خطة ترامب لإعادة إعمار غزة: وصفة جاهزة لحدوث كارثة

على الرغم من أنّ خطة ترامب ذات النقاط العشرين لا تتطرّق إلّا بمحدودية إلى إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي في غزة، يثير ما تكشّف من بنودها المُعلنة مخاوف عميقة. ومع ذلك، لا تزال ثمة بدائل أفضل مطروحة للنقاش يمكن تبنّيها في أيّ مسار مستقبلي لإعادة الإعمار.

29 ديسمبر، 2025
محمد الدحشان

عندما كُشِف النقاب عن «خطّة السلام» ذات النقاط العشرين التي طرحها دونالد ترامب في أواخر سبتمبر الماضي، سارعت دول كثيرة في الشرق الأوسط وأوروبا إلى الالتفاف حولها ودعمها. ولم يكن هذا الاصطفاف نابعاً من مضمون الخطّة، بقدر ما كان تعبيراً عن قناعة بأنّها قد تمثّل الفرصة الأخيرة، وربّما الأفضل، لوقف الهجوم العسكري الإسرائيلي الكاسح والمدمّر على غزّة، على الرغم ممّا أثارته بنودها من تساؤلات مشروعة. 

 

وعلى مدى أكثر من شهر لاحق، عملت الولايات المتّحدة على تأمين مصادقة مجلس الأمن الدولي على مكوّنات جوهرية من الخطّة، من بينها «قوة الاستقرار الدولية» المقترحة، و«مجلس السلام»، وهو لجنة تنفيذية يرأسها ترامب نفسه، مهمّتها الإشراف على إدارة غزّة وإعادة إعمارها وتعافيها. وعلى الرغم من أنّ قراراً أممياً أُقِرّ في نهاية المطاف، وحظي بدعم من دول عربية وإسلامية غير أعضاء في مجلس الأمن، لم يُبدّد ذلك المخاوف المستمرّة بشأن غياب الوضوح أو الأساس القانوني لمكوّنات الخطّة السياسية والأمنية. غير أن ما جرى تجاهله إلى حدّ كبير هو  البعد المتعلّق بإعادة التنمية الاقتصادية في خطّة النقاط العشرين، والذي لم يُتناول إلّا لماماً، على الرغم مما ينطوي عليه بدوره من إشكاليات عميقة لا تقل خطورة. 

 

 

اقتفاء الأثر 

لا تتطرّق خطة ترامب ذات النقاط العشرين إلّا لماماً إلى التنمية أو إعادة الإعمار. ويَرِد فيها ذكر «فريق من الخبراء» يضمّ أشخاصاً «كان لهم الفضل في بزوغ بعض المدن المعجزة الحديثة المزدهرة في الشرق الأوسط»، في إشارة واضحة إلى دولة الإمارات، على أن يتولى هذا الفريق إعداد خطّة تنمية اقتصادية من أجل «إعادة بناء غزة وبثّ الحياة فيها». كما يُناط بـ«مجلس السلام» الإشراف على التمويل، فيما يدعو قرار مجلس الأمن الدولي إلى دورٍ للبنك الدولي أيضاً، إلى جانب إنشاء منطقة اقتصادية خاصة. 

 

وعلاوة على ذلك، لا تتضمّن الخطّة سوى إشارتين فضفاضتين توحيان بما يمكن تسميته « الخطّة الكامنة خلف الخطّة المُعلنة». الأولى هي الذكر اللافت لتوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بوصفه الشخص الوحيد المذكور بالاسم في الوثيقة إلى جانب ترامب، كمرشّح لعضوية «مجلس السلام». أمّا الثانية، فهي عبارة تنصّ على أنّ «الكثير من مقترحات الاستثمار المدروسة والأفكار التنموية الواعدة قد صاغتها مجموعات دولية حسنة النية، وسيُنظر فيها من أجل موائمة أطر الأمن والحوكمة بما يجذب هذه الاستثمارات وييسّرها، على نحو يخلق وظائف وفرصاً وأملاً لغزّة المستقبل». والمفارقة أن ترد هذه اللغة، بقدر ما هي عامة وعرضية، بحذافيرها في ملحق قرار مجلس الأمن رقم 2803. 

