الرئيس اللبناني المنتخب جوزيف عون يلقي خطاباً أمام البرلمان في بيروت بتاريخ 9 يناير 2025. (وكالة الصحافة الفرنسية)

لبنان أمام حقبةٍ جديدة بعد تشكيل حكومة طال انتظارها

فرصةٌ نادرة وغير متوقّعة ظهرت في لبنان. مع صعود حكومةٍ إصلاحية جديدة إلى سدّة الحكم، تنفتح أمام البلاد نافذة أمل، تتيح لها - بدعم من مجلس التعاون الخليجي - إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وتحقيق الاستقرار المنشود.

21 يناير، 2025
ناصر السعيدي

تُشكّل تسمية نواف سلام رئيساً جديداً لحكومة لبنان إلى جانب رئيس الجمهورية جوزيف عون بعد أكثر من سنتين من الفراغ السياسي مناسبة عظيمة تُبشّر بحقبةٍ جديدة للبنان. وقد تكون فرصةً تاريخية شبيهة باتفاق الطائف للعام 1989 الذي أسّس لإنهاء الحرب الأهلية التي استمرّت على مدى 15 عاماً، وعودة البلاد إلى الحياة السياسية الطبيعية.  

 

مما لا شكّ فيه أنّ التغييرات الجذرية التي شهدتها المنطقة بسبب الحرب على غزة وانهيار نظام البعث بقيادة الأسد في سوريا وتدهور قدرات حزب الله بشكل كبير والانهيار الفعلي لمحور المقاومة، قد شكّلت مجتمعةً حافزاً قوياً للتغيير. بالنسبة إلى القوى الإقليمية الرئيسية في مجلس التعاون الخليجي، أي المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، تمثّل هذه اللحظة الفاصلة فرصةً لإزاحة النفوذ الإيراني عن لبنان والعراق وسوريا واستعادة نفوذها فيها. للجهات الفاعلة الإقليمية والدولية مصلحةٌ إستراتيجية لإعادة إرساء الاستقرار.  

 

يمثّل التحوّل الجذري في المشهد السياسي اللبناني انعكاساً للانقسام العميق في البلاد. فلطالما أظهرت الطبقة السياسية اللبنانية الفاشلة على مدى سنوات طويلة افتقارها للمصداقية والكفاءة وعجزها عن معالجة الأزمات المتعدّدة التي عصفت بلبنان وعن تطبيق الإصلاحات الضرورية. وها هي اليوم تسلّم الشعلة.  

 

لكنّ الثنائي عون-سلام يواجه إرثاً ثقيلاً. فقد اتّسمت المرحلة التي بدأت مع “الربيع العربي” في العام 2011 بسوء إدارة المؤسّسات وسياسات مالية ونقدية غير مستدامة اعتمدت على سعر صرف مبالغ في تقديره. أدّى ذلك إلى عجز مزدوج في الموازنات العامة والحساب الجاري وتراكم هائل للديون. وعلى مدى عقود، أدار المصرف المركزي اللبناني مخطّط بونزي تحت قيادة حاكمه السابق رياض سلامة (الذي يقبع حالياً في السجن). انفجر الوضع في نهاية المطاف، ما أدّى إلى استنفاد الاحتياطيات الدولية وانخفاض سعر الصرف بنسبة 99 في المئة وتضخّم مفرط وانهيار النظام المصرفي. وقد أسفر ذلك عن إحدى أعمق الأزمات المالية العالمية في العصر الحديث. تجاوزت خسائر المصرف المركزي 200 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، وأصبح اقتصاد لبنان قائماً إلى حدّ كبير على التعامل النقدي، مع يزادة في الدولرة. وقد ساهمت الأزمةُ المتعدّدة الأبعاد – الاقتصادية والنقدية والمالية والمؤسّسية والأمنية والسياسية والحوكمية- التي أجّجها انفجار مرفأ بيروت والحرب بين إسرائيل وحزب الله، في تحويل لبنان من دولةٍ هشّة إلى دولةٍ فاشلة.  

 

وعلى الرغم من التحدّيات الكبيرة التي تنتظر عون وسلام، تبرز أسبابٌ متعدّدة تدعو على التفاؤل. فقد أظهر خطاب القسم الذي ألقاه به الرئيس عون وعداً بولادة لبنان جديد وحمل رسائل قوية عن التغيير السياسي وإعادة بناء الدولة ومؤسّساتها، وركّز على الإصلاحات القضائية والإدارية، وتعزيز حكم القانون والمساءلة ومكافحة الفساد المستشري. وبحسب خطط الرئيس عون، ستترافق هذه الإصلاحات مع حملةٌ وطنية لمكافحة الفساد وتعزيز الشفافية، مع المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الأزمات التي مرّ بها لبنان وعن تدمير اقتصاده.  

