في سبتمبر 2025، أصدرت الحكومة المصرية وثيقة بعنوان «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية: السياسات الداعمة للنمو والتشغيل»، في محاولة لتقديم رؤية شاملة لمسار التنمية في خلال العقد المقبل. غير أنّ مضمون الخطّة وتوقيت إصدارها، يوحيان بأنّها ليست انطلاقة جديدة بقدر ما هي إعادة صياغة لنهج صندوق النقد الدولي الذي وجّه السياسات الاقتصادية في مصر منذ العام 2016.
وصدرت الوثيقة في وقت تتزايد فيه التساؤلات داخل الأوساط الرسمية والإعلامية عن مدى الحاجة إلى برنامج جديد مع الصندوق لدعم الاقتصاد المصري المتعثّر، أو إمكانية صياغة مسار مستقل بعد عقد من الاعتماد عليه والخضوع لإملاءاته، جعل من مصر ثالث أكبر متلقٍ لقروضه بعد الأرجنتين وأوكرانيا.
منذ العام 2016، وقّعت مصر على أربع اتفاقيات متتالية مع الصندوق مثّلت مجتمعةً إطاراً مؤسسياً للسياسات التقشّفية التي اعتمدت على تحرير سعر الصرف، وتقليص الدعم، وخفض الإنفاق العام. أدّت هذه السياسات مقرونةً بديناميّات سياسية واقتصادية أخرى، إلى تبعات اجتماعية قاسية، إذ ارتفع معدّل الفقر من 27,8 في المئة في العام 2015 إلى ما لا يقلّ عن 33 في المئة في العام 2021، واتسعت فجوة اللامساواة في الثروة والدخل وبات أغنى 10 في المئة من السكّان يمتلكون ثلثي الثروة ونصف الدخل، فيما لا يملك النصف الأفقر منهم سوى 4.2 في المئة من الثروة و17 في المئة من الدخل.
وفي هذا السياق المأزوم، تبتعد السردية الوطنية عن الخطاب التقليدي الذي كان يركّز على العمل اللائق والرفاه للجميع، على الرغم من استمرارها في استخدام نبرة قومية جذّابة. فعنوان السردية نفسه يربط التشغيل بالنمو بوصفه الهدف الإسمي، متجاهلةً اعتبارات أساسية مثل الاستدامة والمساواة والعدالة التوزيعية. وهكذا تتحوّل الرؤية التنموية إلى مجرّد تدقيق مالي يقيس النجاح بمؤشرات العجز والفائض لا بتحسّن نوعية حياة المواطنين.
استمرار الهيمنة الفكرية للصندوق
على الرغم من غياب أي ذكر مباشر لصندوق النقد الدولي في أكثر من 500 صفحة من الوثيقة، تبقى بصماته واضحة على الأقل في مسارين أساسيين، الأول هو تحجيم دور الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص، والثاني هو فرض الانضباط المالي كإطار ناظم للسياسة الاقتصادية.
تكرّس السردية الوطنية النهج نفسه الذي طبع العقد الأخير: نمو كثيف الاعتماد على رأس المال مصحوباً بقدرة محدّودة على خلق فرص العمل. وإذا كان في الماضي أي دلالة على المستقبل، يمكن القول إنّ هذا النهج لن يُحدث تحوّلًا هيكلياً في بنية الاقتصاد ولن يخلق فرص عمل واسعة. تتبنّى السردية الوطنية خطاباً نيوليبرالياً يركّز على تقليص دور الدولة وتعظيم دور القطاع الخاص، من دون وضع أيّ ضمانات تكفل العدالة والشفافية في هذا التحوّل.
وتُكرّر الوثيقة، في أكثر من فصل، شعار أنّ «القطاع الخاص هو المحرّك الرئيس للتنمية الاقتصادية»، مردّدةً السردية التي روّجها الصندوق منذ مؤتمر القاهرة في العام 2018، حين صوّر تدخّل الدولة، بما فيها مؤسّساتها العسكرية، كعائق أمام الاستثمار. والواقع أنّ القطاع الخاص يمتلك أصلًا الحصّة الأكبر من الناتج والتشغيل، لكن ضمن سوق غير تنافسية تهيمن عليها كيانات احتكارية عالية الربحية وقليلة التشغيل.
