افتتاحية المحرّر
كان الشهر الأول بعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مزلزلاً وحافلاً بالتغييرات الجذرية، سواء على الصعيد المحلّي أو الدولي. فقد شنّ الرئيس هجوماً على الجهاز الإداري للدولة، مستهدفاً مؤسّسات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وأعلن عن سياسات اقتصادية حمائية، فضلاً عن تجميد المساعدات الدولية. وأرسلت إدارته إشارات واضحة تفيد بأنّ الدولة الأقوى في العالم ستكون مختلفة تماماً في السنوات الأربعة المقبلة.
أحدثت هذه التغييرات الحادّة في السياسات صدمةً في جميع أنحاء العالم، ما دفع الحلفاء والدول المعتمدة على المساعدات الأمريكية إلى تكثيف جهودها للتأقلم مع الواقع الجديد. وقد كانت السرعة الفائقة التي اتُخذت بها القرارات في واشنطن، إلى جانب عدم القدرة على التنبؤ بها، صادمة لكثيرين، لا سيّما مع الإلغاء المفاجئ لبرامج إنسانية أساسية تهدف إلى مساعدة الفئات الأكثر هشاشة في العالم. وكان وقع هذه القرارات شديداً على الدول التي تعتمد على المساعدات الأمريكية، بما في ذلك بعض دول المنطقة. ولكن على المقلب الآخر، تقوّض هذه التقلّبات في السياسات الثقة بالولايات المتحدة كشريك موثوق، ما يثير تساؤلات حول استقرار النظام العالمي الذي لاطالما كانت واشنطن ركيزته الأساسية. وإذا ما استمرّت الإدارة الأمريكية في هذا النهج، فقد تسرّع انهيار هذا النظام.
في هذا السياق، برزت تصريحات ترامب الأخيرة حول مستقبل قطاع غزة كواحدة من أغرب وأفظع وأخطر التصريحات التي أدلى بها أي رئيس أمريكي بشأن أي قضية. ونظراً للمكانة البارزة التي احتلّتها غزة في الوجدان العالمي طوال الأشهر الستة عشر الماضية، فإنّ نهج ترامب سيترك تداعيات تتجاوز حدود القطاع الضيّقة، ما قد يؤدّي إلى ردود فعل دولية واصطفافات جيوسياسية غير متوقّعة.
وهمٌ جديد
الاقتراح الأرعن الذي قدّمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بامتلاك الولايات المتحدة قطاع غزة وتهجير سكّانه الفلسطينيين، ثمّ إعادة بنائه ليصبح “ريفييرا الشرق الأوسط” ليس مجرّد طرح مخزٍ، بل أيضاً غير قابل للتنفيذ. فالواقع على الأرض، إضافة إلى المعارضة داخل قاعدة ترامب الشعبية والرفض العلني والقاطع من أقرب حلفاء واشنطن العرب، كلّها عوامل تساهم في إفشال هذا المشروع في مهده. وبعد أن زعم ترامب في البداية أنّ طرحه لقى ترحيباً واسعاً، واجه الأصوات الصاخبة المعارضة لمشروعه بمزيد من التعنّت والتشبّث برأيه. ومع ذلك، لا تحتوي “الخطّة” التي أعلن عنها عن أيّ عناصر ذات قيمة من الناحية العملية أو القانونية أو السياسية أو الأخلاقية.
لكن الأثر الأوسع لهذه المبادرة ليس في التفاصيل، بل في مدلولاتها. فهي تأتي في إطار جهد منسّق بقيادة أمريكية إسرائيلية لإعادة تعريف القضية الفلسطينية على أنّها مسألة إنسانية لا سياسية. وبدلاً من السعي لحلّها عبر معالجة القضايا الجوهرية، مثل انعدام الدولة وحق تقرير المصير وإنهاء الاستعمار، يُختزل سقف التطلّعات الفلسطينية في مسائل الإسكان والتوظيف والخدمات الاجتماعية. بالتالي، يسعى مخطط ترامب إلى إعادة عقارب الساعة إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين كان يُنظر إلى الفلسطينيين بوصفهم مجرّد مشكلة لاجئين ناجمة عن الصراع العربي الإسرائيلي.
