خلقت عائلة الأسد، شأنها شأن الكثير من الأنظمة السلطوية التي سبقتها، قناعة راسخة بأنّ التسلّط والإفلات من العقاب والإقصاء هي قواعد ثابتة إلى الأبد، عزّزت النزعة النرجسية للسلطة. فقد كان أنصار الأسد، الأب والابن على حدّ سواء، يردّدون شعار «قائدنا إلى الأبد»، إلى أن أتى اليوم الذي دُحِر فيه حكمهم، وهتف الناس «انتهى إلى الأبد».
غير أنّ الدول تمتلك قدرة استثنائية على تشكيل واقع شعوبها، بدءاً من أنشطتهم اليومية، وعلاقاتهم الاجتماعية ومشاعرهم، وصولاً إلى آفاق أحلامهم، وممارساتهم الثقافية، وحتى مفاهيمهم السياسية.
ولهذا السبب، يجد أحمد الشرع نفسه أمام مهمّة بالغة التعقيد، وهو الذي بات فجأة مسؤولاً عن رسم ملامح مستقبل سوريا، ويرافقه في ذلك عشرات الملايين من السوريين.
ولحسن الحظ أنّها ليست التجربة الأولى من نوعها في المنطقة. تُعدّ سوريا آخر دول «الربيع العربي» التي تطيح بنظامٍ سلطوي. لقد حاولت كل من تونس ومصر وليبيا بناء دول جديدة لشعوبها إلّا أنّ محاولاتها انتهت بأزمات جحيمية من نوع آخر. غير أنّ إخفاقاتها تحمل دروساً يمكن أن يستفيد منها الشرع والسوريين عموماً.
وأحد أهمّ هذه الدروس هو أنّ طموحات الشرع وشعبه مُتشابكة وستحيا وتموت في الوقت نفسه. ففي حين يُعتبَر الشرع القائد المفترض للمرحلة الانتقالية، ستحدّد بقية البلاد طبيعة هذه المرحلة وملامحها. وعليه، ينبغي أن يصبح المجتمع المدني والشعب السوري القوة الضاغطة التي توجّه القوى المتنافسة في خلال هذه الفترة التأسيسية، ولاسيما في القضايا الاجتماعية والسياسية، مثل تشكيل النظام السياسي الجديد وضمان استقراره.
إصلاح النظام
يرى الاستثنائيون من السوريين أنّ تجربة بلادهم فريدة، وأنّهم تجاوزوا بالفعل مسار الفشل الانتقالي الذي شهدته دول الربيع العربي، وتعلّموا الدروس منه، بعدما واجهت آمال التغيير الأولية قمعاً شديداً من نظام وحشي ولصوصي ومتشبّث بالسلطة. ومع ذلك، لا يبشّر انتهاء الحرب ضرورةً بانتهاء هذا المسار الانحداري. فبعد نصف قرن، لا تزال دوافعها راسخة في ذاكرة النظام والشعب.
وبغض النظر عن خاصيّة الوضع السوري، تحمل الإطاحة بنظام الأسد قاسماً مشتركاً حيوياً مع تجارب دول الربيع العربي الأخرى، وهو الميل إلى الاحتفال بنهاية النظام لمجرّد أنّه بدّل قناعه.
والواقع أنّ عائلة الأسد حكمت سوريا لمدّة 56 عاماً، ما يعني أنّ أجيالاً كاملة عاشت وماتت تحت حكمها. لقد شكّل هذا الإرث المؤلم نظرة الناجين من النظام إلى العالم. ربّما يكون طغيان الأسد قد تمثّل بعائلة واحدة، ولكن آلاف الأشخاص قد حرّكوه، فهو نتاج أنظمة البيروقراطية، والسلوكيات المشروطة، وانتهازية البقاء، ومؤسّسات نمت فيها هذه الخصائل. الأسد هو نظام، وواجهته هي التي اختفت الآن ليس إلّا.
لقد فشلت دول الثورات العربية في تقييم إرث الأنظمة القديمة، فاستنزفتها.
