طهران، إيران - 15 يونيو: يلتقي الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بأعضاء الحكومة في القصر الرئاسي بطهران، إيران، في 15 يونيو 2025. الصورة من قبل رئاسة الجمهورية الإيرانية / الأناضول عبر (AFP)

كيف تحسب إيران حربها مع إسرائيل

في مواجهة هجوم كاسح استهدف عمق أراضيها، اتّسم ردّ فعل الجمهورية الإسلامية بضبط النفس والحذر، مدفوعاً بالضعف والحاجة لتجنّب التدخل الأمريكي. إذ تبدو إستراتيجيتها مركّزة على الحفاظ على قوة الردع والخيارات الدبلوماسية، مع السعي لاحتواء التداعيات الداخلية في ظلّ ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين.

18 يونيو، 2025
حميد رضا عزيزي

كان ردّ إيران على الهجوم العسكري الإسرائيلي غير المسبوق متسماً بضبط النفس ورد الفعل، وطغى عليه إحساس متزايد بالضعف. فعلى الرغم من شنّها ضربات انتقامية، إلّا أنّ هذه الضربات بدت محدودة في شدّتها وضيق مداها، على خلاف ما كان يُنتظر من دولة تمتلك ترسانة هائلة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. ويُعزى هذا التحفظ في الردّ إلى الخسائر التشغيلية التي تكبدتها إيران جراء المواجهة، وإلى خشيتها البالغة من أن يؤدّي أي تصعيد يتجاوز مستوى معين إلى جرّ الولايات المتّحدة إلى ساحة المواجهة العسكرية المباشرة.

 

بعيدًا عن السيطرة على وتيرة التصعيد، تجد طهران نفسها في صراع ليس من اختيارها، ولا تملك فيه سوى خيارات محدودة تصب في صالحها. وتتعاظم الضغوط على قيادتها لإظهار الصمود في ظلّ الخسائر الفادحة في صفوف المدنيين والعسكريين على حدّ سواء، فيما يتحتم عليها الحذر من أيّ هفوة إستراتيجية قد تجر البلاد إلى حرب لا تستطيع تحمل تبعاتها. وليس منطق السيطرة أو الهيمنة هو ما يحكم تصرفاتها اليوم، بل منطق البقاء، إذ تسعى جاهدة للحفاظ على ما تبقى من قدراتها ومصداقيتها، كافية لردع التصعيد الإسرائيلي ومنع التدخل الأمريكي، واحتواء التداعيات الداخلية، وإتاحة فرصة لمخرج دبلوماسي محتمل.

 

الردع من خلال ردّ متدرّج

 

بين 13 و16 يونيو، ورد أن إيران أطلقت 11 موجة من الهجمات الانتقامية، مستخدمة أكثر من 370 صاروخًا باليستيًا وأكثر من 100 طائرة مسيّرة. ومع ذلك، كانت هذه الهجمات متدرّجة ومحدودة ومقيّدة باعتبارات تكتيكية صارمة. ولم يكن هذا التقييد خياراً حراً بقدر ما كان استجابة اضطرارية لما لحق بالبنية التحتية من أضرار جسيمة، وإدراكاً واعياً بأنّ التصعيد الأوسع يحمل مخاطر وجودية لكيان الدولة. ويعترف المحللون الإيرانيون بأن ما تُظهره طهران من ضبط النفس ليس مجرّد حسابات إستراتيجية، بل هو ضرورة فرضتها ظروف المواجهة. يبدو أنّ الضربات الإسرائيلية قد جعلت بعض قواعد الصواريخ الإيرانية الكبرى تحت الأرض في المناطق الغربية من البلاد لا يمكن الوصول إليها أو تشغيلها. علاوة على ذلك، فقد فرضت إسرائيل هيمنة شبه مطلقة على المجال الجوي، لتجعل من أي محاولة إيرانية لنشر الصواريخ مغامرة محفوفة بالمخاطر، وتكاد تكون مستحيلة التنفيذ.

 

في الوقت ذاته، يذهب بعض الخبراء الإيرانيين إلى أنّ الجمهورية الإسلامية لا تحتفظ بقدراتها العسكرية طمعاً في تحقيق مكاسب، بل لأنّها مجبرة لفعل ذلك، حيث يجب أن تحتفظ بمخزون إستراتيجي من الصواريخ لتهديد المنشآت العسكرية الأمريكية وغيرها من المصالح الأمريكية في المنطقة.

