متظاهرون يلوّحون بالأعلام التركية والفلسطينية في خلال مسيرة تضامنية مع الفلسطينيين في غزة، في أنقرة في 24 ديسمبر 2023، وسط معارك مستمرّة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة. (وكالة الصحافة الفرنسية)

أردوغان يسير على خطٍ رفيع بين أقواله وأفعاله بشأن غزة

هل يمكن لسياسة تركيا الخارجية إيجاد توازنٍ فعّال بين تلبية مطالب الشعب وعدم التفريط بشراكاتها الخارجية؟

21 مارس، 2024
أوزغي غينج

لقد وضعت الحربُ بين إسرائيل وحماس الرئيسَ التركي رجب طيب أردوغان في وضعٍ صعب. ففي حين أنّه ردّ بخطابٍ ناري على القيادة الإسرائيلية وعلى قصفها لقطاع غزة، كانت أفعاله على أرض الواقع مقيّدة بعوامل مختلفة، لا سيّما الوضع الاقتصادي السيء في تركيا.

 

وفيما تُذكّر انتقادات أردوغان اللاذعة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بأزمات سابقة على غرار تجاهل الرئيس التركي الشهير للرئيس الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز في قمة دافوس في العام 2009، تَعتبر دوائر السياسة الخارجية في أنقرة أنّه من شأن قطع العلاقات بشكلٍ تام مع إسرائيل -التي تمثّل شريكاً تجارياً رئيسياً- وعزلتها في شرق البحر الأبيض المتوسط، الإضرار بمصالح تركيا.

 

غير أنّ الامتناع عن اتخاذ إجراءات أكثر صرامةً أثار لا محالة حملة انتقادات من قاعدة أردوغان المحافظة دينياً، وكذلك من مفكّرين مسلمين صريحين ومجموعات حقوقية ومنظمات إنسانية، الذين ينادون بمقاربةٍ أكثر جرأة بهدف إجبار إسرائيل على التوقّف عن هجومها على غزة.

 

الاقتصاد والناخبون

أثار هجومُ حماس على جنود ومدنيين إسرائيليين في السابع من أكتوبر تحدياً فورياً لسياسة أردوغان الخارجية. قبل أسابيع قليلة من الهجوم، كانت أنقرة في طور تحسين علاقاتها مع إسرائيل سعياً منها لتحقيق فرص اقتصادية وتعزيز نفوذها على ساحة موارد الطاقة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط المضطربة. في الوقت نفسه، كانت تركيا ترمّم علاقتها مع راعي إسرائيل الرئيسي، أي الولايات المتحدة، وعلاقتها مع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي كانت متوتّرة في الآونة الأخيرة بسبب رفض تركيا طلب السويد الانضمام إلى عضوية الناتو ومحاولة أنقرة شراء طائرات مقاتلة من طراز ف-16.

 

غير أنّ ردّ إسرائيل العنيف ضدّ غزة دفع تركيا إلى تعليق عمليّة التقارب معها. على الرغم من أنّ مقارنة الرئيس أردوغان بين أفعال نتانياهو وأفعال ألمانيا النازية وتصريحاته بأنّ حماس ليست “مجموعة إرهابية” تتناقض بشكلٍ صارخ مع الآراء الغربية، إلّا أنّها لم تكسبه اعتباراً كبيراً لدى عدد من دول المنطقة، لمّا كانت حماس تحت المجهر بسبب عرقلتها لاتفاقات أبراهام. في هذه الأثناء، فضّل الغرب، والولايات المتحدة بشكلٍ خاص، جهات أخرى مثل قطر على تركيا في جهود الوساطة من أجل وقف إطلاق النار.

