شنّت إسرائيل في 26 أكتوبر هجوماً ضدّ إيران طال انتظاره، في ردٍ انتقامي على هجومٍ واسع بالصواريخ نفّذته إيران ضدّها مطلع هذا الشهر، والذي جاء بدوره ردّاً على سلسلةٍ من الاغتيالات الإسرائيليّة لقادة من إيران وحزب الله وحماس منذ يوليو. غير أنّ التبادل الأخير يشكّل تصعيداً كبيراً في المواجهة بين الدولتين ويرفع الرهانات بشأن احتمال نشوب حرب إقليميّة شاملة.
قبل إطلاق الصواريخ البعيدة المدى على أهداف داخل إيران، يُعتقد أنّ الطائرات المقاتلة الإسرائيليّة اجتازت المجال الجوي فوق الأردن والعراق تفادياً للرصد واستهدفت أنظمة رادار في سوريا، متجنّبةً الدخول المباشر إلى المجال الجوّي الإيراني. وتُشير تقارير غير مؤكّدة إلى أنّ هجمات مماثلة استهدفت الدفاعات الجويّة العراقية، رغم أنّ المصادر العراقيّة نفت هذه الادّعاءات.
تقول إسرائيل إنّها ضربت 20 موقعاً في إيران، جميعها وصُفت بأنّها أهداف عسكريّة. ويعكس هذا النمط المقاربة نفسها التي اعتمدتها إيران في هجومها في 1 أكتوبر والذي ركّز أيضاً على منشآت عسكريّة إسرائيليّة. وقد أعلن المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أنّ الضربات الجويّة استهدفت بدقّة مراكز إنتاج الصواريخ الإيرانيّة ومنظومة الصواريخ أرض-جو وأرض-أرض، محذّراً من أنّ إسرائيل قد تختار أهداف إضافية لضربات مستقبلية إذا لزم الأمر.
من جهّتها، أكّدت قيادة الدفاع الجوي الإيراني أنّ “مواقع عسكرية في محافظات طهران وخوزستان وإيلام” قد استُهدفت. وفيما اعترفت البيانات الإيرانيّة بتعرّض بعض المواقع للهجوم، تماشت مع عادة طهران بالتقليل من أهمية نجاح هجمات العدو، حيث وصفت المتحدّثةُ باسم الحكومة الإيرانية فاطمة مهاجراني الأضرار بأنّها “محدودة”. إلّا أنّ الجيش الإيراني (“ارتش”) أعلن عن مقتل أربعة عسكريين في الضربات.
في الوقت الذي تلتزم فيه إيران بالموقف الرسمي القاضي بالتقليل من تأثير الضربة على المستوى الإستراتيجي، قد يُشكّل اعترافُها بوقوع إصابات وأضرار خطوةً متعمّدة لترك الباب مفتوحاً أمام احتمال الردّ بذريعة وقوع إصابات. في الوقت عينه، أصدرت وزارة الخارجيّة الإيرانيّة بياناً أكّدت فيه على حقّ إيران في الدفاع عن النفس كما هو منصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، معلنةً أنّه من “حقّها وواجبها” الرد على أعمال عدوان خارجي.
من ناحيته، كرّر وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي موقف الحكومة، مؤكّداً أنّ “إيران لا تعرف حدوداً عندما يتعلّق الأمر بالدفاع عن سيداتها ومصالحها وشعبها”. لكنّ وسائل الإعلام الإيرانية تستمرّ في التقليل من أهميّة الهجمات الإسرائيلية وتوحي، أقلّه حتى الآن، بأنّ إيران قد تتردّد في تصعيد الوضع من خلال ردّ مباشر.
على الرغم من هذا الموقف العلني، يُحذّر بعض المحلّلين الإيرانيين من “تطبيع” الهجمات على طهران. فالضربات الصاروخية على العاصمة الإيرانية لم يسبق لها مثيل منذ الحرب بين إيران والعراق في الثمانينات، ما يُشير إلى تطوّر مهم يعتبر البعض إنّه لا يجب الاستخفاف به.
ويُحذّر محلّلون من أنّ إسرائيل قد تكون تحاول تطبيق “النموذج اللبناني” في مقاربتها تجاه إيران -أي كناية عن أعمال محدودة وتدريجيّة تتجنّب الحرب الشاملة إنّما تضعف القدرات بشكلٍ تدريجي وتخلق فرصة لشنّ هجومٍ أوسع في وقتٍ لاحق. وخيرُ دليل على هذه النظريّة تركيز إسرائيل على منشآت الرادار والدفاع الجوّي والصواريخ الإيرانيّة التي، إذا استُهدفت بنجاح، قد تُضعف قدرة إيران على الدفاع عن نفسها في وجه أي هجومٍ إضافي أو على شنّ ضربات انتقاميّة.
ما زال غير مؤكّد إن كان هذا الصراع الأخير قد انتهى أم أنّ إسرائيل ستواصل عمليّاتها العسكرية أو الاستخباراتيّة في الأيام أو الأسابيع القادمة. إلّا أنّ السهولة التي قيل إنّ إسرائيل استهدفت بها أنظمة الدفاع الجوّي والرادار، حتى بعد أسابيع من الاستعدادات الظاهرة والتحذيرات المحتملة لإيران، تكشف عن هشاشة الدفاعات الإيرانيّة، ما قد يُشير لطهران أنّ أي تصعيد قد يفضح نقاط ضعف إضافيّة.
