وزير الخارجية العماني السيد بدر البوسعيدي يستمع خلال اجتماع مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي على هامش الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 25 سبتمبر 2024. (وكالة الصحافة الفرنسية)

عُمان: الوسيط الهادئ في تخفيف التوتّرات الإقليميّة

صحيح أنّ مسقط لم تكن من أبرز الوسطاء الإقليميّين، إلّا أنّ دورها كان محورياً في رأب بعض الانقاسامات الإقليميّة الأكثر استعصاءً. ولم تنتهِ مهمّتها بعد.

16 أكتوبر، 2024
جورجيو كافيرو

شكّل اتّفاق إعادة التطبيع بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران المُبرم في مارس 2023 نقطة تحوّل في دبلوماسيّة الشرق الأوسط الحديثة. ورغم أنّ الصين حظيت بمعظم الثناء لدورها في المصالحة، ما ساهم في تهدئة إحدى المنافسات الأكثر توتّراً في المنطقة، كان العمل الشاق الذي أُنجز في خلال العامين الماضيين من صنع سلطنة عُمان والعراق إلى حدّ بعيد. وعندما أدرك الوسطاء العُمانيون والعراقيون أنّ دعم قوة عالميّة رئيسيّة سيعزز من قوة الاتفاق وسيجعله أكثر استدامةً، طلبوا أن يُوقَّع الاتّفاق في بكين برعاية الصين.

 

بعد مرور تسعة عشر شهراً، ما زالت النُخب العُمانيّة تشعر بالتفاؤل حيال الانفراج بين جارَتيها. وما يعزّز هذا التفاؤل هو أنّ الحرب على غزة ولبنان لم تعرقل التقدّم المُحرز في خفض التوتّرات بين الريّاض وطهران. وفي الاجتماع بين وزير الخارجيّة السعودي فيصل بن فرحان آل سعود والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في الدوحة مطلع الشهر الجاري، أكّد وزير الخارجيّة السعودي رغبة المملكة في تطوير الروابط الثنائيّة بين البلدين، قائلاً “نسعى إلى طيّ صفحة الخلافات مع إيران إلى الأبد ونعمل على حلّ قضايانا وتوسيع العلاقات كبلدَين صديقَين وشقيقَين”. وبعد أسبوع، وصل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى الرياض والتقى بولي العهد السعودي ورئيس الوزراء محمد بن سلمان لمناقشة الشؤون الثنائية والإقليمية. وكانت هذه المحادثات الأخيرة بين مسؤولين سعوديين وإيرانيين رفيعي المستوى حاسمة بالنسبة إلى جهود المملكة لتجنّب الانجرار إلى الأعمال العدائية بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى. وكان لهذا الحوار أهمية كبرى في مساعي طهران للحيلولة دون انهيار أجندة “الجيران أولاً” في ظل تصاعد الصراعات في الشرق الأوسط.

 

بالإضافة إلى تهدئة التوتّرات السعوديّة الإيرانيّة، بذلت مسقط جهوداً لمساعدة البحرين ومصر على استئناف الروابط الدبلوماسيّة مع إيران، التي قُطعت بشكلٍ رسمي بين طهران والمنامة في العام 2016 وبين العاصمة الإيرانيّة والقاهرة في العام 1980 في أعقاب الثورة الإيرانيّة. هذا يعكس قناعة عُمان بأنّ الأمن الخليجي يتطلّب حواراً وتعاوناً عربياً إيرانياً وبأنّ التحالفات العربيّة والمؤسّسات دون الإقليميّة لا يجب أن تكون، من حيث المبدأ، معادية لطهران. ويُفسّر هذا التفكير لماذا لم تؤيّد عُمان انحياز مجلس التعاون الخليجي لصالح بغداد في الحرب بين إيران والعراق (بين 1980 و1988) ولماذا يسّرت مسقط في العام 1991 استئناف العلاقات السعودية الإيرانيّة التي قطعتها الرياض إثر الاشتباكات الدامية بين حجّاج إيرانيين وشرطة مكافحة الشغب السعوديّة في العام 1987.