 

على الرغم من أنّ أردوغان في ذروة قبضته على السلطة، إلّا أنّ إدارته في وضعٍ هش. في الواقع، الاقتصادُ في حالةٍ مزرية والديمقراطية التركية تتآكل – شأنها شأن القضية الفلسطينية على لائحة أولويات تركيا. وفي حين أنّ إدانة أردوغان لإسرائيل أصبحت مبرَّرة بشكلٍ متزايد في ظلّ اشتداد حملة الأخيرة على غزة وبلوغ الخسائر في الأرواح والبنى التحتيّة مستويات لا يمكن تصوّرها، يبدو أنّ المطالب الاقتصادية تحظى بالأسبقية على سياسةٍ خارجية ذي مبادىء. يمكن القول إنّه بعدما أدرك أردوغان حدوده، ركّز بشكلٍ كبير على دائرته الانتخابية المحلّية، واعتمد لهجةً شرسة ضدّ إسرائيل من دون اتّخاذ إجراءات ملموسة تُذكرَ. في غضون ذلك، كثّف وزير الخارجية هاكان فيدان الجهود الدبلوماسية من أجل التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار وتمكين دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة واقتراح نظام الضامن لإنهاء الحرب.

 

الضغوط الداخليّة

بالنسبة إلى الناخبين الأتراك الميّالين نحو التديّن والذين يُشكّلون قاعدة أردوغان، يتطلّب الوضع في غزة خطوات ملموسة على غرار قطع الروابط التجارية مع إسرائيل والتدخّل بشكلٍ رسمي في الدعوى التي تقدّمت بها جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية ضدّ إسرائيل بسبب انتهاكها لاتفاقية الأمم المتّحدة بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية. إنّ الفظائع الأخيرة التي اتركبتها إسرائيل بحق مدنيين بالقرب من حدود رفح واستمرار منعها إدخال المساعدات الإنسانية وسياستها المتعمّدة لتجويع الغزويين تزيد من حدّة هذه الدعوات.

 

بالفعل، أعرب منتقدو أردوغان الأكثر تحفّظاً دينياً عن قلقهم ممّا يعتبرونه إعطاء الأولوية للمصالح التجارية على الاعتبارات الأخلاقية منذ اندلاع الصراع في غزة. حتى أنّ المتظاهرين الذين كانوا يطالبون بالمزيد من التحرّك تعرّضوا للغاز المسيل للدموع أو احتُجِزوا. وقال أحدهم لإحدى وسائل الإعلام المحليّة: “لقد أطلقت الشرطة التركية الغاز المسيل للدموع علينا من أجل خدمة مصالح إسرائيل”.

 

لقد نظّم متظاهرون سلميّون بانتظام تظاهرات أمام مركزٍ تجاري تملكه إحدى أبرز شركات الطاقة في تركيا، المعروفة بروابطها التجارية مع إسرائيل. وحثّوا أعضاء جمعية رجال الأعمال “موصياد” (MÜSİAD) على تعليق روابطهم مع نظرائهم في البلاد. وفي فبراير، في خلال تجّمع لحزب العدالة والتنمية تحضيراً للانتخابات البلدية، أزال موظّفو الأمن لافتة كُتب عليها “انهوا عار التجارة مع إسرائيل”.

 

تشكّل تركيا مورد منتجات رئيسي إلى إسرائيل، من المواد الكيميائية والصلب إلى الإلكترونيات والأثاث والمواد الغذائية. وقد علّق مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي الأتراك على نطاقٍ واسع على هذه الروابط التي ظلّت قائمة على الرغم من معاناة الفلسطينيين وحرمانهم تحت وطأة الهجوم الإسرائيلي.

 

وقد ردّ وزير الخارجية فيدان على عددٍ من هذه الانتقادات، مصرّحاً لقناة “الجزيرة” في نوفمبر أنّ تركيا لا يمكنها قطع الروابط التجارية مع إسرائيل أو التدخّل في دعوى الإبادة الجماعية إلّا إذا اتّخذت خطوات منسّقة مع جهات أخرى في المنطقة. وحتى الآن، نيكاراغوا هي الدولة الوحيدة التي تقدّمت بطلب للتدخل في الدعوى أمام محكمة العدل الدولية. ونظراً إلى دعم الغرب غير المشروط لإسرائيل، تساور شكوكٌ الكثيرين في دوائر السياسة في أنقرة حول ما إذا كان قطع العلاقات التجارية سيؤثّر حتى في العمليّة العسكرية الإسرائيلية المستمرّة.