 

نظرياً، يمكن لعبارة «مقترحات الاستثمار المدروسة» و«الأفكار التنموية الواعدة» أن تشمل طيفاً واسعاً من الخطط التي أُعدّتها جهات فاعلة ووكالات مختلفة في خلال العامين الماضيين، بما في ذلك بلديات غزّة نفسها. فمن المرجّح أنّ المقصود هو الاستناد إلى مجموعة من التصوّرات التي تبلورت داخل دوائر ترامب وبلير على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية، بدءاً من فترة تولّي بلير منصب ممثل اللجنة الرباعية في الشرق الأوسط، مروراً بإدارة ترامب الأولى، وصولاً إلى فكرة «ريفييرا غزّة» التي طرحها الرئيس الأمريكي في فبراير 2025، وما أعقبها من تفصيلات. 

 

وبوجود ترامب وبلير على رأس «مجلس سلام» يتمتّع بصلاحيات مُطلقة، يصبح من السهولة بمكان فرض تصوّرات إعادة التنمية هذه. غير أنّ غزّة ليست صفحة بيضاء يُعاد رسمها على صورة «دبي جديدة». فهي مكان مكتظّ بسكانه، ذو جذور تاريخية واجتماعية واقتصادية عميقة ضاربة في القدم، ويقطنه مجتمع يتمسّك بحقّه في صياغة مستقبله ورسم ملامحه. ومن ثمّ، فإنّ أي مقاربة جادّة لإعادة الإعمار لا بدّ أن تستند إلى التجارب العالمية في ما يتعلّق بإعادة الإعمار بعد الصراعات، وأن تكون متجذّرة في الواقع الفلسطيني، لا في رؤى مُستهلكة صيغت خارج سياق المكان وأهله. 

 

 

شركة «غزّة»: صناعة كارثة 

بالتوازي مع ترقية ترامب لفكرة «ريفييرا غزّة» إلى خطّة متكاملة من عشرين نقطة، استمر الترويج، في الدوائر الإسرائيلية والأمريكية، لفكرة تحويل غزّة إلى إقليم تديره الولايات المتّحدة ويُفرَّغ إلى حدّ بعيد من سكّانه الفلسطينيين. وقد قاد هذا المسار رجال أعمال إسرائيليون، وفريق من مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG). وفي 2 سبتمبر، سرّبت صحيفة واشنطن بوست نشرة من 38 صفحة بعنوان «صندوق إعادة إعمار غزّة، وتسريع نموّها الاقتصادي وتحويلها»، كانت متداولة في أروقة البيت الأبيض واطّلع عليها معهد توني بلير للتغيير العالمي. 

 

لم تُبدِ الخطّة أيّ محاولة لإخفاء غايتها الأساسية المتمثّلة في خدمة المستثمرين الأجانب على حساب الفلسطينيين، إذ قدّرت إمكان تحقيق نحو 185 مليار دولار «كعوائد للصناعة» على مدى عشر سنوات. كما اقترحت إقامة عشرة مشاريع عملاقة في غزّة، من بينها «الريفييرا» سيئة الصيت، بتمويل يستند إلى «نموذج تمويلي مبتكر»، قوامه وضع الأراضي العامة في صندوق ائتماني للتطوير، على أن تُباع أصوله للمستثمرين عبر رموز رقمية تُتداول على تقنية «البلوك تشين»، 

 

غير أنّ دور توني بلير يتعدّى مجرّد مشاركة مؤسّسته في مثل هذه المخطّطات، ووروده في الخطّة ذات العشرين نقطة ليس محض صدفة. فبحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية، كان بلير وجهاً مألوفاً في دوائر صنع القرار في إسرائيل في خلال العامين الماضيين لمناقشة سيناريوهات «اليوم التالي»، كما أُشرك في اجتماعات مع فريق ترامب بشأن مستقبل غزّة. وقبل أقل من أسبوعين على الإعلان عن الخطّة، سرّبت هآرتس مخططاً خاصاً بمعهد توني بلير لهيكل حوكمة غزّة في مرحلة ما بعد الحرب، وهو مخطّط يتشابه إلى حدّ لافت مع خطّة ترامب، ويتضمّن «قوة الاستقرار الدولية» و«السلطة الدولية الانتقالية في غزّة»، برئاسة مجلس دولي شبيه بـ«مجلس السلام». وكما هو الحال في خطّة ترامب، يُختزل الدور الفلسطيني هنا أيضاً في «ذراع لتقديم الخدمات». 