سقط ذلك النموذج في الماضي، وستسقط أيّ محاولة لإحيائه اليوم. فلا الشعب الفلسطيني ولا المنطقة سيقبلان بحرمان الفلسطينيين من حقّهم في تقرير مصيرهم، أو أن يُرسم مستقبلهم وفق المصالح الإسرائيلية والغربية على حساب مصالحهم.
تجميد ترامب للمساعدات يهدّد المجتمعات الهشّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
يهدّد قرار الرئيس دونالد ترامب بتجميد المساعدات الخارجية الأمريكية بتداعيات فورية تطال الفئات السكّانية الهشّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تعتمد على هذه المساعدات، وسط مخاوف من تدهور الأوضاع أكثر إذا تجاوزت فترة التجميد التسعين يوماً. فقد أسفرت هذه الخطوة حتى الآن عن توقّف عدد من البرامج الحيوية، بما في ذلك المساعدات الغذائية والمالية للنازحين الذين يواجهون المجاعة في السودان، حيث اضطرّت المطابخ المجتمعية إلى إغلاق أبوابها. وفي قطاع غزة، حذّرت المنظّمات الإنسانية من أنّ القرار قد يعطّل عمل المستشفيات الميدانية الكبرى التي تقدّم خدمات منقذة للأرواح.
كما قوّض تجميدُ المساعدات الجهودَ الإنسانية الحيوية في سوريا، حيث تُعدّ الولايات المتحدة أكبر جهة مانحة للمساعدات الأجنبية. وفي لبنان، يهدّد وقف المساعدات استمرارية الدعم الأساسي للاجئين والنازحين داخلياً والمجتمعات المضيفة، بما يشمل المساعدات الغذائية والخدمات الصحية والبرامج التعليمية. وفي ظلّ التحوّلات السياسية التي يشهدها كلّ من لبنان وسوريا، ينذر استمرار تعليق المساعدات لفترة طويلة بإبطاء جهود تحقيق الاستقرار.
بالإضافة إلى ذلك، يُسلّط تجميد المساعدات الضوء على مشكلة أوسع تواجه منظومة المساعدات العالمية، تتمثّل في تغيّر أولويات المانحين وما يترتّب على ذلك من مخاطر على المجتمعات الهشّة. فلطالما كانت المساعدات الإنسانية للدول الأجنبية امتداداً للسياسة الخارجية، وما أوامر ترامب إلّا تذكير بأنّ الأجندات السياسية، لا الاحتياجات الإنسانية والتنموية، هي التي غالباً ما تملي القرارات المتعلّقة بالمساعدات. وللحدّ من هذه المخاطر، لا بدّ من تعزيز المسؤولية الدولية في مجال التنمية، وضمان حماية المجتمعات الهشّة من تبعات تقلّبات القرارات الهوجاء التي قد تتّخذها الجهات المانحة.
تقليص المساعدات ينذر بتحدّيات صحية عالمية غير مسبوقة
لقد سحبت الولايات المتحدة في غضون بضعة أسابيع فقط معظم المساعدات التي تخصّصها للتنمية الدولية. وقد بلغت ميزانية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية 40 مليار دولار في العام 2023، حيث قدّمت الوكالة دعماً مالياً وتقنياً لأكثر من 130 دولة حول العالم. على الصعيد الصحي، شكّل الدعم الأمريكي عاملاً أساسياً في تمويل برامج الوقاية والعلاج المرتبطة بكثير من الأمراض المميتة التي تصيب الأطفال. واليوم، تواجه برامج صحية كبرى أخرى خطر الإيقاف، بما في ذلك تمويل علاجات الإيدز ومنظمة الصحة العالمية.
يهدّد تقليص التمويل بتداعيات خطيرة طويلة الأمد. ففي المرحلة المقبلة، قد يتعذّر على ملايين الأشخاص حول العالم الحصول على العلاجات الطبية الأساسية، وستغيب البرامج الوقائية الهادفة لحماية الأطفال والنساء الحوامل وغيرهم. وسيكون تأثير هذا الواقع الجديد أشدّ وطأةً على المجتمعات الهشّة، ما يؤدّي إلى تدهوّر الأوضاع الصحية على نطاق عالمي غير مسبوق.
