقليميّة عن أي نتائج ملموسة. عدا عن جهود قطر (وبدرجةٍ أقل جهود الأردن ومصر)، أثبتت الدبلوماسيةُ العربية في أعقاب الاجتياح وحتى الآن أنّها غير مجدية وغير كافية.

 

علاوة على ذلك، لم يتمّ التطرّق كثيراً إلى كيفية المضي قدماً. فقد اختارت الدول العربيّة، بما فيها المملكة العربية السعودية، إلى حدٍ بعيد سياسة الترغيب عوضاً عن سياسة الترهيب تجاه إسرائيل. وهي تُعيد إحياء الفكرة وراء مبادرة السلام العربية التي طرحتها المملكة العربية السعودية في العام 2002، والتي قدّمت التطبيع الكامل مقابل انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 المُعترَف بها دولياً والالتزام بحلّ الدولتين. غير أنّ حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلية غير مهتمّة بهذه الفكرة. فلا لبس بتاتاً في معارضة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو لقيام الدولة الفلسطينية وفي التزامه بتوسيع الاستيطان غير القانوني في الضفة الغربية. وفي ظلّ غياب ضغوط دولية منسّقة تحدّد العواقب بوضوح، لا سيما من جانب الولايات المتحدة، من غير المرجّح أن تُغيّر إسرائيل مسارها.

 

في المقابل، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أنّ بلاده طرحت فكرة نظام يكون فيه ضامنون للأطراف من أجل إحلال السلام الدائم في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث تضمن تركيا ودول عربية وجهات دولية الطرف الفلسطيني. تريد أنقرة المزيد من المناقشات حول هذا الموضوع أو خططاً مماثلة على الصعيدين الإقليمي والدولي. غير أنّ الدول العربية لم تظهر، أقلّه حتى الآن، حماساً كبيراً حيال هذا الاقتراح، ولا ترغب أنقرة على ما يبدو في تخطّي الدول العربية بشأن هذه المسألة. لكن لا يبدو أنّ ثمة خطوات فعّالة في هذا الاتجاه. وهذا بدوره يضعف الدبلوماسيّة الإقليمية أكثر فأكثر.

 

حتى الآن، لم يحظَ أي اقتراح إقليمي باستحسان يُذكر من قِبل الجهات الفاعلة الغربية المنشغلة حالياً بمحادثاتها حول خطة “اليوم التالي” لحرب إسرائيل. في غياب وقفٍ لإطلاق النار ومن دون رؤية شاملة للمسألة الفلسطينية أبعد من غزة وحماس، جلّ ما تفعل هذه المحادثات هو إدامة الصراع. من هذا المنطلق، وباستثناء دفعة دبلوماسية قوية باتجاه وقف إطلاق النار، ينبغي على الدول الإقليمية توسيع الحديث الدولي عن المسألة الفلسطينية أبعد من إطار غزة وحماس المحدود، الذي يزيد من شرذمة القضيّة الفلسطينية ويختزلها بمسألةِ أمنيّة. وعلاوة على ذلك، في ظلّ قطع دول غربية متعدّدة تمويلها لوكالة الأمم المتحدة التي تُعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا، استجابةً لمزامع إسرائيل بأنّ حفنةً من موظّفيها متورّطون في هجوم السابع من أكتوبر، أصبح وضع الفلسطينيين الإنساني، واللاجئين بشكلٍ خاص، رديئاً للغاية. من أجل درء مجاعة كارثية، بإمكان هذه الدول الإقليمية على الأقل تنظيم مؤتمر للمانحين بغية سدّ الفجوة في التمويل الناتجة عن قطع الدول الغربية تمويلها.

 

التوجّه شرقاً

في مواجهة انحياز الغرب القوي لصالح إسرائيل، لجأ عدد من الدول الإقليمية إلى قوى بديلة غير غربية مثل الصين وروسيا. إلّا أنّ هذه الدول لم تقم حتى الآن سوى بإدانة إسرائيل وانتقاد ازدواجية المعايير الغربية. وكلّ منهما مكتفية باستغلال الاستياء المطّرد إزاء الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، لكنهما متردّدتان في التدخّل فعلياً من خلال تقديم اقتراحات أو ممارسة ضغوط مستمرّة. في الواقع، يتراجع نفوذ الصين في إسرائيل منذ أعوام، خاصة في خلال ولاية ترامب. وهذا يحدّ من قدرتها على أداء دورٍ دبلوماسي فاعل.