من هنا، لا يعبّر خطاب «تحرير القطاع الخاص» عن توسّع في المنافسة بقدر ما يعكس إعادة تموضع داخل النخبة الاقتصادية نفسها. ففي حين تركّز السردية النقاش الجوهري على انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي، فإنّها تغفل تماماً عن أيّ نقاش بشأن ضمان عدم انتقال الاحتكار من القطاع العام إلى الخاص، أو حول آليّات منع تغوّل الشركات الكبرى صاحبة الحظوة والنفوذ السياسي.
التحوّل الأخضر بلون رمادي
تقدّم السردية الوطنية نفسها كوثيقة داعمة للنمو «الأخضر»، لكنها في جوهرها تكرّس نموذج الاستثمار الملوّث. ففي حين ألغت الحكومة دعم الطاقة الموجّه للأسر من دون حوار مجتمعي أو دراسة لتبعات القرار على الأوضاع المعيشية، بقي الدعم موجّهاً لعدد محدود من الشركات الكبرى في قطاعات التكرير والأسمدة والأسمنت والحديد والنسيج والسياحة والبناء، وخلاصة القول، هي القطاعات الأكثر استهلاكاً للطاقة وتلويثاً للبيئة. لا يبقي هذا التوزيع المنحرف، من الأسر إلى الشركات، فاتورة الدعم مرتفعة فحسب، بل يشوّه أيضاً هيكل الحوافز الاستثمارية، مفضلةً تحفيز الأنشطة كثيفة رأس المال والطاقة بدلاً من القطاعات الإنتاجية كثيفة التشغيل.
والأدهى من ذلك، لا تعالج الوثيقة مشكلات بنيوية في بيئة الاستثمار مثل تعدّد الإعفاءات الضريبية، وغياب قانون استثمار موحّد، أو استمرار ظاهرة هروب رؤوس الأموال إلى الخارج. وبسبب فشلها في ربط أيّ حوافز استثمارية بخلق فرص عمل لائقة، فإنّها تُكرّس واقع البطالة والتهميش وتوسّع الاقتصاد غير الرسمي منخفض الأجر.
وفي مثالها الأبرز، تُقدَّم السردية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس كنموذج يُحتذى به لجذب الاستثمار الأجنبي عبر حزمة من الامتيازات الضريبية والجمركية. غير أنّ أغلب هذه المشاريع، ومنها إنتاج الهيدروجين الأخضر وتصنيع مكوّنات السيارات، تُقام على سواحل البحر الأحمر، ما يهدّد ما تبقّى من بيئة بحرية كانت ثرية وتضرّرت بسبب التوسّع السياحي.
وهكذا يصبح «التحوّل الأخضر» غسيلاً بيئياً لتلميع صورة مشاريع ملوّثة تمنح رأس المال الدولي أرباحاً جديدة باسم الاستدامة.
لا انضباط مالي ولا عدالة اجتماعية
إنّ السردية المطروحة ليست في جوهرها سوى اجترار للمنطق المالي الصارم نفسه الذي اعتمده الصندوق، إذ تختزل المالية العامة في إجراءات محاسبية ضيّقة، وتتجاهل دورها الأساسي والدستوري كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
تركّز الوثيقة على خفض الدين العام وتحقيق فائض أولي وزيادة طفيفة في الإيرادات عبر تحسين الجباية، من دون أيّ توجّه نحو ضرائب تصاعدية أو أي إصلاح بنيوي للنظام الضريبي. وعلى الرغم من أنّ نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلّي لا تتجاوز 13 في المئة، وهي من بين الأدنى في الدول متوسطة الدخل، لا تقدّم الوثيقة خطّة لمعالجة هذا الخلل البنيوي أو لتفعيل دور الضرائب التوزيعي.
