حاويات الشحن مكدّسة في ميناء لونغ بيتش في 4 مارس 2025 في لونغ بيتش، كاليفورنيا، مع دخول التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على كندا والمكسيك حيّز التنفيذ. (وكالة الصحافة الفرنسية)

كيف ستنعكس السياسات الحمائية الأمريكية على المنطقة والاقتصاد العالمي؟

بصفتها أكبر اقتصاد عالمي وأضخم سوق استهلاكية، يشكّل التحوّل السريع للولايات المتحدة نحو الحمائية تهديداً لاستقرار علاقاتها التجارية. فهل سيطال هذا التأثير منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أيضاً؟

10 مارس، 2025
بول داير

لطالما كانت الولايات المتّحدة الداعم الأكبر للتجارة الحرّة في العالم، داعية لها كوسيلة لتوسيع التجارة العالمية، وتعزيز التخصّص في الإنتاج الذي يربط الاقتصادات بسلاسل توريد متنوّعة. وبالفعل أنتج هذا النظام نمواً اقتصادياً غير مسبوق لفترة، وساهم في تخفيف الفقر، وقد ارتكز إلى حدّ كبير على نظام دولي قائم على القواعد، مع اعتماد الدولار الأمريكي كأهمّ عملة احتياطية في العالم. ومع ذلك، بدأت الدول الناشئة السريعة النمو والمنافسة للولايات المتّحدة في مقاومة دور على الساحة الاقتصاد العالمي، ولا سيّما قدرتها على استخدام الوصول إلى الدولار كسلاح لتحقيق أهدافها الجيوسياسية. ويستكشف أعضاء تكتل «بريكس»، خصوصاً، إمكانية إنشاء عملة ونظام تبادل جديدين يحرّران تجارتهم واستثماراتهم المتبادلة من السيطرة الأمريكية. 

 

تُعدّ هذه الجهود طموحة إلى حدّ كبير أكثر منها عملية. ويجادل الكثير من الاقتصاديين – ومن ضمنهم مؤلّف هذه المقالة – بأنّ أي بديل محتمل سيكون نجاحه محدوداً بسبب استمرار الطلب على الدولار كأصلٍ قابل للتداول، ومخزنٍ للقيمة بالنسبة إلى المستثمرين والسلطات النقدية. وتستند هذه الرؤى إلى الثقة التي يضعها المستثمرون في سيادة القانون في الولايات المتّحدة، واستقلالية مؤسّساتها ومصداقيتها مثل الاحتياطي الفيدرالي، فضلاً عن ثبات سياساتها الدولية على مرّ الزمان وتغيّر الإدارات. 

 

لكن ما لا تأخذه هذه التحليلات في الاعتبار هو تراجع صنّاع القرار في واشنطن عن الحفاظ على هذا الدور العالمي والنظام الدولي الذي تدعمه. وهذا تحديداً ما يُظهره الرئيس دونالد ترامب، إذ سيكون لنهجه غير التقليدي في صنع السياسات وتنفيذه السريع والمتعثّر لها، تأثيرات عميقة على الاقتصاد العالمي. وفي هذا السياق، تشكّل تهديدات ترامب بفرض تعريفات جمركية، وطريقته العدائية في تطبيقها على حلفاء تقليديين مقرّبيين لبلاده، مخاطر كبيرة، وتهدّد بتقويض الثقة في الولايات المتّحدة وفي الدولار وفي النظام التجاري الدولي الذي استغرق عقوداً لبنائه. وهذا بدوره يزيد الهشاشة الاقتصادية للدول حول العالم، بما في ذلك دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. 

