أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، عن مقترح مؤلّف من 20 بنداً لوقف إطلاق النار في غزة. غير أنّ المقترح أبعد ما يكون عن خريطة طريق واضحة وموثوقة لإنهاء العدوان على القطاع المحاصر. إذ جاء غامضاً وخالياً من أيّ جداول زمنية، ليبدو أقرب إلى وثيقة استسلام منه إلى خطة سلام. ومع ذلك، قد لا يجد الفلسطينيون بديلاً عن قبوله باعتباره الخيار الأقل سوءاً.
باستثناء مهلة الـ 72 ساعة المخصّصة لإطلاق سراح الرهائن، تُركت معظم بنود الخطة العشرين تقريباً مفتوحةً أمام مفاوضات لاحقة وتأجيلات بلا نهاية. وتجربة الفلسطينيين المريرة مع اتفاقيات أوسلو كفيلة وحدها بزرع شكوك عميقة تجاه أيّ مسار يقوم على مفاوضات مفتوحة بين أطراف تتفاوت قوتها تفاوتاً صارخاً. ويزداد الأمر قتامة حين يكون الطرف المقابل هو حكومة نتنياهو اليمينية المتطرّفة، التي انتهكت مراراً وتكراراً اتفاقيات وقف إطلاق النار في غزة ولبنان منذ اندلاع القتال في 7 أكتوبر 2023.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كلً العيوب، تواجه حركة حماس حقيقةً موجعةً: إنّ رفضها للخطة كلياً قد يحكم على غزة بالفناء. فبعد عامين من إبادة جماعية بلا رادع، بات جلياً أنّ لا أحد قادم لإنقاذ شعب غزة. فحماس عاجزة عن حمايتهم، لكنها قادرة على التسبّب في هلاكهم. ومع غياب أيّ بديل واقعي يلوح في الأفق، قد يكون حتى وقف إطلاق نار هشّ ومليء بالثغرات السبيل الوحيد لوقف المذبحة اليومية والتجويع في غزة. ويمكن للفلسطينيين مواصلة النضال من أجل أهدافهم بعيدة المدى لاحقاً، لكن الأولوية الملحّة الآن هي للبقاء.
أصداء من الماضي
لم يكن غموض خطة ترامب محض صدفة، بل صمّم ليمنح إسرائيل مساحة للمماطلة لأجل غير مسمى، وربط التنفيذ بمطالب أمنية متبدّلة، والادعاء بالالتزام شكلياً بينما تتجنب تقديم أيّ تنازلات جوهرية.
يعرف الفلسطينيون هذا النمط جيّداً. فقد بُنيت اتفاقيات أوسلو في مطلع التسعينيات على انسحابات إسرائيلية تدريجية من الأراضي الفلسطينية المحتلّة لتحل محلها السلطة الفلسطينية. لكن بعد عقود، ترسّخ الاحتلال أكثر، وحوّل الضفة الغربية إلى جيوب فلسطينية معزولة تحاصرها مستوطنات إسرائيلية تتمدّد بلا توقف. إن أصداء أوسلو في خطة ترامب لا تخطئها العين.
في صلب المقترح، يرد انسحاب إسرائيلي تدريجي من غزة ونشر قوة دولية، لكن اللغة المستخدمة مراوِغة: فالانسحاب قد لا يكون كاملاً، والمعايير غير محدّدة. كما تُلزم الخطة غزّة بنزع السلاح وتجريد حماس من قوتها، على الرغم من بقاء الاحتلال قائماً. بالنسبة إلى كثير من الفلسطينيين، تبدو هذه الشروط أقرب إلى الإذعان منها إلى السلام.
وتتضمّن الخطة أيضاً دوراً للسلطة الفلسطينية وإن كان محدوداً للغاية ومؤجلاً إلى أجل غير مسمى في المستقبل، إذ ترفض إسرائيل عودة السلطة إلى غزة خشية توحيدها مع الضفّة الغربية تحت مظلة حكم واحدة. وبدلاً من ذلك، تقترح إدارة القطاع عبر لجنة تكنوقراط غير المرتبطين بفصائل سياسية، توضع تحت إشراف ما يُسمى ب«مجلس السلام».
