على مدى عقود، حافظت الصين وإسرائيل على علاقة قوية وبراغماتية نسبياً، قائمةً على التعاون التجاري والتكنولوجي الواسع. غير أنّ عامين من الدمار في غزّة، إلى جانب العمليات العسكرية الإسرائيلية الأوسع في الشرق الأوسط، أوضحا أنّ تصرّفات إسرائيل ألحقت ضرراً ملموساً بعلاقتها مع بكين. وعلى الرغم من أنّ الروابط بين الجانبين لم تنهَر بالكامل، ألقت التطوّرات الأخيرة بظلال ثقيلة على الديناميّات التي تحكم العلاقة بين إسرائيل والعملاق الآسيوي.
لطالما انسجمت سياسة الصين تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مع الإجماع الدولي. ومنذ إقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين الصين وإسرائيل في العام 1992، في خضمّ عملية مدريد للسلام، تبنّت بكين موقفاً متوازناً يقوم على تعزيز علاقاتها بإسرائيل مع التمسّك بدعم حلّ الدولتين على أساس حدود ما قبل العام 1967، بما يشمل إقامة دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية. وبصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن، استغلّت الصين موقعها أحياناً، وتحالفاتها مع الدول ذات الغالبية المسلمة ودول الجنوب العالمي، لتسليط الضوء على عزلة الولايات المتّحدة النسبية في الملف الفلسطيني، معززةً بذلك صورتها كمدافع عن التعدّدية القطبية والقانون الدولي.
في أعقاب السابع من أكتوبر 2023، دأبت الصين على إدانة الأفعال الإسرائيلية في غزّة بوصفها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، كما ندّدت مراراً بالغارات الإسرائيلية على اليمن وإيران وسوريا وقطر ولبنان في خلال العامين الماضيين، معتبرةً إياها أعمال عدوان تزعزع استقرار المنطقة. وقد أصدرت بكين بيانات حازمة بعد الهجمات الإسرائيلية على إيران في أكتوبر 2024 ويونيو 2025، دافعت فيها صراحة عن طهران ودعت إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس الإقليمي.
مع ذلك، وعلى الرغم من خطابها المعارض للسلوك الإسرائيلي، فقد امتنعت بكين عن اتخاذ أيّ إجراءات عقابية ملموسة، مثل فرض عقوبات اقتصادية أو طرد دبلوماسيين إسرائيليين أو خفض مستوى العلاقات الثنائية، مفضّلةً الحفاظ على الوضع القائم دبلوماسياً واقتصادياً.
وفي حين اقتصرت معظم ردود الصين على خطوات رمزية وتصريحات دبلوماسية انتقادية، صعّدت حكومة بنيامين نتنياهو لهجتها تجاه بكين، واتهمها نتنياهو بالمساهمة في عزلة إسرائيل الدولية وتحوّلها المتسارع إلى دولة منبوذة. ومع أنّ وقف إطلاق النار الهشّ في غزّة قد يكون أنهى المرحلة الأكثر توتّراً بين الجانبين، فإنّ الوضع الميداني في غزّة والمنطقة عموماً لا يزال بعيداً عن الاستقرار والسلام، فيما الغضب المتصاعد من إسرائيل في دول الجنوب العالمي لا يبدو أنّه سيتراجع في القريب العاجل.
التيارات الإستراتيجية المتقاطعة
يجب النظر إلى تصاعد حدّة التوتّر بين الصين وإسرائيل ضمن سياق جيوسياسي أرحب يتجاوز حدود علاقاتهما الثنائية. ففي صلب هذا السياق تبرز العلاقات المتنامية بين بكين وخصم إسرائيل اللدود، طهران، فضلاً عن احتدام المنافسة بين الصين والولايات المتّحدة. ويؤثر كلا العاملين مباشرة في بيئة إسرائيل الإستراتيجية.
وعلى الرغم من أنّ الصين وإيران ليستا حليفتين رسميّاً، فإنّهما تحتفظان بشراكة إستراتيجية قائمة على مصالح متبادلة. فبكين ترى في طهران لاعباً محورياً في غرب آسيا وعنصراً أساسياً في مبادرة «الحزام والطريق»، فضلاً عن كونها شريكاً في تحدّي النظام الأحادي الذي تقوده واشنطن. وتكشف حسابات الصين الإستراتيجية عن حرصٍ واضح على الحفاظ على استقرار إيران ومنطقة الخليج، وهو ما يفسّر معارضتها الشديدة لأيّ عمل عسكري أمريكي أو إسرائيلي يستهدف إيران. وعلى الرغم من أنّ بكين لا تؤيد امتلاك إيران للسلاح النووي، فإنّها تدعو باستمرار إلى حلّ دبلوماسي للمسألة النووية وترفض بشدّة الضربات الإسرائيلية الأحادية على الأراضي الإيرانية. كما ساعدت الصين إيران على الالتفاف على العقوبات، ويُقال إنها تساهم في إعادة بناء قدراتها العسكرية بعد العملية الإسرائيلية في أكتوبر 2024 وحرب الاثني عشر يوماً في يونيو 2025. وتثير هذه العلاقات المتنامية بين الصين وإيران شكوكاً متزايدةً في إسرائيل، ما أدّى إلى تحوّل ملحوظ في موقفها تجاه بكين.