بدأت أعراض جنون العظمة وانعدام الأمان التي ميّزت نظام الأسد بالظهور لدى الشرع، الذي يسارع في بناء دولة عميقة مليئة بالموالين له. وفي الوقت نفسه، لا يزال الشارع السوري منقسماً وفاقداً للوجهة. لقد أدّت الاضطرابات الأمنية المتزايدة إلى تعطيل الخطط الأوّلية لإنشاء جيش جديد يضمّ جميع الأطراف، ولا تزال القوى المجتمعية مثل الأكراد والمجموعات المسلّحة في غرب سوريا وجنوبها متردّدة من الاندماج ضمن الجيش الجديد. وبدلاً من ذلك، يملأ الشرع المناصب العليا بأشخاص يثق بهم، حتى ولو كانوا من غير حاملي الجنسية السورية. وعلى غرار الدول الأخرى، ينتقل السوريون من لحظة حماسية إلى مستنقع من الجمود السياسي، ويواجهون خطر الانزلاق في دوّامة من العنف المتبادل، قد تمزّق النسيج الاجتماعي من درعا إلى حمص.
يتعيّن على الشرع أن يدرك أنّ حصنه الحقيقي الوحيد ضدّ النظام الموروث يكمن في جمع عناصر إرث الأسد، من البيروقراطية والجيش اللذين طُبِعا بالطائفية ، إلى الاقتصاد الأوليغارشي، والشراكات الخارجية التقييدية، والمجتمع المنقسم وآماله التوحيدية، لصياغتها في شكل جديد. وهذه مهمّة لا يستطيع إنجازها بمفرده بل بالتعاون مع جميع شرائح المجتمع السوري.
لم ينجُ محمد مرسي في مصر أو راشد الغنوشي في تونس من حشو النظام القديم بوجوه جديدة. مع ذلك، يتطلّب إحراز تقدّم ملموس نحو رؤية شاملة ملايين الداعمين. كما أنّه يعزّر القدرة على الصمود في العملية الانتقالية في سوريا. وهذا يعني أن تحافظ الثورة على مسارها، حتى في مواجهة التخريب الذي قد تمارسه النخب أو التدخّلات الخارجية، كما في حالة ليبيا. ولا يبدأ هذا المسار إلّا بعملية وضع الدستور.
سياسات الشعب، من الشعب وللشعب
قد يكون قرار الشرع تأجيل الانتخابات لسنوات أثار موجة من الغضب، ولكنه خيار حكيم بالاستناد إلى الدروس المستفادة من الربيع العربي. وكما أظهرت ليبيا، تحتاج الانتخابات إلى بيئة اجتماعية وسياسية مناسبة حتى تكون بنّاءة لا مدمّرة. فالانتخابات ليست وسيلة للتحوّل السياسي، وإنّما مؤشّراً عليه. يجب بناء الدولة والشعب أولاً لتأطير النظام الجديد.
ومع ذلك، كرّر الشرع خطأً شائعاً بإعلانه عن إنشاء لجنة دستورية. لقد وضع كلّ أوراقه في مركبة نخبوية يأمل في السيطرة عليها، لكنها سرعان ما ستنعزل عن الواقع لسنوات قبل أن تخرج في النهاية بوثيقة ميّتة لشعب متغيرّ. ولهذا السبب، ينبغي الترحيب بعدم إحراز تقدّم في هذا المجال، لأنّه يتيح الفرصة لنهج مختلف.
لقد أثبتت الحرب الأهلية المستمرّة في ليبيا والثورات المضادة ضدّ الدولة العميقة في تونس ومصر أنّ الاضطرابات الأمنية هي الدينامية الأكثر زعزعة لاستقرار الدول في المرحلة الانتقالية. فهي تغذّي القوى الفئوية والتفكيكية والانتقامية المدمّرة.
على المستوى القاعدي، قد يفسّر هذا معاناة الشرع في توحيد جميع القوى تحت راية دولة جديدة. ومن منظور سلطوي، قد يدفعه الأمر إلى تكرار أخطاء القيادات الثورية السابقة. وكما هو الحال مع الشرع، لقد دفعت الاضطرابات الأمنية القيادات الثورية السابقة إلى تعطيل العمليات التي تُخضِع القوّة لسيادة القانون، ومحاولة امتلاك المؤسّسات الأمنية، لينتهي الأمر بها إلى تسهيل الانقلابات بمجرّد انتهاء شهر العسل الثوري.