 

ويشكّل الثنائي عون وسلام تكاملاً مثالياً، إذ يمزج بين خبرة عون العسكرية والأمنية الطويلة وسيرة سلام المهنية كخبير قانوني ودبلوماسي مرموق، بعيداً عن التلّوث السياسي والفساد المحلّي. ويتمتّع الثنائي بفكرٍ إصلاحي واستقلالية سياسية، فضلاً عن المؤهّلات العسكرية والقضائية والحكوميّة الضرورية لقيادة التغيير الذي يحتاجه لبنان.  

 

 

أجندة إصلاحية مُثقلة بالمهام 

 

تواجه القيادة الجديدة في لبنان مهاماً شاقة تتطلّب أوّلاً تشكيل حكومة متماسكة وكفوءة وفعّالة. ومن بين الملفات الأساسية التي يجب معالجتها، نذكر القضاء والشؤون الخارجية والدفاع والداخلية، بالإضافة إلى القطاع المالي لإدارة الإصلاحات المالية والضريبية والاقتصادية اللازمة 

 

ومع اقتراب انتهاء مدّة اتفاق وقف إطلاق النار المقرّرة بين إسرائيل ولبنان في 26 يناير، تبرز الحاجة الفورية والملحّة للتفاوض على وقفٍ دائم لإطلاق النار لاستعادة الاستقرار والأمن في الداخل، وتمكين عودة النازحين إلى الجنوب البقاع والمناطق الأخرى.  

 

وينبغي إنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار تحت إشراف دولي، لتمويل جهود إعادة تنمية لبنان وتغطية احتياجات إعادة الإعمار التي تُقدّر بحوالي 25 مليار دولار. 

 

في ما يتعلّق بتحقيق استقرار الاقتصاد الكلّي والنمو، يتعيّن على الحكومة الج

 

ديدة المباشرة بتوحيد المالية العامة وبالإصلاح الضريبي، مع تحديث المهام الحكومية كافة ورقمنتها. وينبغي عليها أيضاً معالجة الإصلاح الإداري، حيث إنّ أكثر من نصف المناصب الإدارية شاغرة، من خلال تقليص حجم القطاع العام المتضخم وإعادة هيكلته، بالإضافة إلى تطبيق الحوكمة الرشيدة في المؤسّسات المملوكة من الدولة التي تقدّم الخدمات العامة، مثل الكهرباء والمياه والنقل والاتصالات. ويجب أيضاً إنشاء صندوق الثروة الوطني المستقلّ من أجل إدارة المؤسّسات المملوكة من الدولة والأصول التجارية العامة بمهنية، وكذلك لإدارة عائدات النفط والغاز في المستقبل.  

 

من الضروري أيضًا إنشاء صندوق الثروة الوطني المستقل لإدارة المؤسسات المملوكة للدولة والأصول التجارية العامة بصورة مهنية، وكذلك لإدارة عائدات النفط والغاز في المستقبل. 

 

ومن أجل إطلاق إصلاح نقدي ذي مصداقية، ينبغي على الحكومة الجديدة التركيز على بناء مصرف مركزي قوي ومهني ومستقل سياسياً. ويجب أن تهدف السياسةُ النقدية إلى السيطرة على التضخم وأن تترافق بنظام سعر صرف مرن. ويشكّل تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان مع نواب جُدد له أولوية فورية، حيث تنتهي ولايتهم الحالية في يونيو. بالإضافة إلى ذلك، يجب إجراء إصلاح جذري لحاكمية مصرف لبنان لضمان خضوعها للمساءلة. كما يجب أن تصبح لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة وهيئة الأسواق المالية مؤسّسات مستقلّة لا تخضع لسلطة المصرف المركزي كما هو الحال حالياً. ومن الضروري إنشاء هيئة مستقلّة لتسوية أوضاع المصارف بغية إعادة هيكلة النظام المصرفي على أساس إعادة رسملة المصارف، بدءاً من المساهمين الحاليين، وعمليات الدمج والاستحواذ، فضلاً عن إعادة هيكلة الودائع الكبيرة لزيادة استرداد الودائع إلى أقصى حد.  

 

ستُتيح الإصلاحات السياسية وأجندة إعادة الهيكلة (التي تشمل الدين والقطاع المصرفي والقطاع العام) وتطبيق الإصلاحات المؤسّسية والهيكلية المذكورة أعلاه تنفيذ برنامج معدَّل من صندوق النقد الدولي، إضافة إلى تمويل من مجلس التعاون الخليجي وإعادة انخراطه، ما سيُمكّن إعادة إدماج لبنان في العالم العربي. في الجوهر، أمام لبنان ومجلس التعاون الخليجي والمنطقة على نطاق أوسع فرصة تاريخية لا ينبغي التفريط فيها 

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: لبنان

المؤلف

رئيس شركة ناصر السعيدي وشركاه، وزير سابق للاقتصاد والتجارة والصناعة في لبنان