علاوة على ذلك، تتبنّى السردية مؤشّرات كمّية كأهداف نهائية، مثل تحقيق فائض أولي بنسبة 3,3 في المئة وإبقاء الدين الحكومي عند 81 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي، ومتوسط أجل استحقاق الدين عند 4,5 سنوات. غير أنّ التركيز على الأرقام يحجب الحقيقة: ففي الأعوام الماضية لم ينخفض الدين فعلياً، بل جرى الالتفاف عليه عبر الاقتراض من خارج الموازنة بموافقة ضمنية من الصندوق. والنتيجة أنّ الدين الخارجي ارتفع إلى ثلاثة أضعاف مستواه في العام 2015، فيما لا تُدرج الموازنة سوى نصفه سنوياً، بحسب أحدث تقرير للبنك المركزي.
كما اعتمدت الحكومة على أسعار الفائدة المرتفعة لجذب استثمارات الأجانب في أدوات الدين قصيرة الأجل، ما جعل الاستقرار المالي هشّاً ومعرّضاً للانهيار كلما انسحبت تلك الأموال. وبالفعل أدّى خروج استثمارات ثلاث مرّات في خلال العقد الماضي إلى أزمات متكرّرة في ميزان المدفوعات وانهيارات حادة في قيمة العملة. وبحلول منتصف العام 2025، تجاوزت هذه التدفقات 40 مليار دولار، وهو ما يعادل أكثر من أربعة أضعاف عائدات قناة السويس في أوجها، ما يعبّر عن اقتصاد قائم على الدين قصير الأجل بدل الاستثمار الإنتاجي.
والأخطر أنّ المشكلة لم تعد في حجم العجز المالي بل في وجهته. فبدل أن يموّل الإنفاق الاجتماعي أو يحفّز التشغيل اللائق، أصبح يُوجَّه في معظمه لسداد الفوائد. ارتفعت مدفوعات الفائدة إلى 87 في المئة من الإيرادات الضريبية، فيما تقلّصت حصص الأجور والتعليم والصحة. وبالتالي، يمكن استخلاص أنّ «الانضباط المالي» المزعوم لم يكن سوى مجرّد شعار أجوف، أو ما هو أسوأ من ذلك، ربما واقعاً فُرض حصراً على المواطن العادي، خصوصاً أنّ نسبة عجز الموازنة كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي بقي قريباً من مستواه قبل بدء برنامج صندوق النقد الأول. وهذا يعني أنّ مليارات الدولارات ضخّت عبر الاقتراض في الإنفاق الحكومي، لكن من دون أيّ أثر على العدالة الاجتماعية.
هل من أمل في الأفق؟
وخلاصة القول، لا تشير السردية الوطنية إلى قطيعة مع سياسات الصندوق بقدر ما تؤكّد استمرارها. فهي لا تزال أسيرة المنظور الكلّي الضيق الذي يغفل أزمات اللامساواة والتهرّب الضريبي والإجحاف في توزيع العبء الضريبي.
وتواصل الحكومة الرهان على السياسة النقدية وحدها لتحقيق الاستقرار، في حين تبقى السياسة المالية بلا إصلاحات حقيقية تمس جوهرها. وفي بارقة أمل، فتحت وزارة التخطيط نقاشاً مجتمعياً بشأن الوثيقة حتى نهاية نوفمبر 2025، مستقبلةً التعليقات عبر موقعها الإلكتروني وفي اجتماعات مع خبراء وطنيين. ويمكن لهذا الحوار، إذا جرى بجدية واستقلالية، أن يشكّل فرصة لإعادة النظر في نموذج التنمية في مصر وردم الهوّة بين تشخيص التحدّيات وصياغة الحلول البديلة. ولا تزال نتائج هذه العملية قيد الانتظار.
فالوثيقة، على الرغم من طابعها المحافظ، تتضمّن اعترافاً ضمنياً بمواضع الخلل التي أفرزها النهج السائد. ويبقى الأمل أن يتحوّل النقاش الجاري إلى منصّة لإعادة تعريف التنمية على أسس جديدة توازن بين الكفاءة الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.