 

تُعزز هذه الرؤية التصريحات الصادرة عن مسؤولين مثل وزير الخارجية عباس عراقجي، الذي أشار إلى أنّ “مكالمة هاتفية واحدة من واشنطن كفيلة بوقف” العدوان الإسرائيلي، ما يوحي بأنّ طهران لا تزال تعتبر قنوات التهدئة الدبلوماسية مع الولايات المتّحدة خياراً قائماً ومتاحاً، حتى في ظلّ الصراع الدائر.

 

يشمل ضبط النفس العملياتي أيضًا رسم حدود واضحة للتصعيد. فقد تجنّبت إيران استهداف الأصول الأمريكية في المنطقة بشكل مباشر، رغم أنّها سمحت لحلفائها مثل جماعة الحوثيين بتنفيذ عمليات مشتركة ضد البنية التحتية الإسرائيلية. وتبرز تقارير وصول الطائرات المسيّرة الإيرانية إلى إيلات وضرب صواريخ لحيفا مدى قدرة إيران على الردّ والردع، مع ذلك، فإنّها تظلّ تتجنّب اتّخاذ خطوات قد تؤدّي إلى تدخل أمريكي.

 

هذه السياسة ليست مجرّد رد فعل فوري، بل هي خيار محسوب يرمي إلى أن تكسب طهران الوقت، مع إبقاء إسرائيل منخرطة في مستنقع حرب استنزاف، مع تأخير متعمّد لأي تصعيد قد يغير من حجم الصراع وملامحه. إنّ ظهور أنظمة أسلحة جديدة، مثل طائرات الشحن المسيّرة من طراز شاهد-107 المدعومة بمحركات نفاثة ورؤوس حربية تزن 1,5 طن استخدمت في هجمات حديثة على تل أبيب، يشير إلى أنّ إيران لا تزال تمتلك قدرات هجومية كبيرة، غير أنّها توظفها بحذر وتأنٍ وفقاً للاعتبارات الإستراتيجية الأوسع.

 

الغموض النووي والدرع القانوني

 

رغم تدمير قاعات الطرد المركزي السطحية في نطنز وإصابة منشآت رئيسية أخرى، إلّا أنّ إيران لم تقدم على الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) أو طرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من أراضيها. وعلى الرغم من أنّ بعض الشخصيات المتشددة في البرلمان قد دعوا علناً لاتخاذ مثل هذه الإجراءات، إلّا أنّ القيادة الإيرانية تبدو أنّها ترى في الاستمرار بالمشاركة في نزع السلاح النووي نصراً إستراتيجياً يقيها المخاطر ويعزز موقفها في الملف النووي.

 

المنطق واضح وبسيط: طالما أنّ المفتشين الدوليين لا يزالون في إيران ولم تعلن طهران رسمياً انسحابها من المعاهدة، فإنّ إسرائيل وحلفاؤها يفتقرون إلى أساس قانوني أو دبلوماسي واضح للادّعاء أنّ البرنامج النووي الإيراني قد تجاوز المرحلة السلمية وتحوّل إلى تصنيع أسلحة نووية. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ادّعاء طهران وتمسكها بأنّ الهجمات الإسرائيلية تشكّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي في غياب تهديد وشيك، سيفقد الكثير من وجاهته ومصداقيته إذا أقدمت طهران على أيّ خطوة تشير إلى نية إيران المضي قدماً في مسار التخصيب النووي أو التراجع عن الالتزامات النووية، ما يعزز مبررات فرض المزيد من الضغوط الدولية على إيران.

 

وتبرز أيضًا أسباب فنية تفرض على إيران التحلي بضبط النفس في التصعيد. فخروج إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) من دون امتلاك بنية تحتية كاملة لتصنيع الأسلحة، بما يشمل تجميع الرؤوس الحربية وأنظمة الإيصال الموثوقة، قد يعرّضها لضربة استباقية شاملة من دون أن تحقق بالمقابل قوة ردع حقيقية. وفوق ذلك، فإنّ ظروف الحرب الحالية غير ملائمة للتقدم السري في مسار التسلح النووي، إذ أنّ الرقابة المشدّدة، وتغلغل أجهزة الاستخبارات واختراقها، والتفوق الجوي، جميعها تجعل من مهمة إخفاء الأنشطة النووية شبه مستحيلة.