وسيرأس ترامب هذا المجلس فيما سيديره رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، وهما شخصيتان، أقل ما يُقال فيهما، أنهما لا توحيان بالكثير من الثقة. فمن غير المرجّح أن يكرّس ترامب وقتاً جاداً أو يبذل جهداً أو يستثمر رأس مالاً سياسياً في مثل هذه التجربة، فيما لم تسفر تدخلات بلير السابقة في جهود السلام في الشرق الأوسط، ناهيك عن دوره المحوري في غزو العراق الكارثي في العام 2003، إلا عن لقطات تذكارية فارغة. والنتيجة المرجحة: فراغ قيادي تستغلّه إسرائيل لفرض وقائع أحادية.
ومع ذلك، تشكّل الخطة تراجعاً عن طرح ترامب الأول في فبراير الماضي، الذي دعا إلى التهجير الدائم للفلسطينيين وتحويل غزة إلى «ريفييرا». ومنذ ذلك الحين، تبنّت الحكومة الإسرائيلية تلك الرؤية كمرجع لمستقبل القطاع. ما يجعل بنود الاتفاق الجديد متناقضة مع أهداف نتنياهو.
ومن أبرز هذه البنود، ضمان أنّ «لا أحد سيُجبر على مغادرة غزة، ومن يرغب في المغادرة سيكون حراً في ذلك وحراً في العودة». وهو نصّ يحظر مبدئياً التطهير العرقي الذي سعت إسرائيل إلى فرضه منذ أكتوبر 2023.
كما تدعو الخطة إلى تدفّق فوري للمساعدات الإنسانية وإصلاح البنية التحتية الحيوية، بالإضافة إلى مبدأ حظر ضمّ غزة أو إعادة احتلالها.
وتعود أسباب هذا التحوّل إلى الأثر الدبلوماسي الذي خلفته الضربة الإسرائيلية المتهوّرة ضد قادة حماس في قطر في 9 سبتمبر الماضي. فقد جاءت بنتائج عكسية، وأجّجت غضباً إقليمياً، وعزّزت عزلة نتنياهو الدبلوماسية. وبفعل القلق من انعكاسات الهجوم واحتمال الإضرار بعلاقاته مع الدول الخليجية، اجتمع ترامب مع قادة ثماني دول عربية وإسلامية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتّحدة. وقد ساهمت مداخلاتهم في صياغة نص الخطة الأولي، على الرغم من أنّ نتنياهو عدّل على الأرجح بعض أبرز بنودها.
ومع ذلك، ظلّت بصمة هذا الانخراط العربي واضحة في النسخة النهائية. فهو يمنح الدول العربية، ولو ضمنياً، طوق نجاة دبلوماسي يوقف تدمير غزة ويحفظ نفوذها. وهو ما أجبر نتنياهو على قبول الخطة رغماً عنه. فمنذ 7 أكتوبر، كانت أهدافه إطالة أمدّ الحرب، وتفريغ غزة من سكانها، وفرض وقائع لا رجعة عنها. أمّا مقترح ترامب، فعلى الأقل يلمّح إلى قيود على هذه الطموحات. وبينما قد يحاول نتنياهو تقديم الخطة إيجابياً أمام ناخبيه، فإنها قد تمثّل تنازلاً كبيراً يهدّد بتفجير أزمة داخل ائتلافه المتطرّف، وربما يزرع «قنبلة موقوتة» في قلب السياسة الإسرائيلية.
أمّا حماس فحساباتها صارخة. عسكرياً، لا فرصة لها أمام إسرائيل. ودبلوماسياً، هي معزولة تماماً. فقد قبل جيران غزة، مصر وقطر وتركيا، بالخطة، بما في ذلك نزع سلاح حماس وإقصاؤها من الحكم. وفي المقابل، قد يكون خطاب نتنياهو المتعالي فخاً لاستدراج حماس إلى رفض الخطة، فهو لا يرغب بشيء أكثر من توجيه أصابع اللوم إلى حماس ومواصلة قصف غزة بلا هوادة.
وفي هذا السياق، قد يساوي رفض حماس للمقترح قبولها بفناء غزة. فالاتفاق، على علاته، يتضمن بنوداً تتيح لعناصرها النجاة، وتترك مجالاً للفلسطينيين لإعادة تنظيم صفوفهم. والغموض هنا سلاح ذو حدين: فكما تستطيع إسرائيل استغلال البنود المفتوحة، يمكن أيضاً للفلسطينيين بدورهم التكيّف معها وإعادة بناء حركتهم الوطنية. وطالما استمر الحرمان من حقوقهم، ستبقى مقاومة الفلسطينيين لإسرائيل حيّة.