عُمان تضطلع بدور الوسيط

 

قرابة الانفراج الدبلوماسي السعودي الإيراني في العام الفائت، توجّه السلطان العُماني هيثم بن طارق إلى البحرين لإجراء مناقشات مع القادة في المنامة حول العلاقات مع إيران. وعقد الدبلوماسيّون البحرينيون والإيرانيّون منذ ذلك الحين محادثات لاحقة في السفارة الإيرانية في مسقط بشأن إعادة التطبيع.

 

ترتكز جهود عُمان على تاريخها الممتدّ لعقودٍ كجسرٍ دبلوماسي للبحرين، ليس مع إيران فحسب، بل أيضاً مع قطر. وكانت الخلافات المتعلّقة بالأراضي بين المنامة والدوحة القائمة منذ فترةٍ طويلة على وشك إشعال حرب حول جزيرةٍ اصطناعية قبالة ساحل قطر في العام 1986. صحيح أنّ الوساطة السعوديّة ساهمت في حلّ هذا النزاع، لكنّ المبادرات العُمانيّة كانت أساسيّةً لإطلاق المحادثات بين المنامة والدوحة. وبعد جيلٍ من الزمن في مطلع العام 2021، اضطّلعت عُمان والكويت بدورٍ دبلوماسي حاسمٍ مهّد الطريق أمام البحرين ومصر والمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة لرفع حصارها على قطر الذي فرضته في العام 2017، وبالتالي حلّ هذه الأزمة داخل مجلس التعاون الخليجي التي لم يسبق لها مثيل.

 

منذ أن أعادت المملكة العربيّة السعوديّة وإيران تطبيع علاقاتها الدبلوماسيّة في السنة الفائتة، ينقل السلطان هيثم الرسائل بين مصر وإيران. وقد زار الحاكم العُماني مصر في 21 مايو 2023 حيث التقى بالرئيس عبد الفتاح السيسي في القاهرة لمناقشة الأزمات الإقليميّة ووضع العلاقات المصريّة الإيرانيّة. وبعدٍ أسبوع، اجتمع السلطان هيثم في طهران بالرئيس الإيراني آنذاك إبراهيم رئيسي وبالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي قال: “إننا نرحّب بإعلان سلطان عُمان عن رغبة مصر في استئناف العلاقات مع جمهورية إيران الإسلاميّة ولا نعارض هذا الأمر”.

 

تاريخ عُمان حافل بمحاولات تخفيف الضغوط على مصر وتعزيز علاقاتها مع الدول الإقليميّة. فقد كانت عُمان من بين ثلاثة دول أعضاء فقط في جامعة الدول العربية التي لم تقطع علاقاتها الدبلوماسيّة مع القاهرة بعد توقيع اتّفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل في العام 1978. وقد عكست زيارة سلف هيثم السلطان قابوس إلى الإسكندريّة في العام 1982 قناعةَ عُمان بحقّ مصر السيادي في كسر مقاييس العروبة واتّخاذ قراراتها الخاصة في ما يتعلّق بالتطبيع مع إسرائيل. وبحسب بعض المصادر، أدّت مسقط دور الوسيط عندما بلغت التوتّرات بين القاهرة وطهران ذروتها في العام 2009 وقد قام مسؤولون من البلدين بزيارات إلى عُمان.

 

الهدوء الإقليمي في مصلحة عُمان الوطنيّة

 

تتماشى هذه المبادرات الرامية إلى تخفيف التوتّر بين الدول العربيّة والإسلاميّة المجاورة مع التقليد العُماني العريق في استخدام الدبلوماسيّة لتعزيز “الحلول الموّجهة نحو التوافق“. وقد تجلّت هذه المقاربة الدبلوماسيّة في سياسة عُمان الخارجيّة من خلال تعاملها مع الحكومة السوريّة وحركة الحوثيين في اليمن، ما وضع عُمان مؤخّراً في موقف مغاير لمعظم أعضاء مجلس التعاون الخليجي.