 

 

الحمائية الشعبوية: نهج ترامب تجاه التعريفات الجمركية 

 

تحت قيادة دونالد ترامب، الذي طالما كان مؤمناً بفعالية التعريفات الجمركية والحمائية الصناعية، اتّخذ الحزب الجمهوري منعطفاً شعبوياً. وبات خطابه السياسي يركّز على ضرورة حماية العمّال الأمريكيين من المنافسة غير العادلة، وإزالة القوانين التنظيمية غير الضرورية، والحدّ من الهدر في الإنفاق الحكومي الاحتيالي، فضلاً عن تحويل مصادر الإيرادات بعيداً من ضريبة الدخل التصاعدية التي يبغضها ترامب. وفي إطار أجندته «أمريكا أولاً»، دفع ترامب بقوّة نحو فرض تعريفات جمركية كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف وكسب النفوذ في المفاوضات مع القادة الأجانب. 

 

في البداية، شعر بعض المنتقدين بالارتياح عندما رأوا ترامب يهدّد بفرض تعريفات جمركية على كندا والمكسيك، ثمّ يتراجع عنها بعد تصريحات مُهادنة من رئيسي البلدين، ما جعل تحرّكات ترامب تبدو وكأنّها مجرّد تكتيك تفاوضي. ولكن منذ ذلك الحين، مضى ترامب قدماً في فرض تعريفات جمركية على كلا البلدين، بالإضافة إلى الصين، ما أدّى إلى فرض تعريفات جمركية انتقامية من الدول الثلاث. كما أعلن ترامب أنّ حكومته سترفع التعريفات الجمركية ضدّ أي دولة تنخرط في ممارسات تجارية غير عادلة، بما في ذلك فرض تعريفات جمركية ووضع حواجز غير جمركية والتلاعب بالعملة، وحتّى تطبيق ضريبة القيمة المضافة. 

 

 

كيف سيردّ الشركاء التجاريون على الحمائية الأمريكية؟ 

 

على الرغم من أنّ التعريفات الجمركية يمكن أنّ تؤدّي دوراً فعّالاً في إستراتيجية صناعية أوسع، لكنّها تفرض تحدّيات اقتصادية محلّية كثيرة، مثل ارتفاع التكاليف والإضرار بالمستهلكين والشركات الصغيرة بشكل غير متناسب، مع تقليل فعّالية السوق عموماً. أمّا على الصعيد الدولي، فيعتمد تأثير التعريفات الجمركية المفروضة في النهاية على ردود فعل الشركاء التجاريين والاقتصادات الموجّهة نحو التصدير، وكذلك الفاعلين الاقتصاديين في جميع أنحاء العالم. ولذلك، تعتبر الفوائد المحلّية التي تتوقّعها إدارة ترامب من هذه السياسات محدودة أكثر بكثير مما تأمله، سواء من حيث زيادة الإيرادات أو انتزاع تنازلات أو إعادة التصنيع إلى الداخل. في حين ستدفع هذه الإجراءات الحلفاء الاقتصاديين على المدى الطويل إلى البحث عن شركاء وأساليب تعاون جديدة. 

 

قد تلجأ الاقتصادات المستهدفة أيضاً إلى مجموعة من السياسات تمكّنها من تقليل فعّالية التعريفات الأمريكية، بما في ذلك فرض تعريفات جمركية متبادلة، وفرض قيود على الواردات والصادرات، وإقامة حواجز غير جمركية أخرى. كما يمكن للشركات الالتفاف على التعريفات من خلال تصدير منتجاتها إلى دولة ثالثة، ثمّ إعادة تصديرها إلى الولايات المتّحدة من هناك. وقد استغلّت الصين جميع هذه الأساليب بعد أن فرض ترامب تعريفات جمركية عليها في العام 2018. 

