على وقع المشاهد اليومية المروّعة في غزة، اتّخذ عدد من الدول الغربية قرار الاعتراف بدولة فلسطين. فبعد أن أقدمت إيرلندا وإسبانيا والنرويج على هذه الخطوة في العام 2024، تعهّدت كلّ من فرنسا وأستراليا بأن تحذوا حذوها في خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتّحدة في سبتمبر. كما عبّرت بريطانيا وكندا عن نيتهما القيام بذلك، وإنّ كان ذلك مشفوعاً بسلسلة من الشروط. باختصار، تشهد الخريطة الدبلوماسية تحوّلاً ملحوظاً. غير أنّ الاعتراف، في جوهره، ليس سياسة بحدّ ذاته، بل هو مجرّد باب يُفتح. فالعمل الحقيقي يبدأ في اليوم التالي.
يعيق مفهومان خاطئان النقاش. أولهما، الخلط بين الاعتراف وخطّة السلام، فيُعامل الاعتراف كما لو كان غاية بحدّ ذاته لا مجرّد أداة لتحقيق هدف. أمّا الثاني، فهو الاعتقاد بأنّ هذا الاعتراف قادر على إحياء صيغة الدولتين التي أُفرِغت من مضمونها بفعل الوقائع التي كرّستها إسرائيل على الأرض عبر عقود من الاحتلال العسكري والاستيطان. واليوم، يعيش أكثر من 700 ألف مستوطن إسرائيلي في مختلف أنحاء الضفّة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. وقد أدّت الجدران الفاصلة والمستوطنات والحواجز وشبكة كثيفة من الأوامر العسكرية إلى تمزيق النسيج الجغرافي وتقويض الولاية القانونية على حدّ سواء. وفي العام الماضي، صوّت الكنيست الإسرائيلي ضد إقامة دولة فلسطينية ولضمّ الضفة الغربية. وإذا أريد للاعتراف الدبلوماسي أنّ يؤدّي دوراً جوهرياً في عكس هذه التطوّرات، فعلى الحكومات التي تعلن اعترافها أن توائم بين القانون والتمويل وأدوات الضغط بما ينسجم مع النتيجة التي تزعم أنّها تسعى لتحقيقها.
ما الذي يتطلّبه ذلك؟
إنّ السبيل الوحيد لكسر الجمود في مسار حلّ الدولتين هو اتّخاذ خطوات تُجبر الحكومة الإسرائيلية على إعادة النظر في مسارها المتعنت نحو الضمّ وتحقيق مشروع «إسرائيل الكبرى». أولاً، يتعيّن على الحكومات المؤيدة لحلّ الدولتين أنّ تنتقل من الإجراءات الرمزية إلى فرض القانون الدولي. ينبغي أنّ يستند الاعتراف إلى أحكام المحاكم والهيئات الدولية، لا إلى «إجراءات بناء الثقة» المفتوحة التي تمتص الضغط من دون أن تفضي إلى نتائج ملموسة. وعلى الحكومات التي تعترف بدولة فلسطين أن تترجم هذا الالتزام إلى خطوات عملية، من خلال حظر أيّ دعم اقتصادي لمشروع الاستيطان وفرض قيود على استيراد منتجات المستوطنات وتطبيق تدابير موجّهة ضد الكيانات والأفراد الذين يسهّلون الضمّ ويمارسون العنف الاستيطاني ويرتكبون جرائم حرب بحق الفلسطينيين. فإذا كان يُراد للاعتراف أنّ يتجاوز حدود التصفيق، فعليه أنّ يغيّر بنية الحوافز التي تكرّس بقاء الوضع الراهن.
ثانياً، ينبغى على الدول التي تعترف بدولة فلسطين أنّ تقرن اعترافها بخطوات تُعيد التوازن إلى الخلل الفادح في ميزان القوى الهائل بين إسرائيل وفلسطين، لا أنّ تكتفي بمحاولة إحياء عملية سلام مختلّة من أساسها. فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، استندت هذه العملية إلى افتراض مفاده أنّ المفاوضات ستمنح الفلسطينيين قوة تفاوضية يفتقرون إليها أمام إسرائيل. غير أنّ الواقع أثبت أنّ الإطار المتفق عليه جعل الحقوق الفلسطينية رهينة جولات محادثات متتالية، من دون فرض أي كلفة على التوسّع الإسرائيلي. وإذا أُريد للاعتراف أنّ يحمل مضموناً حقيقياً، فيجب أنّ يقلب هذه المعادلة رأساً على عقب.