ومنذ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، أصبحت مواجهة النفوذ الصيني العالمي أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية، بما في ذلك في الشرق الأوسط. ويعكس هذا النهج سياسات ولايته الأولى، حين مارس مسؤولون كبار، وعلى رأسهم وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، ضغوطاً على إسرائيل للحدّ من انخراطها مع بكين. وفي السنوات الأخيرة، أدّى تصاعد الضغط الأمريكي إلى تقييد إسرائيل نقل التكنولوجيا إلى الصين، خصوصاً في القطاعات الحساسة مثل الذكاء الاصطناعي والدفاع وأشباه الموصلات. وبين عامي 2020 و2022، انخفضت صادرات إسرائيل من أشباه الموصلات إلى الصين بنحو النصف، ما يعكس حجم التأثير الأمريكي. لقد ترتّب عن تقييد وصول شركات التكنولوجيا الإسرائيلية إلى الأسواق الصينية ثمنٌ باهظ، ولا سيّما في ظلّ طموح إسرائيل لترسيخ مكانتها كمركز عالمي رائد في مجال التكنولوجيا.
وفي نهاية المطاف، قد تكشف محاولة نتنياهو لتوجيه أصابع اللوم إلى الصين بشأن عزلة إسرائيل الدولية عن نية إستراتيجية لتعزيز تحالفه مع واشنطن واستمالة أصوات الأعضاء المناهضين للصين في الكونغرس الأمريكي. ويعكس قرار استهداف الصين على وجه التحديد تصعيداً خطابياً، وربما إستراتيجياً، معمّقاً بذلك الانقسام المتنامي بين الشرق والغرب الذي تؤجّجه واشنطن وترسّخه.
من خلال توطيد علاقاتها أكثر مع واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، يبدو أنّ إسرائيل تنأى بنفسها عن سياستها السابقة القائمة على التوازن الحذر بين القوتين. لكن هذا التحوّل، بدلاً من أن يكون مجرّد إعادة نظر في سياستها الخارجية، فإنّه يكشف عن إعادة صياغة أعمق لتوجهات إسرائيل الجيوسياسية، تتشكّل جزئياً تحت وطأة الإبادة الجماعية المستمرّة في غزّة وتنامي الاستقطاب الحاد في السياسة الدولية. وفي ظلّ تصاعد التنافسات العالمية، تشير مواقف إسرائيل إلى استعدادها، إن لم تكن حاجتها، لاختيار جانب في ظلّ نظام عالمي متشرذم، باتت الانقسامات بين الشرق والغرب ترسم ملامحه أكثر فأكثر.
وفي هذا السياق، تستحق الإشارة الرمزية الأخيرة من إسرائيل تجاه تايوان اهتماماً خاصاً. ففي سبتمبر 2025، زار عضو الكنيست بوعاز توبوروفسكي، تايبيه، وأشاد علناً بتايوان واصفاً إياها بأنّها «صديق حقيقي لإسرائيل» بعد لقاءات رفيعة المستوى مع كبار المسؤولين. وعلى الرغم من أنّ الزيارة بدت عملاً دبلوماسياً برلمانياً، فإنّها حملت في طيّاتها رسالة جيوسياسية ضمنية لبكين. وقد سارعت الحكومة الصينية إلى إدانة الخطوة، ووصفت توبوروفسكي بأنّه «مثير للمشاكل»، ومتهمةً إسرائيل بانتهاك «مبدأ الصين الواحدة» الذي يُعدّ حجر الزاوية في سياستها الخارجية، وحذّرت من عواقب وخيمة على العلاقات الثنائية. كما عزّز السفير الصيني لدى إسرائيل، شياو جيون تشنغ، هذا الموقف بمشاركته إدانة سفارته للزيارة على وسائل التواصل الاجتماعي، في توبيخ علني واضح.
وعلى الرغم من التوتّرات الراهنة، أثبتت العلاقات الصينية الإسرائيلية قدرة ملحوظة على الصمود. فقد ارتفع حجم التبادل التجاري الثنائي إلى 16,3 مليار دولار العام الماضي، بزيادة قدرها 11,7 في المئة عن العام 2023، ما يشير إلى أنّ للمصالح الاقتصادية منطقها الخاص الذي قد يتجاوز الخلافات السياسية. لكن تأثر هذه العلاقات في ظلّ تحوّل إسرائيل إلى دولة منبوذة سيعتمد على عوامل متعدّدة، من بينها مسار المواجهة بين إسرائيل وإيران، وتطوّر العلاقات الصينية الإيرانية، ومستقبل التنافس الأمريكي الصيني، خصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي، والاتفاق الهشّ لوقف النار في غزة.
وعلى الرغم من أنّ التوتّرات الحالية بين الصين وإسرائيل لا تزال في معظمها كلامية ولم تُحدث بعد قطيعة حاسمة في التجارة أو الدبلوماسية، فإنّها لا تُعدّ مجرّد منغصات عابرة، بل تعبّر عن تحوّل بنيوي أعمق في النظام العالمي يضيّق من هامش المناورة الإستراتيجية لإسرائيل. فقد أعادت الإبادة الجماعية في غزة صياغة تصورات دول الجنوب العالمي عن إسرائيل، في وقت تقدّم الصين نفسها كقائدةٍ له، ما يهدّد بتقليص مجال التعاون البراغماتي تدريجياً. وحتى الآن، حمت المصالح الاقتصادية العلاقات الثنائية من تداعيات خطيرة، غير أنّ مستقبلها سيعتمد على مدى قدرة الطرفين على الفصل بين خلافاتهما السياسية والمصالح الاقتصادية، أو ما إذا كانت الاستقطابات المتزايدة والعمليات العسكرية الإسرائيلية والخلافات السياسية المتعمقة ستدفعهما نحو مزيد من التباعد.