 

فضلاً عن ذلك، ستقوّض ديناميّات أسعار الصرف فعّالية تعريفات ترامب. سيزيد ارتفاع تكلفة التجارة مع الولايات المتّحدة من الطلب على الدولار، وسيرفع بالتالي قيمته مقابل العملات الأخرى. وفي المقابل، سيجعل انخفاض قيمة العملات في الدول المُصدّرة منتجاتها أرخص بالدولار، ما يعوِّض جزءاً كبيراً من التكاليف التي تضيفها التعريفات الجمركية. وقد شوهد هذا التأثير في الصين في العام 2018 عندما انخفضت قيمة الرنمينبي بنسبة 10 في المئة مقابل الدولار بعد فرض التعريفات. ويمكن للسلطات النقدية في الدول المعتمدة على التصدير تعزيز استجابات السوق عبر خفض أسعار الفائدة الأساسية، ما قد يزيد الطلب على الدولار 

 

 

التداعيات على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والاقتصاد العالمي 

 

من المرجّح أن تؤدّي التوتّرات التجارية المتزايدة إلى تأثيرات متسلسلة على الاقتصاد الدولي. وسيعتمد مدى هذا التأثير على نطاق هذه التوتّرات والطرق المختلفة التي تستجيب بها الحكومات والشركات الدولية والمؤسّسات مثل منظّمة التجارة العالمية. ومع ذلك، ستواجه دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبلدان ناشئة ومناطق تجارية أخرى، مخاطر متزايدة تتعلّق بشروط التجارة وأسعار الصرف والنمو الاقتصادي. 

 

ستتكبّد الدول التي تربط عملاتها بالدولار تكاليف فورية، وهذا حال معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فمع ارتفاع قيمة الدولار بسبب التعريفات الجمركية، ستشهد الدول ذات سعر الصرف الثابت ارتفاعاً في قيمة عملاتها مقابل العملات الأخرى، ما يجعل الوارداتفي منطقة تعتمد على الاستيراد بشكل كبير – أكثر تكلفة. وستشعر الدول المتوسطّة الدخل في المنطقة بمعظمها بضغط إمّا لخفض قيمة عملاتها أو للدفاع بشراسة عن سعر الصرف الثابت، ما قد يؤدّي إلى استنزاف احتياطاتها النقدية. أمّا دول المنطقة التي ترزح تحت مديونية خارجية مرتفعة، مثل مصر والأردن ولبنان، فستواجه تكاليف متزايدة لخدمة ديونها، وهو عبء لن يمكنها التخلّص منه من خلال خفض قيمة عملاتها. أمّا الدول المصدّرة للنفط والغاز، وخصوصاً الدول الخليجية، فقد تستفيد على المدى القصير من ارتفاع قيمة الدولار، ما يعزّز عائدات صادراتها، لا سيّما مع استمرار العقوبات الأمريكية على إيران وروسيا التي تحدّ من المعروض النفطي العالمي. غير أنّ الأسعار العالمية للنفط والغاز ستنخفض بشكل كبير في ظلّ حرب تجارية واسعة وتراجع الطلب العالمي على النفط. 

 

قد يبدو الحديث عن انهيار النمو العالمي أمراً مبالغاً فيه، ولكن أي حرب تجارية غير منسّقةخصوصاً في ظلّ التوتّرات الجيوسياسية الحاليةقد ينشب عنها سباق محموم إلى الحضيض من شأنه أن يترك جميع الاقتصادات في وضع لا تُحسَد عليه. فضلاً عن ذلك، يتماشى نطاق هذا الخطر مع أهداف ترامب المُعلنة ونهجه غير المتوقّع في المفاوضات الدولية. تبرّر سوابق تاريخية هذا القلق، إذ ارتبطت السياسات الحمائية بخلق أزمات اقتصادية عالمية أو تفاقمها، كما حدث في خلال فترات الكساد في الأعوام 1870 و1893 و1929. وفي كلّ حالة، ساهمت الأزمات الاقتصادية والتوتّرات التجارية في خلق بيئة مُهيّأة للصراعات العالمية، وهو تحذير لا ينبغي الاستهانة به في ظلّ الوضع الجيوسياسي الحالي. 