لا يستطيع المجتمع الدولي فعل الكثير من أجل تعويض الفجوة الناجمة عن تقليص المساعدات الأمريكية، إلّا أنّ ما جرى يفتح فرصة أمام دول الجنوب العالمي من أجل تحمّل مسؤولياتها وتولّي دور أكبر في تمويل أنظمتها الصحية وإدارتها. وكانت دول متعدّدة قد أثبتت بالفعل قدرتها على زيادة تمويل برامجها الصحية المحلّية، وقلّصت من اعتمادها على المانحين الأجانب. مثلاً، تنتج جنوب أفريقيا 50 في المئة من أدوية فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) التي يحتاجها المصابون. أمّا الهند، أكبر منتج للقاحات في العالم، فتقدّم لقاحات فعّالة بأسعار مخفّضة ساعدت في إنقاذ ملايين الأرواح في دول الجنوب العالمي.
وفي هذا السياق، تهدف مبادرة الدوحة بشأن السياسة الصحية في الجنوب العالمي لإنشاء منصّة مخصّصة تتيح لدول الجنوب تبادل الخبرات وصياغة إستراتيجيات مشتركة لتعزيز أنظمتها الصحية. ورغم الخطوة الواعدة التي تعد فيها هذه المبادرة، فإنّ الأزمة الصحية الراهنة تؤكّد الحاجة الملحّة إلى تعاون أعمق. بالتالي، على دول الجنوب اغتنام هذه الفرصة للتوصّل إلى حلول مستدامة وتولّي دورها المشروع في رسم سياسات الصحة العالمية.
مصر في مأزق ونكبة ثانية من توقيع ترامب
ليس سرّاً أنّ إسرائيل لطالما حلمت بتهجير سكّان قطاع غزة إلى الدول المجاورة، في محاولة لا يمكن وصفها إلّا بـ”نكبة ثانية”. واليوم، انتقلت هذه الفكرة إلى الإدارة الأمريكية الجديدة، حيث اقترح الرئيس دونالد ترامب نقل سكّان غزة بشكل دائم، وتحويل القطاع الساحلي إلى “ريفييرا” تابعة للولايات المتحدة، مكرّراً التصريحات التي أدلى بها صهره جاريد كوشنير قبل عام. وقد رفضت الحكومتان المصرية والأردنية، حتى الآن، الضغوط الأمريكية لتنفيذ مخطّط “الترانسفير”، الذي يعتبره القانون الدولي تهجيراً قسرياً جماعياً.
وعلى الرغم من ورود بعض التقارير غير المؤكّدة التي تفيد بأنّ واشنطن تحاول استغلال الخلاف بين مصر وإثيوبيا بشأن سدّ النهضة للضغط على القاهرة لقبول الفلسطينيين من غزة في سيناء، أكّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة رفضه القاطع لهذا المخطّط. وقال في خطاب حديث له إنّه حتى إذا وافق على استقبال أهل غزة مؤقّتاً إلى حين إعادة بناء القطاع، فإنّ الشعب المصري سيعترض في الشارع.
وبينما تواجه مصر ضغوطاً اقتصادية مستمرّة ولا يزال سدّ النهضة الإثيوبي يشكّل أزمة وجودية بالنسبة إليها، تدرك الحكومة المصرية تماماً أنّ استقبال الغزّاويين في سيناء لن يكون مؤقّتاً. ولا تقتصر تبعات هذا “الترانسفير” على زيادة الضغط على الخدمات التي تكاد لا تكفي أصلاً نظراً لاستضافة مصر للاجئين هاربين من صراعات إقليمية أخرى، بل سيشكل أيضاً تهديداً للأمن المصري. فمن الممكن أن يتمّكن عناصر من حركة حماس وغيرها من المجموعات المسلّحة من دخول مصر بموجب خطّة نقل السكان واستخدام الأراضي المصرية لشنّ هجمات ضدّ إسرائيل وربما ضدّ أهداف أخرى داخل مصر. وعلى الرغم أنّه لا يزال من المبكر تحديد ما إذا كان ترامب جادّاً في اقتراحه أو أنّه مجرّد تكتيك تفاوضي، المؤكّد أنّ نقل سكان غزة إلى الخارج سيكون له تبعات سلبية عميقة على الفلسطينيين وعلى مصر والمنطقة والعالم بأسره.