 

لطالما رأت القيادة العُمانيّة أنّ الاضطرابات والصراعات في منطقتي الخليج والشرق الأوسط الأوسع تشكّل تهديداً خطيراً لأمنها القومي، واعتبرت أنّها عرضة لتداعيات الفوضى التي اجتاحت اليمن والعراق وسوريا المجاورة. وفي الوقت نفسه، لطالما اعترفت القيادة في مسقط بأنّ السلام الشامل في الجوار يخدم عُمان ومصالح جيرانها التجاريّة. من هذا المنطلق، يمكن اعتبار جهود مسقط لتيسير الدبلوماسيّة والحوار بين الخصوم الإقليميين براغماتيّة في جوهرها.

 

وعوضاً عن القيام بدور الوسيطـ مباشرةً، غالباً ما يسّرت عُمان المحادثات الرامية إلى الحدّ من التوتّر بين الدول داخل المنطقة وخارجها. وتبقى عُمان العضو الأكثر ودّية مع إيران من بين دول مجلس التعاون الخليجي. فقد استضافت محادثات سريّة لوقف إطلاق النار بين طهران وبغداد في خلال الحرب بين إيران والعراق في الثمانينات قبل الانخراط في علاقات أوثق مع الجمهورية الإسلامية بعدما وضع هذا الصراع أوزاره، ما أكسب حكومةَ مسقط حظوةَ طهران ومكانةً بارزة كدولة عربيّة تتمتّع بروابط وثيقة مع الغرب وتحظى في الوقت نفسه بثقة الجمهورية الإسلاميّة إلى حد بعيد.

 

 

دبلوماسيّة هادئة لكن فعّالة

 

وبفضل عضويّتها في مجلس التعاون الخليجي وعلاقتها المميّزة مع طهران، تمكّنت عُمان من تأمين مجالات دبلوماسيّة للدول العربيّة لإشراك الإيرانيين في أوقات حسّاسة عندما كان الانخراط المباشر يحمل في طيّاته تحدّيات سياسيّة أكبر بكثير. انطلقت المحادثات التمهيديّة للانفراج السعودي الإيراني في بغداد في أبريل 2021 حين صعّدت الهجمات الصاروخيّة التي شنّها الحوثيون التوتّرات بين الرياض وطهران إلى أوجّها وتلتها جولاتٌ لاحقة في عُمان والعراق. وبصفتها وسيطاً حريصاً على الحدّ من مخاطر الصراعات بين الدول الإقليميّة، لا تتصدّر جهود عُمان لتيسير الحوار عنواين الصحف دائماً، فهي تتجنّب الأضواء وتتحرّك وراء الكواليس في انخراطها الدبلوماسي. غير أنّ التاريخ أثبت أنّ هذه الإستراتيجية فعّالة باستمرار.

 

وقد رسّخ السلطان قابوس على مدى العقود الخمسة من حكمه بين 1970 و2020، الدبلوماسيّة وصناعة السلام والحياد الجيوسياسي كركائز أساسيّة للهويّة العُمانيّة. ومنذ تسلّم السلطان هيثم مقاليد الحكم قبل حوالي خمسة أعوام، واصل جهود سلفه للحفاظ على دور السلطنة كميسّر للحوار وجسرٍ دبلوماسي موثوق بين الخصوم في الشرق الأوسط.

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّفان حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: العلاقات الإقليمية
البلد: إيران، المملكة العربية السعودية، عُمان

المؤلف

الرئيس التنفيذي لشركة تحليلات الخليج
جورجيو كافيرو هو الرئيس التنفيذي لشركة تحليلات الخليج (Gulf State Analytics) وهي شركة استشارية لتحليل المخاطر الجيوسياسية، ومقرّها واشنطن. تشمل اهتماماته البحثية الاتجاهات الجيوسياسية والأمنية في شبه الجزيرة العربية ومنطقة الشرق الأوسط. كافيرو مساهم منتظم في العديد من المنشورات بما في ذلك “Al Monitor“ و“The National Interest“ و“LobeLog“. وبين العامين 2014 و2015، عمل محلّلاً في… Continue reading عُمان: الوسيط الهادئ في تخفيف التوتّرات الإقليميّة