 

 

الاستعداد للأسوأ وحماية الأفضل 

 

كيف يمكن لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تستعدّ إستراتيجياً لتعزيز قدرتها على الصمود أمام الأزمات المحتملة؟ من المرجّح أن تواجه هذه الدول ضغوطاً تضخّمية على المدى القريب. وقد تجد دول متعدّدة نفسها تحت المجهر المباشر لترامب، الذي سبق وأن استخدم المساعدات الخارجية كورقة ضغط على مصر والأردن للقبول بشروطه بشأن مستقبل غزّة، وقد يسعى لاستخدام وسائل ضغط أخرى على مجموعة أوسع من دول المنطقة، بما في ذلك الدول الخليجية. ستحتاج الدول بمعظمها إلى إعادة تقييم تكاليف ربط عملاتها بالدولار وفوائده ، واتخاذ خطوات لتجنّب التضخّم، مثل خفض قيمة عملاتها، أو ربطها بسلة أوسع من العملات، أو ربّما تعويم العملة. كما ينبغي أن تعمل عن كثب مع الدائنين، مثل صندوق النقد الدولي، لوضع إستراتيجية لإدارة ديونها الخارجية أو تأجيل سدادها أو إعادة هيكلتها، فضلاً عن تأمين استثمارات أجنبية في حال اندلاع حرب تجارية واسعة النطاق. 

 

وفي هذا السياق، قد يكون على الدول الخليجية تأدية دور أكبر في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي الإقليمي، في حين يمكن لكل دولة أن تستفيد من التنسيق الوثيق مع الصين. أيضاً قد تجد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نفسها في تقارب مع أوروبا نظراً لتنافس أكبر الاقتصادات العالمية على النفوذ. وستستفيد الاقتصادات الصغيرة والمتوسّطة من تحالفات جديدة وجهود تنسيقية تشمل التعاون في السياسات الصناعية، وتوسيع التجارة، والتخصّص في سلاسل التوريد وتطويرها، وتعزيز البنية التحتية للنقل عبر الحدود. وبفضل موقعها الإستراتيجي، تمتلك المنطقة خيارات فريدة، خصوصاً مع تراجع موثوقية الولايات المتّحدة وسعي القوى الصاعدة إلى بناء تحالفات لمواجهة سياساتها. 

 

ومن المهمّ أيضاً إدراك التأثير الإيجابي للنظام الدولي القائم على القواعد حتّى الآن، ويجب أن تواصل دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العمل بنشاط داخل منظّمة التجارة العالمية والأمم المتّحدة لتعزيز القوّة المتبقية لهذه المؤسّسات والحفاظ على أطرها التعاونية من الانهيار في ظلّ تراجع الدور الأمريكي. 

 

ومع كلّ هذه التحدّيات، يصبح البحث عن بديل للدولار أكثر أهمّية، ما يمنح فكرة إنشاء عملة خاصّة لدول «بريكس» مزيداً من الزخم. قد يستغرق بناء الهياكل المؤسّسية والتنسيق اللازمين لتحقيق ذلك عقوداً، كما أظهرت تجربة أوروبا في إنشاء عملة موحّدة. ولكن ربّما يكون الوقت قد حان لإطلاق هذا المسار، خصوصاً أنّ الدولة التي دعمت هذا النظام لعقود تبدو الآن عازمة على تقويضه 

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية، منافسة القوى العظمى
البلد: إيران، فلسطين، لبنان، مصر

المؤلف

زميل غير مقيم
بول داير هو زميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. ولديه أكثر من عشرين سنة من الخبرة في البحوث والتحليلات بشأن السياسات في مسائل الحوكمة والتنمية الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يركّز عمل داير على السياسات بشأن سوق العمل وتنمية الشباب وتطوير المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة وتعزيز الوصول إلى الموارد المالية، بالإضافة… Continue reading كيف ستنعكس السياسات الحمائية الأمريكية على المنطقة والاقتصاد العالمي؟