ثالثاً، تحتاج هذه الدول إلى دعم خارطة طريق موثوقة للحكم الفلسطيني، فكثير من العواصم تقرن قرارها بالاعتراف بدولة فلسطين بالمطالبة بإصلاح مؤسّسات الحكم الفلسطينية. لكنّ في غياب رؤية سياسية واضحة، تميل هذه الدول إلى وصفات مألوفة لكنّها مضلّلة وأثبت قصورها، تقضي بتمكين السلطة الفلسطينية وإجراء الانتخابات وإحياء حزم الإصلاح القديمة. وعلى الرغم من أنّ الإصلاح ضرورة لا غنى عنها، فلا يجوز أن يتحوّل إلى ذريعة لتكريس تبعية أعمق. والأجدر هو التركيز على ثلاثة عناصر أساسية وهي: (1) حماية الركيزة المؤسّسية للتمثيل الفلسطيني، بما يشمل، من دون أن يقتصر على، إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، والحفاظ على منظومة المجتمع المدني الفلسطيني المستقلة، لضمان أن تكون أيّ عملية انتقال ذات طابع سياسي لا إجرائي فحسب؛ (2) دعم بنية مالية خاضعة للمساءلة ومحصّنة من تدخّلات المانحين والسيطرة الإسرائيلية؛ (3) دعم مسارات موثوقة لتحقيق العدالة الانتقالية، مثل التوثيق وجبر الضرر وإنشاء آليّات معالجة التهجير ومصادرة الممتلكات. ينبغي لهذه الخطوات أن تكرّس حقوق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير، بما في ذلك حقهم في اختيار تمثيلهم السياسي وتجديده، أسوة بجميع الشعوب الحرة.
وأخيراً، تحتاج هذه الدول إلى أن تكون واضحة وصريحة بشأن ما يعنيه عملياً الوصول إلى دولة فلسطينية. تقوم الدبلوماسية الراهنة على افتراض أنّ الاعتراف سيؤدّي، بطريقة ما، إلى «إحياء» حلّ الدولتين، من دون توضيح صريح لما ينطوي عليه ذلك. وقد يشمل هذا وقف التوسّع الاستيطاني وإلغاء قرار ضمّ القدس الشرقية، وإقامة أراضي فلسطينية متصلة جغرافياً، ووضع جداول زمنية مُلزِمة لتحقيق الأهداف المنشودة. وإذا تعذّر تحقيق هذه الشروط، فعلى المجتمع الدولي أن يتخلّى عن الخطاب الفارغ المؤيّد لحلّ الدولتين، لا يوفّر سوى غطاء للواقع الاستيطاني القائم. وعلى الرغم من أنّ خيار الدولة الديمقراطية الواحدة القائمة على المساواة في الحقوق، ليس المفضّل لدى معظم العواصم، فإنّه يبقى البديل المنطقي والأخلاقي إذا كان المبدأ المنظم هو المساواة لا الامتيازات العرقية الدينية ونظام الفصل العنصري. ففي كلّ الأحوال، الوضوح خير من المراوغة.
لا تتطلّب هذه الخطوات ابتكار دبلوماسية جديدة، فكل ما يلزم هو أن تفعل الحكومات في فلسطين ما تزعم فعله في أماكن أخرى، أيّ الدفاع عن حقوق الشعوب الضعيفة، وفرض الحماية من العقاب الجماعي والإبادة، وصون المجتمع الفلسطيني واقتصاده من النهب الاستيطاني الاستعماري، ورفض تمويل نظام قمعي عابر للحدود.
تربط بريطانيا وكندا، وأستراليا بشكل متزايد، اعترافها بدولة فلسطين بمطالب إصلاح السلطة الفلسطينية وفرض معايير أمنية مرنة. غير أنّ هذه المراوغة سياسة لا خطة. وأسرع طريقة لإفراغ الاعتراف من جوهره هي إعلانه من دون معالجة العقبات الجوهرية أمام قيام الدولة فلسطينية. فالاعتراف الذي لا يغيّر سلوك المحتلّ أو المستوطنين أو الداعمين الغربيين لإسرائيل هو مجرّد نعي لا اختراقاً سياسياً. فهو يحافظ على الوضع الراهن الذي يتدهور يومياً.
وبالنظر إلى مسار السياسة الغربية في خلال العقود الثلاثة الماضية، من المعقول اعتبار الاعتراف بدولة فلسطين مجرّد لفتة شكلية تهدف إلى التخفيف من وطأة الضغوط المتزايدة لوقف إراقة الدماء والمجاعة في غزة. ولا يُولَى إلّا قدر ضئيل من الاهتمام لما سيجري بعد الاعتراف. وبصراحة، إذا أعقب الاعتراف بدولة فلسطين تقاعسٌ عن اتّخاذ خطوات عمليّة ملموسة، فلن يكون ذلك جهداً دبلوماسياً حقيقياً، بل شهادة إذعان أمام الواقع القائم. وفي أحسن الأحوال، يعبّر عن اعتراض شكلي على سلوك إسرائيل. وفي أسوئها، يتحوّل إلى خطاب فارغ متواطئ مع الأجندة الإسرائيلية غير الأخلاقية وغير القانونية.