طهران تحت الضغط
كما كان متوقّعاً، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأسابيع الأولى من ولايته الرئاسية الثانية مذكّرة لاستئناف حملة “الضغط الأقصى” على إيران، بهدف الحدّ من إيراداتها النفطية ومنعها من الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، وذلك عبر تشديد الإجراءات التنظيمية في القطاعين المالي والنفطي.
اللافت أنّ ترامب أصدر هذا التوجيه بموجب مذكّرة وليس أمراً تنفيذياً، ما يجعله أقل إلزامية من الناحية القانونية. وعلى خلاف نهجه في ولايته الأولى، بدت لهجته هذه المرة أكثر تصالحية، إذ أعرب عن استعداده للتفاوض مع نظيره الإيراني مسعود بزشكيان، مؤكّداً تفضيله الحلّ السياسي على تنفيذ سياسة الضغط بالكامل. وعلى الرغم أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان في زيارة إلى واشنطن وقت توقيع المذكّرة، تجنّب ترامب التطرّق إلى الخيار العسكري ضدّ إيران، ما دفع كثير من المحلّلين إلى اعتبار موقفه إشارة إلى انفتاحه على المسار الدبلوماسي.
ردّت إيران بتفاؤل حذر في البداية. وقال وزير خارجيّتها سيّد عبّاس عراقجي إنّه إذا كان هدف ترامب الوحيد هو منع إيران من تطوير سلاح نووي، فربما يمكن التوصّل إلى حلّ. ولكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل بعد تصريح المرشد الأعلى السيد على خامنئي الذي أعلن رفضه القاطع لأي مفاوضات مع واشنطن، مستشهداً بالتجارب السابقة معها، بالأخصّ فشل الاتفاق النووي المبرم في العام 2015، معتبراً أنّه لا جدوى من المسار الدبلوماسي.
يرى بعض المحلّلين أن تصريح خامنئي يشكّل مناورة إستراتيجية تهدف إلى حماية نفسه من تداعيات فشل المفاوضات. ومع ذلك، قيّد رفضه القاطع إدارة الرئيس بزشكيان ومنح المتشدّدين مبرّرات لانتقاد أي محاولة للسير في الخيار الدبلوماسي مع ترامب. هذا الخلاف السياسي الداخلي الإيراني يضيّق من هامش المناورة أمام طهران. ونظراً لتقلبّ سياسات ترامب، فإنّ عدم الاستجابة لانفتاحه على الحلّ الدبلوماسي ضمن إطار زمني محدّد قد يدفع الولايات المتحدة نحو مواقف أكثر عدوانية، ما يقود إلى مزيد من التصعيد.
رهان المغرب العربي
مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لولاية ثانية، تتصدّر قضيّتان رئيسيتان اهتمام قادة المغرب العربي: الإصرار الأمريكي على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومصير الصحراء الغربية، ذلك النزاع المتفاقم الذي أشعل توتّرات حادّة بين الجزائر والمغرب. غير أنّ عشية تنصيب ترامب، بعثت الإدارة الأمريكية الجديدة إشارة واضحة من خلال تعديلها للخرائط، إذ حدّثت وكالة الاستخبارات المركزية أطلسها العالمي، ليُظهر الصحراء الغربية كجزء من الأراضي المغربية، تماشياً مع تعهّد ترامب للرباط في العام 2020 مقابل انضمامها إلى اتفاقات ابراهام. رحّبت الرباط بهذه الخطوة باعتبارها مؤشراً إيجابياً على استمرار الدعم الأمريكي، إلّا أنّ القيادة لا تزال بانتظار التزامات ملموسة أخرى، مثل الافتتاح الموعود لقنصلية أمريكية في الداخلة، عاصمة جهة الداخلة وادي الذهب. وعلى الرغم من الإعلان عن افتتاح مبدئي في نوفمبر 2024، فإن القنصلية لم تبدأ عملها بعد.