 

النتيجة هي أنّ إيران تتبنى موقفاً يتسم بالغموض المدروس: فهي تحتفظ بحقها في الانسحاب من المعاهدة، لكنها تتجنّب ذلك إلّا إذا تم تجاوز خطوطها الحمراء. وعلى الرغم من أنّ عمليات تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية متوقفة حاليًا لأسباب أمنية، إلّا أنّ وجود المفتشين لا يزال يشكّل عامل ردع دبلوماسي، ما يجعل أي هجوم مستقبلي على منشآت مثل فوردو، التي تُعتبر أكبر منشأة نووية لإيران، أكثر تعقيداً من الناحيتين السياسية والقانونية.

 

التكلفة المدنية وسياسة الذعر

 

لكن تبعات الحرب الأكثر وضوحًا لا يكمن في الصواريخ أو التخصيب فحسب، بل يتجلى في الخسائر التي يتكبدها المدنيون ومعاناتهم. فقد أسفرت الضربات الإسرائيلية على مدى الأيام الماضية عن مقتل أكثر من 220 مدنياً إيرانياً، وألحقت أضراراً جسيمة بمستشفيات مثل مستشفى فارابي في كرمانشاه، وتعطيل شبكات الكهرباء في أنحاء طهران، وتضرر مقرّ هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومي، وقناة(IRIB) بشكل كبير.

 

وقد أطلقت حكومة نتنياهو تحذيرات بالإخلاء في طهران، ما يعكس تكتيكات سبق استخدامها في غزة ولبنان، بينما كثّفت استهداف البنية التحتية المدنية بهدف ضغط على الحكومة الإيرانية. ومع ذلك، وعلى عكس توقعات إسرائيل، إذ لم تؤدِ هذه الإجراءات إلى اندلاع حركات احتجاج شعبية واسعة أو انقسامات سياسية داخل الجمهورية الإسلامية. حتى شخصيات من صفوف الإصلاحيين والمعارضين، مثل السجين السياسي مصطفى تاج زاده، سارعت إلى إدانة الضربات الإسرائيلية، بينما دعا آخرون، مثل نرجس محمدي، إلى تقديم تنازلات نووية لإنهاء الحرب. والنتيجة ليست تعبئة جماهيرية فحسب، بل أفرزت نوع من الخوف المستمرّ والإحباط: خوف بلا ثورة.

 

مع ذلك، لا تزال السلطات الإيرانية قلقة جداً من ما قد يطرأ لاحقًا. فلا توجد أدلة واضحة على تحرك انفصالي واسع، إلّا أنّ أجهزة الأمن الداخلي تبدو في حالة استنفار متزايدة بسبب احتمال حدوث تمرد مسلح، أو تمرد محلي، أو أعمال تخريب تنفذها شبكات مخترقة. وقد أدّت الطبيعة غير المسبوقة لهذه الهجمات وعمق نفوذ الاستخبارات الإسرائيلية، كما ظهر من عمليات التفجير والتخريب في طهران، إلى تحويل تركيز الحكومة جزئياً نحو اتّخاذ إجراءات استباقية لمنع أي اضطرابات داخلية تلوح في الأفق.

 

لهذا السبب، وعلى الرغم من انتشار الذعر في طهران وتزايد معاناة المدنيين، لم تختر الحكومة تصوير الحرب على أنّها من أجل بقاء النظام فحسب. بل جاء الخطاب الرسمي وركّزت سرديته السائدة على مفاهيم السيادة، والصمود، وردّ الفعل المتوازن، بعيداً عن مفردات الانهيار أو الثورة أو الحرب الشاملة. وقرار الحكومة بفتح محطات المترو على مدى 24 ساعة يومياً لإيواء المدنيين، والتأكد من استمرارية عمل الوزارات حتى أثناء الهجمات، يعزز هذا الرسالة ويؤكّد أنّ الحكومة متمسكة بعدم الانجرار نحو تصعيد شامل.