 

غير أنّ هذا التحفّظ ما زال قائماً في الوقت الذي تستعدّ فيه تركيا لإجراء انتخابات مهمّة هذا الشهر. لقد أظهر استطلاعٌ للرأي أجرته مؤسسة “متروبول” في نوفمبر 2023 دعماً ضئيلاً بنسبة 3 في المئة فقط إلى إسرائيل من السكان الأتراك. في المقابل، رحّب 44,3 في المئة بالمهاجرين الفلسطينيين، ما يعكس مستوياً عالياً من التعاطف على الرغم من المعارضة الواسعة النطاق لوجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في البلاد. في الواقع، لا تعتبر غالبية الأتراك، أي ما يُعادل 55,2 في المئة، حماس منظّمة إرهابية. وتشير هذه الأرقام إلى إجماعٍ وطني متعاطف مع فلسطين.

 

قد يحدّ ذلك من التأثير الانتخابي للخطاب حول غزة في خلال الفترة التي تسبق الانتخابات البلدية هذا الشهر. ويُقلّل التعاطف العام مع الفلسطينيين وغياب أي تحرّك للحكومة من قدرة حزب العدالة والتنمية على استخدام حرب غزة للتأثير السياسي. وخلافاً للانتخابات السابقة، حيث استفاد أردوغان من القضايا الخلافية، لا تشكّل قضية فلسطين في الوقت الحالي ورقة ضغط سياسية. من جهتها، تدعو المعارضة العلمانية كذلك إلى إلغاء الروابط مع إسرائيل، ربما كوسيلةٍ لكشف النقاب عن تناقضات الحكومة.

 

بشكل عامٍ، كان أردوغان يفترض أنّه ليس أمام الناخبين المتديّنين بديل معقول عن حزب العدالة والتنمية. إلّا أنّ “حزب الرفاه الجديد”، وهو حزبٌ محافظ تقليدي ينتقد بصراحة تقاعس أردوغان تجاه إسرائيل، قال إنّه لن يدعم حزبه في الانتخابات البلدية، ما قد يجذب عدداً من المنشقّين.

 

في نهاية المطاف، سيعتمد وقف إطلاق النار في غزة على الضغط الغربي، والأمريكي بشكلٍ خاص. وتتوقّف مشاركة تركيا على استعداد الغرب لضمّها إلى طاولة المفاوضات. ولكن سيكتسب الفلسطينيون نفوذاً من جراء تأدية تركيا دوراً أقوى. بالتالي، يواجه أردوغان ضغوطاً من ناخبيه الذين يعتقدون أنّه يمكن لتركيا ممارسة المزيد من الضغط والتفاوض بقوةٍ أكبر مما تفعله في الوقت الراهن. ولكن ما دام اقتصاد تركيا وديمقراطيتها يشكّلان خطراً محتملاً، سينعكس ذلك سلباً على نفوذها ومصداقيتها كلاعبٍ دبلوماسي.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفة حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الإنتخابات، الاحتجاجات والثورات، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، العلاقات الإقليمية، عدوان إسرائيل على غزة، منافسة القوى العظمى
البلد: تركيا، فلسطين

المؤلف

زميلة زائرة
أوزغي غينج هي زميلة زائرة في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وكانت سابقاً مديرة البحوث في مركز دراسات السياسة العامة والديمقراطية في مدينة إسطنبول التركية. وشغلت قبل ذلك منصب مديرة برنامج تحقيق الديمقراطية في المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية. وكانت أيضاً خبيرة أولى في مجال الحوكمة الديمقراطية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وفي مؤسسة التعليم… Continue reading أردوغان يسير على خطٍ رفيع بين أقواله وأفعاله بشأن غزة