 

والنقطة الجوهرية هي إشراف هذا المجلس على «هيئة تشجيع الاستثمار والتنمية الاقتصادية في غزّة»، وهي «هيئة ذات نزعة تجارية بحتة» مهمّتها استخلاص الربح من كل نشاط اقتصادي، «بما في ذلك الإسكان والبنية التحتية والتنمية الصناعية». وبعبارة أخرى ، إنّها غزّة تُدار بمنطق أرباح المستثمرين وعوائدهم الاستثمارية، لا بمنطق المصالح الوطنية والاحتياجات المجتمعية. 

 

إن ما تُكرّسه الخطّة ذات العشرين نقطة وقرار مجلس الأمن الدولي الصادر بشأنها، ليس سوى نظام وصاية فعلي يهيمن عليه هيكل قيادة أجنبي يتحكّم بمفاتيح التمويل. إذ يتولّى «مجلس السلام» التابع لترامب وبلير إدارة تمويل إعادة الإعمار، وإطلاق الأموال على مراحل مرتبطة بشهادات غامضة لـ«الخلو من الإرهاب»، وبمؤشّرات إصلاح يجب أن تحظى بموافقة إسرائيل، ما يعني عملياً إضفاء شرعية شكلية على السيطرة الإسرائيلية على مجمل مسار إعادة الإعمار. 

 

 

خطط بديلة (وأجدى) 

على الرغم من كثرة العيوب والنبرة الاستعمارية التي تنطوي عليها خطّة ترامب، فإنّها تبقى، في المرحلة الراهنة، الخيار الوحيد المطروح فعلياً على الطاولة. غير أنّ هذا الواقع لا يلغي وجود مقاربات بديلة تستحق نقاشاً جدياً، سواء لأنّها تخدم سكّان غزّة على نحو أفضل، أو لأنّها قد تكون أكثر قبولاً لدى الأطراف الخارجية التي يُعدّ دعمها شرطاً أساسياً لتطبيق أي خطّة. وفي هذا السياق، تبرز ثلاثة مقترحات رئيسة تقدّم إسهامات نوعية ذات أهمية خاصّة. 

 

في مارس 2025، نشرت مؤسّسة RAND تقريراً بعنوان «من المخيّمات إلى المجتمعات: المأوى بعد الصراع في غزّة»،  يقدّم الإطار الأكثر تكاملاً من الناحية التقنية، والأعلى قابلية للتطبيق العملي لإعادة الإعمار. ومن خلال إصراره على مقاربة شاملة على مستوى كامل القطاع، يسعى التقرير إلى تفادي الإخفاقات المألوفة في سياقات ما بعد الصراعات، مثل تحوّل السكن المؤقّت إلى دائم، أو إبقاء مناطق بأكملها رهينة «إعادة إعمار مؤجّلة إلى أجل غير مسمّى». وقد صُمّمت عملية إعادة الإعمار، في هذا التصوّر، منذ البداية لتوليد الدخل، ما يمنح الفلسطينيين دوراً فاعلاً وملكية حقيقية لمسار التعافي، بدلاً من اختزالهم في موقع المتلقّي السلبي. 

 

ويدعو التقرير إلى تجميع رأس مال متعدّد السنوات من المانحين القائمين والمؤسّسات المالية الدولية، على أن تُصرَف الأموال تدريجياً مع تطهير المناطق من الركام، بحيث تحصل كلّ منطقة على حزمة تمويل واحدة ومتكاملة تشمل إزالة الأنقاض، وشبكات الخدمات، والإسكان. وينصبّ التركيز هنا على الانضباط المالي وتسلسل التنفيذ، لا على ابتكار آليّات تمويل جديدة. 

 

أمّا المقترح الثاني، فهو خطّة مصر للتعافي المبكر وإعادة الإعمار والتنمية في غزّة، التي أُعلن عنها في الشهر نفسه، وتُعدّ أول مخطّط مُكلّف مالياً لإعادة بناء القطاع. واستناداً إلى التقييم المرحلي السريع للأضرار والاحتياجات الصادر عن الأمم المتّحدة في فبراير 2025، تتصوّر الخطّة مسار إعادة إعمار يمتد لعشر سنوات، بكلفة تُقدّر بنحو 53 مليار دولار. وتتمثّل نقاط قوّتها في شموليتها، وتبنّي جامعة الدول العربية لها، إلى جانب الدعم الأوروبي غير المُعلن الذي تحظى به. كما تقترح عقد مؤتمر تعهّدات تستضيفه القاهرة، وإنشاء صندوق موحّد يجمع تمويل المانحين والمؤسّسات المالية الدولية والاستثمار الخاص، بما يوفّر قناة واضحة نسبياً للمساءلة. 