 

إستراتيجية إيران الحالية لا تعتمد على بسط السيطرة في ساحة المعركة، بل ترتكز على إعادة تشكيل صورة العدو. القيادة تدرك أنّ عامل الزمن ليس محايداً، وإنما يصب في مصلحة الطرف الذي يستطيع تحمل الضغوط دون أن ينكسر أو ينهار. ومن هذا المنطلق، يُعتبر كل يوم تصمد فيه إيران أمام الضربات الإسرائيلية من دون أن تنجر الولايات المتّحدة إلى أتون الصراع إنجازاً سياسيًا بحدّ ذاته. وكل ردّ فعل انتقامي محسوب يُرسل رسالة إستراتيجية مفادها أنّ إيران لم تُهزم، وليست معزولة، وأنّها قادرة على إيلام الطرف الآخر.

 

وفي ذات الوقت، يصرّ المسؤولون الإيرانيون على أنّ المسار الدبلوماسي لا يزال مفتوحاً، لكنه ليس موارباً بلا شروط. وقد أبلغوا الوسطاء العمانيين والقطريين، بحسب ما ورد، أنّ أي محادثات لن تبدأ إلّا بعد استكمال الردّ العسكري، وليس قبله. هذا الترتيب يعكس جوهر المعضلة الأساسية التي تواجه النظام: إذ أنّ العودة إلى طاولة المفاوضات مبكراً جداً قد تُعتبر استسلاماً، في حين أنّ الانتظار طويلاً قد يحمل في طياته خطر انزلاق الأمور نحو تصعيد خارج نطاق السيطرة. وتبرز تصريحات عراقجي، ودعم ترامب العلني لإسرائيل، فضلاً عن تهديدات المسؤولين الإسرائيليين الصريحة باستهداف المرشد الأعلى علي خامنئي، مدى الهوامش الضيقة التي يتعين على طهران التنقل بينها بحذر والمناورة ضمنها.

 

يبقى من غير المؤكد إلى حدّ كبير ما إذا كان بمقدور إيران الاستمرار في هذا التوازن الدقيق. فالتدخل الأمريكي المباشر، مثل قصف منشأة فوردو، قد يؤدّي إلى تفكيك موقف إيران الحالي. ومع ذلك، حتى في ذلك السيناريو، لا توجد إشارات واضحة على أنّ إيران ستتجه فوراً نحو الاستسلام. بل من المرجّح أن تسعى إلى توسيع ساحة المواجهة، من خلال استهداف القواعد العسكرية الأمريكية في العراق والخليج، وتنشيط الميليشيات الحليفة، أو ضرب البنية التحتية للطاقة وطرق الشحن لتعطيل تدفّق النفط والغاز العالمي. فليس الهدف مجرّد تحقيق نصر عسكري في حرب تقليدية، بل رفع تكلفة التصعيد على جميع الأطراف، وتحسين موقعها في المستقبل للمفاوضات المحتملة.

 

في الوقت الحالي، تعكس أفعال طهران حالة بلد تحت الحصار: فهي تتصرف بارتجال تحت وطأة الضغوط، وتتجنّب الوقوع في الأخطاء الإستراتيجية، وتحتفظ بقدر كافٍ من القدرات للتأثير في المآلات السياسية المقبلة لا فرضها. وفي ظلّ حجم المخاطر المحدقة، فإنّ استمرار الجهود الدبلوماسية الدولية، لا سيّما من الأطراف ذات التأثير على كلّ من طهران وتل أبيب، أمراً لا يقتصر على كونه مرغوباً فيه فحسب، بل ضرورة ملحّة لمنع انزلاق المنطقة إلى صراع إقليمي واسع النطاق.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية:
البلد: إيران، فلسطين

المؤلف

زميل غير مقيم
حميد رضا عزيزي هو زميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وزميل زائر في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، وهو أيضاً باحث مشارك في معهد كليندال الهولندي للعلاقات الدولية.   وكان عزيزي قبل ذلك زميلاً مشاركاً في مركز الشرق للأبحاث الاستراتيجية في العام 2022. وقد حاضر في عددٍ من الجامعات الإيرانية، مثل جامعة… Continue reading كيف تحسب إيران حربها مع إسرائيل