هل يشكّل حلّ حزب العمال الكردستاني التاريخي نقطة تحوّل في مسار الجمهورية التركية؟

إنهاء غير مسبوق لتمرّد دام لعقود يضع تركيا أمام اختبار إدارة مرحلة انتقالية دقيقة، تتطلّب تحقيق توازن بين الأمن والإصلاح السياسي والمصالحة الاجتماعية.

17 مايو، 2025
أوزغي غينج

في 12 مايو 2025، أعلن حزب العمّال الكردستاني رسمياً حلّ نفسه، منهياً بذلك نحو خمسة عقود من التمرّد المسلّح ضد الدولة التركية. وجاء الإعلان عبر مؤتمرَين متزامنَين عُقِدا في جبال قنديل ووادي الزاب، المعقلَين الرمزيين للحركة في شمال العراق، بحضور 232 مندوباً رفيعي المستوى من مختلف بنى الحزب المدنية والعسكرية.

 

لم يكن هذا الإعلان مجرّد إجراء شكليّ. فقد قرّر الحزب بشكل رسمي وقف جميع العمليات المسلّحة وتفكيك بنيته التنظيمية. وفي الوقت نفسه، صيغ بيان الإعلان عن حلّ الحزب بعناية ليُقدّم كخطوة إعادة هيكلة إستراتيجية وتطوّر سياسي، وليس كتنازل أو استسلام.

 

تُعدّ نهاية تمرّد حزب العمّال الكردستاني الحدث الداخلي الأبرز في تركيا منذ عقود، لما لها من تبعات واسعة داخل البلاد وخارجها. وعلى الرغم من الإعلان جاء مفاجئاً، يبقي من الضروري إدارة هذه المرحلة الانتقالية بحكمة، والعمل على تطوير سياسة تركية أكثر شمولاً وبُعد نظر. فهل سترتقي القيادة السياسية التركية إلى مستوى هذا التحدّي؟

 

 

رسائل حذرة

لم يكن حلّ حزب العمّال الكردستاني التاريخي مفاجئاً تماماً، إذ سبقه تطوّران بالغا الأهمية. ففي أكتوبر 2024، خرج دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية وحليف الرئيس رجب طيب أردوغان، عن مواقفه المتشدّدة المعتادة، موجّهاً دعوة لافتة إلى الحزب لحلّ نفسه، مع التلميح بإمكانية الإفراج عن قياداته المعتقلة. وفي فبراير 2025، دعا عبد الله أوجلان، زعيم الحزب ومؤسّسه، من زنزانته في جزيرة إمرالي، التنظيم إلى إلقاء السلاح.

 

وبما أنّ قرار حزب العمّال الكردستاني يمثّل خروجاً لمجموعة مسلّحة من النزاع من دون اتفاق سلام موقّع، فإنّ الطريقة التي يعرض بها كلّ طرف هذا التطوّر أمام جمهوره تكتسب أهمية خاصة. إذ تبرز حاجة متبادلة إلى تحييد الأصوات الناقدة من كلا الطرفين عبر تجنّب محاصرة الطرف الآخر أو الانجرار إلى خطاب صفري يقوم على معادلة «رابح وخاسر»، لأنّ الفشل في هذه المعادلة قد يُفشل بدوره التوازن الهشّ الذي تتطلّبه للمرحلة الانتقالية.

 

في بيانه، أعلن حزب العمّال الكردستاني أنّه «أتمّ مهمّته التاريخية» في إجبار تركيا على الاعتراف بالقضية الكردية، لا كتهديد أمني، بل كواقع سياسي ودستوري. وجدّد التزامه بمبادئ «المواطنة المتساوية» والحكم الذاتي المحلّي والتعدّدية الديمقراطية، مشدّداً على أنّ السلام المستدام يتطلّب ضمانات قانونية وتمثيلاً سياسياً ومشاركة حرّة وعلنية للفاعلين الأكراد، بمن فيهم أوجلان. كما شدّد على «التنظيم القاعدي عبر النساء والشباب»، ودعا إلى «عقد اجتماعي جديد»، في إشارة إلى تحوّل أيديولوجي من الكفاح المسلّح نحو المقاومة المدنية والتنافس السياسي. وبهذا، يعيد الحزب تموضعه كفاعل سياسي واجتماعي، يحمل مشروعاً يتطلّب بطبيعته ضمانات قانونية وآليات موثوقة للعودة والاندماج.