 

غير أنّ الأهمية القصوى، في نهاية المطاف، تعود إلى المبادرات التي طوّرها الفلسطينيون أنفسهم، وفي مقدّمتها مبادرة «فينيق غزّة»، التي تُشكّل «أساساً مفاهيمياً وعملياً لإطلاق برامج إعادة الإعمار في قطاع غزّة»، وتدعو صراحة إلى الانخراط والمساهمة في عملية التخطيط. ويقوم مبدؤها الجوهري على الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه والبناء من حوله، وهو يناقض تماماً منطق «الأرض الخالية» الذي تستند إليه مقاربتا بلير وترامب. وترفض المبادرة التخطيط المركزي الخارجي، وتُعلي من شأن الاستدامة، وتضع الحاجات الإنسانية في صدارة أولوياتها، وتعكس الهويات المحلّية المتعدّدة في سياقات غزّة المختلفة. 

 

كما تشجّع الخطّة تدفّقات رأس المال ضمن حلقة دائرية ومحلّية عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص، والتعاون مع المنظّمات غير الحكومية، وتوظيف صناديق الاستثمار ذات الأثر الاجتماعي، وذلك ضمن إطار تكتلات صناعية بيئية ومراكز لإعادة تدوير الركام. وبدلاً من اختزال إعادة الإعمار في مجرّد مشروع هندسي لمرّة واحدة، تُقدّمها الخطّة باعتبارها منظومة اجتماعية اقتصادية متكاملة، قادرة على تعزيز ذاتها تدريجياً، واستقطاب الدعم الخارجي بصورة تراكمية. 

 

 

الخاتمة 

من المتوقّع أن تمثّل غزة، جنباً إلى جنب مع سوريا، أضخم مسعى عالمي لإعادة الإعمار في خلال هذا العقد. غير أنّ الخطة الأمريكية، بصيغتها الحالية، تُقدِّم المصالح الخارجية على حساب حقوق الفلسطينيين وتطلعاتهم. وإذا كُتب لهذه الخطّة النجاح، فلا بدّ أن تُعاد صياغتها وتنأى بنفسها عن أوجه قصورها، بما يضع الفلسطينيين في صلب عملية إعادة الإعمار. 

 

وينبغي لصنّاع القرار في الولايات المتّحدة الاستفادة من عناصر القوّة الكامنة في المقاربات البديلة المطروحة: بدءاً من البنية المالية والموازنة المرحلية والإسناد الإقليمي الذي توفّره الخطّة المصرية، مروراً بالانضباط التنفيذي والعملياتي الذي يميّز مقترح RAND، وصولاً إلى الخبرة المحلّية الأصيلة والمنطق الذي تنطلق منه مبادرة «فينيق غزّة» في إعادة البناء. فالملكية والتنفيذ المحلّيان ليسا مجرّد فضائل اختيارية يمكن الاستغناء عنها، بل شرطين أساسيين لاكتساب الشرعية، سواء على الصعيد الداخلي أو في نظر المجتمع الدولي. 

 

كما تعكس المقاربات القائمة على التقسيم المناطقي، والمشتركة بين هذه المقترحات، دروساً قاسية استُخلصت من آليّة إعادة إعمار غزّة التي رعتها الأمم المتّحدة في العام 2014، حين أدّى نظام الموافقات الجزئية إلى خلق «متاهة بيروقراطية»، منحت إسرائيل فعلياً حقّ النقض على مسار إعادة البناء. 

 

ومن دون تصحيح مبكر للمسار، تخاطر واشنطن بأن تُهندس فشلها بنفسها، فشلاً لا يمكن لأيّ وعود بمصانع عملاقة أو بعوائد استثمارية مرتفعة أن تعوّضه. 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: السياسة الأمريكية الخارجية
البلد: فلسطين

المؤلف

مستشار اقتصادي أوّل سابق في الأمم المتّحدة
محمد الدحشان هو مستشار اقتصادي أوّل سابق في الأمم المتّحدة، وخبير في التنمية في سياقات ما بعد الأزمات.