يجب أن يكون الفشل في إحراز تقدّم في توحيد المؤّسسة العسكرية أو العملية الدستورية منذ ديسمبر الماضي بمثابة تذكير بأنّ أي فرد لوحده لا يمكنه القيام بكل ما يلزم لصياغة مستقبل الأمة. وبما أنّ الشرع وصل إلى السلطة عبر حركة عسكرية وليس عبر مسار سياسي، يجب أن يكون الأمر دافعاً للشعب لتنظيم صفوفه والتكاتف من أجل تأطير العملية وتشكيلها.
لا يعود فشل جهود الشرع إلى محاولته العمل بمفرده فحسب، بل أيضاً إلى تعامله مع مشكلة اجتماعية سياسية كما لو كانت مسألة قوّة صلبة. يجب إقناع الشرع ودائرته بأنّ العملية الدستورية هي قوة توحيدية وبنّاءة وتؤمّن الاستقرار، وستجعل في النهاية إدارة الحكم أكثر سهولة. الدستورانية ليست مجرّد سعي فلسفي، بل أداة نفعية.
على سبيل المثال، يجب أن يكون إصلاح قطاع الأمن جزءاً من العدالة الانتقالية في إطار عملية أوسع لإعادة إحياء القانون، وليس مجرّد حسابات باردة تهدف إلى حشو المؤسّسات بالموالين. ووحده القانون الموحّد، الذي يعِد بالمساواة، ويُثبت فاعليته في التطبيق، ويحوّل الأجهزة الأمنية من حكّام إلى خدّام، هو ما يمنح المواطنين قوة يثقون بها، ونظاماً يتّفق الجميع على الحفاظ عليه.
الأساس لحياة جديدة إلى الأبد
إذا كان على سوريا أن تتعلّم هذا الدرس، فيجب على السوريين التحرّك بسرعة لإعادة بناء علاقاتهم بالدولة وببعضهم البعض.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال تشكيل لجنة من القضاة وممثّلين عن المجتمع المدني من مختلف النسيج السوري لصياغة وثيقة حقوق تكون المادة الأولى في الدستور الجديد وتدخل حيّز التنفيذ فوراً. وسيؤدّي هذا إلى تحقيق المساواة بين السوريين تحت سقف القانون، وإظهار القيمة الحقيقية للدستور، وبناء الثقة في الدولة الجديدة. تبدّد هذه التطوّرات المخاوف التي تعيق توحيد قطاع الأمن، وتساعد سوريا على تجنّب التفتّت على غرار ليبيا.
وفي الوقت نفسه، يجب على السوريين المطالبة بإطلاق مصالحة وطنية يقودها خبراء قانونيين، وتستند إلى أفضل الممارسات الدولية مثل نموذج جنوب أفريقيا، لمعالجة الشعور العميق بالظلم وتوحيد المجتمع السوري قبل أن تتحوّل عمليات القتل الانتقامية إلى دوّامة من العنف. ومجدّداً، لا ينبغي اعتبار هذا المسار مجرّد مفهوم فلسفي منفصل عن الواقع الصعب لنضال السلطة الثورية اليومي، بل يجب اعتباره إجراءً عاجلاً لتحقيق الاستقرار الذي قد يثمر فوائد متراكمة.
ستكون هاتان الخطوتان حجر الأساس لعملية دستورية مرنة وتحوّلية، يُنظر إليها كهيكل داعم أثناء بناء الدولة الجديدة بدلًا من كونها مشروعاً نخبوياً. وهذا من شأنه أن يمنح السوريين آلية إجرائية لتجنّب فخاخ التحوّلات الأخرى، والمرونة اللازمة لاستقاء العبر أثناء التنفيذ. ولكن ستتطلّب هذه العملية كفاحاً مثل كلّ خطوة ثورية أخرى. وبالنظر إلى المسار الذي يسلكه الشرع، والقوى الجيوسياسية والاقتصادية العاصفة التي تواجهها البلاد، يجب على المجتمع المدني السوري جَسر الانقسامات والدفع نحو أجندة مشتركة تضمّ جميع الطوائف والحلفاء الدوليين لتقديم هذ الخطّة باعتبارها خطة شعبية واضحة وفعّالة للقيادة المؤقّتة.
هذا النهج الشامل والبراغماتي، الذي يمنح الجميع شعوراً أكبر بالأمان ودافعاً للاستثمار في التغيير الآتي، هو بالضبط ما يحتاجه الشرع ليتمكّن من قيادة البلاد، واجتياز التحدّيات الاقتصادية والجيوسياسية التي يفترض بالثورة أن تتخطّاها من أجل البقاء.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفيها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.