في المقابل، يسود جوّ من الارتياب في الجزائر، حيث يخيّم ظلّ وزير الخارجية الأمريكي الجديد ماركو روبيو على المشهد السياسي، خاصةً أنّ سبق أن وجّه انتقادات للقيادة الجزائرية. فقد طالب حين كان لا يزال عضواً في مجلس الشيوخ في العام 2022، بفرض عقوبات على الجزائر على خلفية استمرارها في استيراد الأسلحة من روسيا رغم غزوها لأوكرانيا، ما يزيد من احتمالات استهداف الجزائر تحت قيادته. إلى ذلك، تتمسّك الجزائر بموقفها الثابت الرافض للتطبيع مع إسرائيل، كما من المستبعد أنّ تغيّر موقفها في ما يخصّ الصحراء الغربية، ما يهدّد بالاصطدام مع المغرب وتأجيج التوترات الإقليمية.
على غرار الجزائر، تحافظ تونس على جبهة داخلية موحّدة ضدّ التطبيع. وفي تعبير واضح عن الإرادة الشعبية، كان الرئيس قيس سعيّد قد أعلن رفضه القاطع لأي خطوة في هذا الاتّجاه. ويُبعد هذا الموقف تونس فعلياً عن المعادلة المباشرة، وإن ظلّت التنافسات الإقليمية والضغوط الخارجية خلف الكواليس.
أمّا ليبيا، فتظلّ لغزاً، إذ لم يتّضح بعد ما إذا كانت ستندرج أصلاً ضمن أولويات إدارة ترامب في منطقة المغرب، ما يضيف مزيداً من التعقيد إلى المشهد الإقليمي المضطرب. بالتالي، يجد قادة المغرب أنفسهم عالقين بين مطرقة مطالب القوى الخارجية وسندان الرأي العام الداخلي في ظلّ استمرار الخلافات الإقليمية.
تجنّب الفراغ في سوريا
دائماً ما تخلّف الانسحابات العسكرية فراغاً. على سبيل المثال، خلّف الانسحاب الأمريكي من العراق في العام 2011 فراغاً ملأته إيران وحلفاؤها، ثمّ تنظيم داعش في العام 2014. فكان لذلك القرار تداعيات واسعة على الأمن الإقليمي والدولي. والحال لا يختلف كثيراً في سوريا في العام 2025.
يهدّد الانسحاب الأمريكي المحتمل من سوريا بمخاطر أمنية جسيمة. فبينما تتشكّل معالم سوريا الجديدة تحت حكم هيئة تحرير الشام، لا يزال المشهد الأمني في البلاد مكوّناً من فصائل عسكرية متعدّدة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من المجموعات المتطرّفة المنبثقة عنها التي تهدّد الأمن الدولي. حتى الآن، تبدو قوّات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة الوحيدة القادرة على منع داعش وغيرها من المجموعات المشابهة من استغلال الفترة الانتقالية ما بعد سقوط نظام الأسد من أجل العودة إلى الساحة السورية.
في الوقت نفسه، يثير استمرار سيطرة قوّات سوريا الديمقراطية على مناطق شمال شرق سوريا غضب تركيا، الحليف الإقليمي الحيوي للولايات المتحدة، التي برزت كاللاعب الإقليمي الأقوى على الساحة السورية في مرحلة ما بعد الأسد بفضل علاقتها مع هيئة تحرير الشام. مع ذلك، لا تركيا ولا الهيئة تمتلكان الموارد الميدانية أو القدرات الكافية لتولّي دور الشريك الأمريكي الإقليمي في مكافحة الإرهاب في الحرب ضد داعش.
بالتالي، فإنّ الانسحاب الأمريكي الفوري ليس حلّاً، إذ قد يفسح المجال أمام إيران وروسيا لتعزيز نفوذهما في سوريا، ما يشكّل تهديداً جديداً للمصالح الأمريكية. بدلاً من ذلك، ينبغي على واشنطن رسم إطار واضح لعلاقتها مع تركيا وقوّات سوريا الديمقراطية، يقوم على التزام “قسد” بتهدئة المخاوف التركية من جهة، والسعي من جهة أخرى إلى صيغة لتقاسم السلطة في شمال شرق سوريا، تنهي احتكار “قسد” للنفوذ، وذلك عبر تشكيل حكومة جامعة ودمج المنطقة الخاضعة لسيطرة “قسد” ضمن الإطار السياسي والدستوري الأوسع الذي قد يتبلور مستقبلاً.