تجدر الإشارة إلى أنّ عقيدة “الدفاع الأمامي” الإيرانيّة ترتكز في جوهرها على قدرة طهران على شن ضربة ثانية، عادةً من خلال القوة الصاروخيّة أو عبر وكلاء. وتضع إيران، التي تدرك حدود دفاعها الجوي، قدراتها الصاروخيّة في حسابات الخصم. بالفعل، يعكس الهجوم الصاروخي الواسع على إسرائيل في 1 أكتوبر هذه الإستراتيجيّة.
تُعتبر التفاصيل الإضافية بشأن مدى الأضرار التي أُلحقت بالمنشآت الإيرانيّة، لا سيّما مواقع إنتاج الصواريخ وتخزينها، ضروريّة لتقييم قدرة طهران على المحافظة على قدرة الضربة الثانية والتصدّي لهجمات إسرائيلية محتملة في المستقبل. وتوحي صور الأقمار الاصطناعيّة الأوليّة بأنّ المنشأة الإيرانية الجديدة لتصنيع محركات الصواريخ بالوقود الصلب في بارشين بالقرب من طهران كانت من بين المواقع المستهدَفة في الضربات الإسرائيليّة. من شأن إلحاق أضرار جسيمة بهذه المنشأة أو بمنشآت مشابهة أن ينسف قدرة إيران على إنتاج الصواريخ إلى حد بعيد.
في هذه الأثناء، قد يكون تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة مؤخّراً، بما فيه نشر مقاتلات من طراز إف-16، يهدف إلى احتواء أيّ رد إيراني محتمل. وعلى ما يبدو أنّه كان للولايات المتحدة دور في تخفيف الرد الإسرائيلي، إذ أشارت تكهّنات سابقة إلى أنّ المنشآت النفطية والنووية الإيرانية قد تكون أهدافاً محتملة لإسرائيل.
في أي حال، من غير المرجّح أن تطلق إيران رداً مباشراً على إسرائيل قبل الانتخابات الأمريكيّة. بعد هذا الاستحقاق، يُرجَّح أن تكون أفعال إيران رهناً بتصرّف إسرائيل وبنتائج الانتخابات. ففي حال أُعيد انتخاب دونالد ترامب، ما يزيد من احتمال توجيه ضربة أمريكيّة إيرانيّة منسّقة ضد المواقع النوويّة أو البنى التحتيّة الإيرانية، قد تَليه جولةٌ جديدة من التصعيد.
في الوقت الراهن، من المحتمل أن تعتمد إيران على أفعال غير مباشرة من خلال الشركاء غير الحكوميين والوكلاء- لا سيّما حزب الله وربما الحوثيين. في الواقع، أطلق حزب الله، تزامناً مع الضربة الجوية الإسرائيلية، أكثر من 150 صاروخاً باتجاه إسرائيل. وستدخل التطوّرات على جبهتي لبنان وغزة أيضاً في صناعة القرارات الإستراتيجيّة في إيران. لقد أظهرت الولايات المتحدة للتو تأثيراً كبيراً على خيارات إسرائيل الإستراتيجيّة والعسكريّة، وإذا سخّرت واشنطن هذا النفوذ للتشجيع على وقف إطلاق النار في لبنان وغزة، قد تهدأ الاشتباكات الدائرة على نحوٍ مؤقت.
في هذا السياق، شدّد رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلّحة الإيرانيّة على أنّ “إيران تدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة ولبنان مع الاحتفاظ بحقّها [في الرد] في الوقت المناسب”. ويوحي هذا التصريح بأنّ وقف الاشتباكات في هاتين المنطقتين قد يؤثّر في قرار إيران النهائي المتعلّق بإستراتيجيّتها للرد.
تكمن النقطة الجوهريّة في أنّ عتبة الاشتباك المباشر بين إيران وإسرائيل قد تغيّرت منذ بداية الحرب على غزة وكسرت بالتالي إحدى المحرّمات القديمة بشأن الهجمات المباشرة والعلنيّة. ويُشير هذا التبدّل إلى أنّ احتمال استئناف المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل بات الآن أكثر ترجيحاً مع تزايد خطر التصعيد.
أخيراً، كانت ردّة فعل الدول العربيّة بارزة أيضاً، حيث كانت المملكة العربيّة السعوديّة أوّل من أدان الهجوم الإسرائيلي على الأراضي الإيرانيّة، وحذت دول أعضاء أخرى من مجلس التعاون الخليجي حذوها، بالإضافة إلى مصر والأردن. من الواضح أنّ هذه الدول متردّدة في الانجرار إلى صراعٍ إقليمي أوسع. وقد أجرى وزير الخارجية الإيراني في الأسابيع الأخيرة جولةً دبلوماسية مكثّفة في المنطقة بهدف طمأنة الدول العربيّة المجاورة لإيران بشأن نوايا طهران وتحذيرها أيضاً من مغبّة التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة ضدّ المصالح الإيرانية. يبدو أنّ هذه الجهود الدبلوماسية حقّقت حتى الآن بعض النجاح.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.