 

بالإضافة إلى ذلك، يخدم الهجومُ المستمرّ على غزة مصالح بكين وموسكو بطرقٍ أخرى. فهو يُعزّز من جهة سردياتهما المعادية للغرب ويوسّع حلقة متبنّيي هذه السرديّة، ويقوّي الاتّهامات الموجّهة ضدّ الغرب بسبب نفاقه وازدواجية معاييره حيال العالم غير الغربي ويتردّد صدى هذه الاتهامات في أجزاء واسعة من الجنوب العالمي سواء في الشارع أم في الجامعات في الغرب. يسمح ذلك للصين بتطوير سردية عالمية مبنيّة على استياءٍ واسع النطاق إزاء مختلف مظاهر ازدواجية المعايير في السياسة الغربية ومدعومة من الذاكرة التاريخية المصبوغة بالإمبريالية والاستعمار في العالم غير الغربي. ويُشكّل انهيار قوة الغرب المعنوية والسردية، كما يتجلّى بوضوح في غزة، خبراً ساراً بالنسبة إلى كل من بكين وموسكو، على الرغم من أنّ سرديتهما تفتقر إلى رؤية عالمية استباقية.

 

ترحّب الصين وروسيا كذلك باستهلاك الولايات المتحدة للمزيد من الوقت والطاقة والموارد في الشرق الأوسط، فيتراجع تركيزها على مجالات ذات أهمية إستراتيجية أكبر بالنسبة إلى هذين البلدين، على غرار أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا والقارة الآسيوية بالنسبة إلى الصين. لا ريب في أنّه إذا أصبح الصراع إقليمياً على نطاق أوسع، سيُهدّد مصالح الصين. فبكين لا تزال تعتمد على نفط المنطقة أكثر من الولايات المتحدة وأوروبا، وقد تتأثّر باضطرابات طرق التجارة البحرية إلى حدّ بعيد. بيد أنّ مصالح الصين لم تتهدّد بعد من جراء الحرب بأي قدر يُذكر، بما أنّ هجمات الحوثيين في البحر الأحمر تجنّبت حتى الآن السفن الصينية والروسية. في ضوء هذه العوامل مجتمعةً، لم تقابَل سرديات الصين وروسيا بالأفعال.

 

إنّ اجتياح إسرائيل لغزة هو في النهاية حدثاً عالمياً تترتّب عليه تداعيات دولية واسعة النطاق. لقد تضرّرت مكانة الغرب في العالم وكذلك النظام العالمي الذي يدعمها، وضعفت المؤسسات والمعايير الدولية بشكلٍ خطير. واتّسعت الفجوة بين الغرب والعالم غير الغربي. إلّا أنّ الأزمة لم تولّد استجابةً دبلوماسية ملموسة في المنطقة حيال أزمةٍ ألهبت الشعوب عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتُهدّد بإحداث زعزعة وحروب على نطاقٍ واسع. ولم تنعكس بشكلٍ كبير على العلاقات بين الحكومات العربية والغربية. لكن فيما تستمرّ الحرب على غزة، قد تواجه دول المنطقة استياءاً داخلياً متزايداً وتضطر إلى اتخاذ إجراءات لا تتّخذها عادةً، على غرار جعل عدم التعاون مع إسرائيل القاسم المشترك الأدنى بينها، بينما يزداد امتعاضُ شعوبها من سياسات الاستجابة الضعيفة التي تعتمدها حكوماتهم.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية

القضية: الاحتجاجات والثورات، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، السياسة الأمريكية الخارجية، العلاقات الإقليمية، عدوان إسرائيل على غزة، منافسة القوى العظمى
البلد: المملكة العربية السعودية، تركيا، فلسطين، فلسطين-إسرائيل، قطر، مصر

المؤلف

زميل أوّل غير مقيم
غالب دالاي هو زميل أوّل غير مقيم في مركز الشرق الأوسط للشؤون الدولية وهو أيضاً زميل مشارك في تشاتام هاوس وباحث دكتوراه في جامعة أكسفورد. وكان زميل المركز التركي للسياسات-ميركاتور ستيفتونغ في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية وزميلاً غير مقيم في مركز بروكنجز الدوحة وباحثاً زائراً في جامعة أوكسفورد وباحثاً سياسياً في مؤسّسة البحوث السياسية… Continue reading الدبلوماسيّة الإقليميّة في خضم الحرب على غزّة