 

أمّا أنقرة، فتعتبر قرار الحلّ انتصاراً وطنياً يتوّج عقيدة «تركيا خالية من الإرهاب». لكن حتى الآن، تفتقر تركيا إلى خطاب تصالحي، وتُركّز بدلاً من ذلك على التدرّج في الخطوات والحفاظ على صورتها وضبط الخطاب الرسمي، بينما تقوم بإدارة دقيقة لانطباعات الرأي العام بشأن شرعية العملية السلمية.

 

وجاء ردّ الحكومة على إعلان حلّ الحزب سريعاً ومتعدّد المستويات. فقد أصدر دولت بهتشلي، باعتباره «حارساً» للاجماع القومي المحافظ، أكثر المواقف تفصيلاً. بالنسبة إليه، لا يُمثّل الحلّ بداية لحقبة جديدة، بل إغلاقاً نهائياً لفصل دموي يجب إقفاله بإحكام. وقد حدّد في بيانه خارطة طريق شاملة لنزع السلاح، شملت التحقّق الجنائي من تفكيك الأسلحة (باستخدام وسائل تقنية تضمن تدميرها أو تسليمها بشكل نهائي)، والتمييز القانوني بين المقاتلين بناءً على سجلّاتهم الجنائية، ومنع انتقال الأفراد إلى المجموعات المرتبطة بالحزب في سوريا، كحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب.

 

مع ذلك، شدّد بهتشلي على أنّ العملية لا ينبغي أن تقتصر على الأبعاد الأمنية فحسب، بل يجب أن تترافق مع إصلاحات سياسية وقانونية تعزّز أخوّة الألف عام بين الأتراك والأكراد، وتكرّس الإرادة المشتركة للتعايش. اتّسم خطابه بالدقة والمنهجية، ركّز فيه على الخطوات التالية التي يتعيّن على الحكومة اتّخاذها. وعلى الرغم من أيديولوجيته القومية المتشدّدة، برز بهتشلي كضامن لثوابت الدولة، ما أكسبه ثقة عابرة للأحزاب، بما في ذلك بين الفاعلين السياسيين والعسكريين الأكراد.

 

أمّا أردوغان، فقد جاءت رسالته موجزة وإستراتيجية. فقد أشاد بقرار الحلّ كضربة موجعة لـ «الأطماع الإمبريالية» في المنطقة، ودعا إلى توسيع نطاق هذا الحلّ ليشمل شبكة الحزب العابرة للحدود، من العراق وسوريا إلى أوروبا. واللافت في خطابه أنّه لم يأتِ على ذكر «السلام» أو «الإصلاح»، بل شدّد على أنّ جهاز الاستخبارات الوطني سيواصل رقابته الصارمة لمنع أي «انتكاسات عرضية». كان الإطار العام واضحاً: ما جرى ليس نهاية تفاوضية لحرب، بل انتقالاً مضبوطاً من العمل المسلّح نحو الاندماج في نظام الدولة، من دون المساس بسرديات الجمهورية التركية.

 

 

ما الخطوات التالية؟

تشير التقارير إلى أنّ تسليم الأسلحة سيحصل تحت إشراف دولي في مواقع محدّدة داخل العراق وسوريا وتركيا، بالتنسيق مع الحكومات المعنيّة وجهاز الاستخبارات التركي. وتتجاوز هذه الخطوة بُعدها اللوجستي، إذ تنطوي على رمزية كبيرة تعكس طابع اللاعودة، كما تحمل دلالات معنوية للطرفين. ولدعم هذا النتقال، يجري البحث في مسار منظّم يشمل احتمال نقل القيادات العليا إلى دولة ثالثة، من المرجّح أن تكون النرويج أو السويد، في حين قد يُسمح للمقاتلين من ذوي الرتب الدنيا، الذين لا سجلّات جنائية بحقّهم، بالعودة إلى تركيا تحت رقابة وإشراف منظّمَين.