ويُثبت التاريخ أنّ الحركات تتطوّر وتتكيّف تبعاً للظروف. وقد كانت الحركة الوطنية الفلسطينية أصلاً في حالة وهن شديد وحاجة ملحّة إلى تجديد إستراتيجي وتمثيلي قبل 7 أكتوبر. ولا يعني قبول وقف إطلاق النار التخلّي عن مقاومة الظلم، بل قد يحافظ على الشعب الذي يحمل رايتها إلى الأمام.
مسارات المساءلة
من أبرز ثغرات المقترح غياب المساءلة تماماً. فهو لا يتطرق إطلاقاً إلى تحميل إسرائيل مسؤولية جرائم الحرب أو الإبادة الجماعية أو الفصل العنصري. ومع ذلك، فإنّ توقيعه لا يعني وقف الجهود القانونية. فحتى لو ضغط نتنياهو على السلطة الفلسطينية للتخلي عن المعركة القانونية مقابل السماح لها بتأدية دور في غزة، فإنّ القضايا أمام المحاكم الدولية لم ترفعها السلطة أساساً، بل دولة فلسطين وأطراف ثالثة مثل جنوب أفريقيا. كما أنّ الحراك الشعبي العالمي هو من يقود المواجهة ضد إفلات إسرائيل من العقاب. وستبقى هذه المسارات مفتوحة، حتى لو أدّى وقف إطلاق النار إلى خفوت زخم حركة المساءلة. وإذا قورن ذلك بوقف الإبادة، فهو تنازل لا بدّ من القبول به.
بل قد يعزّز وقف إطلاق النار المساءلة من خلال وقف تدمير الأدلة. فمع وجود مراقبين دوليين، سيكون من الصعب على إسرائيل طمس جرائمها. كما أنّ الدول العربية، وقد باتت أكثر انخراطاً الآن، قد تتعرّض لضغوط للاستمرار في الحملات القانونية والدبلوماسية التي لطالما تجنّبتها.
لكن لا شيء من ذلك يضمن تحقيق العدالة. فمشاركة شخصيات مثل ترامب وبلير، المتّهم نفسه بارتكاب جرائم حرب على خلفية غزو العراق الذي أودى بحياة مئات الآلاف، تبدو أكثر ميلاً لإعاقة المساءلة منها إلى دفعها إلى الأمام. ومع ذلك، يبقى وجود دولي، حتى لو كان معيباً، أفضل من السيطرة الإسرائيلية المطلقة.
تشير الخطة، بخجل، إلى فكرة الدولة الفلسطينية من دون أن تجزم بها. ومن المرجّح أنّ نتنياهو هو من أدخل هذه الصياغة الملتبسة، ثم سارع إلى إعادة تأكيد رفضه الصريح لها، مُدركاً لامبالاة ترامب بالسيادة الفلسطينية. أمّا السلطة الفلسطينية، فقد أيّدت الخطة، لكن مشاركتها مرهونة بإصلاحات «جذرية» فضفاضة. وفي الواقع، كان الرئيس محمود عباس يناور لتعزيز دور «دولة فلسطين» كإطار للاعتراف الدولي بدلاً من السلطة الفلسطينية نفسها.
الخطة المؤلّفة من عشرين بنداً ليست خريطة طريق لـ«سلام أبدي في الشرق الأوسط» كما يزعم ترامب. بل هي غامضة، وغير متوازنة، ومصمّمةً لحماية المصالح الإسرائيلية. لا تقدّم إطاراً لحل سياسي شامل، وتترك جذور المظالم من دون معالجة.
لكن بالمقارنة مع البديل، أيّ الإبادة المستمرّة والتجويع الجماعي والتهجير القسري، قد تكون الخيار الأقل سوءاً. تستسلم الجيوش في الحروب، وتعيد الحركات تنظيم صفوفها لتواصل النضال في وقت لاحق. ما يهم هو أن يبقى الفلسطينيون أحياء، صامدين على أرضهم، قادرين على مواصلة الكفاح من أجل تقرير المصير والعدالة في المستقبل.
وكما يقول المنظّر الإستراتيجي الصيني سون تزو: «الغاضب قد يرضى لاحقاً، والحاقد قد يلين، لكن الأمة المدمَّرة لا تُبعث من جديد، والموتى لا يُعادون إلى الحياة». الأولوية الآن هي الحفاظ على الحياة. أمّا الآفاق السياسية، مهما بدت قاتمة، فلا يملك المطالبة بها إلّا من ظلّ حيّاً ليحملها.