 

ومع ذلك، تبقى المخاطر كبيرة، لعلّ أبرزها هشاشة قدرة الدولة التركية على استيعاب المقاتلين العائدين اجتماعياً. فقد خلّفت سنوات من السياسات الأمنية المفرطة والخطاب القومي المتشدّد ندوباً عميقة، لاسيما في المجتمعات الواقعى خارج المناطق ذات الغالبية الكردية. ومن دون أُطر شاملة لإعادة الدمج – قانونياً واقتصادياً اجتماعياً وسياسياً ونفسياً – قد ينهار هذا المسار سريعاً.

 

ومن المتوقّع أنّ تتطوّر العملية تدرّجياً بعد استكمال عملية نزع السلاح، مع تصاعد الضغط على الدولة لاتّخاذ خطوات مقابلة. وقد بدأت تتبلور بالفعل موجة من التوقّعات داخل الأوساط السياسية والإعلامية، تشمل إدخال تعديلات دستورية، وتنفيذ إصلاحات تتعلّق بالتعليم باللغة الكردية، وتعزيز صلاحيات الإدارات المحلّية. ومن المرجّح أيضاً إنهاء الممارسة المثيرة للجدل المتمثّلة في تعيين أوصياء حكوميين بدلاً من رؤساء البلديات الأكراد المنتخَبين، مع إعادة المفصولين منهم إلى مناصبهم. كما يُتوقّع أن تُطرَح مسألة الإفراج عن شخصيات سياسية كردية بارزة، في مقدّمتهم صلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشارك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي.

 

على الصعيد الدستوري، وصف مستشار رئاسي بارز هذه المرحلة بأنّها إعادة تأسيس، مع رؤية تركّز على نموذج محكم أغلبي لـ «ديمقراطية وطنية قومية» يقودها الجهاز التنفيذي. وقد يسمح هذا الإطار بطرح مبادرات ديمقراطية، مثل الاعتراف الدستوري بالتنوّع العرقي والديني، لكنّه في الوقت نفسه سيمكّن أردوغان من السعي لولاية رئاسية ثالثة. وبينما يدعم حزب الشعب الجمهوري مسار السلام ويرى في نزع سلاح حزب العمّال الكردستاني خطوة إيجابية، من غير المرجّح أن يؤيّد أي ترتيبات دستورية من شأنها إطالة عمر أردوغان السياسي.

 

باختصار، يُعدّ حلّ حزب العمّال الكردستاني أكبر تحوّل داخلي تشهده تركيا منذ عقود، مع تداعيات إقليمية ودولية بعيدة المدى. والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: هل سيمهّد هذا الحدث لتحوّل مؤسّسي حقيقي، أم سيرسّخ الوضع القائم؟ يبدو أنّ الاستقرار هو السيناريو الأرجح، لكن مصير الديمقراطية سيعتمد على كيفية إدارة هذا المرحلة.

 

هذه ليست نهاية التاريخ، بل بداية لمسار متداخل وغير مكتمل وفائق الأهمية. مسار يتطلّب استجابة تجمع بين الحذر والشجاعة، ويستلزم خيالاً سياسياً واقعياً بما يكفي لإدراك ما انتهى بالفعل. فما انتهى ليس عهد الصراع المسلّح فحسب، بل أيضاً سياسات الإنكار والأمننة والجمود. والتحدّي الحقيقي اليوم هو أن يواجه الفاعلون السياسيون هذه اللحظة كما هي، من دون أوهام، ومن دون التشبّث بسرديات لم تعد تصلح لخدمة الجمهورية التركية ومجتمعها المتغيّر.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

 

القضية: الاحتجاجات والثورات، الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: العراق، تركيا، سوريا

المؤلف

زميلة زائرة
أوزغي غينج هي زميلة زائرة في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وكانت سابقاً مديرة البحوث في مركز دراسات السياسة العامة والديمقراطية في مدينة إسطنبول التركية. وشغلت قبل ذلك منصب مديرة برنامج تحقيق الديمقراطية في المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية. وكانت أيضاً خبيرة أولى في مجال الحوكمة الديمقراطية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وفي مؤسسة التعليم… Continue reading هل يشكّل حلّ حزب العمال الكردستاني التاريخي نقطة تحوّل في مسار الجمهورية التركية؟