لأكثر من عقد من الزمن، ظلّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يحذّر العالم من طموحات إيران النووية، متهماً طهران مراراً بأنّها على وشك امتلاك قنبلة نووية، ومديناً المساعي الدبلوماسية واصفاً إياها بالاستسلام، ومتعهّداً بعدم السماح لإيران بأن تصبح قوّة نووية. ومع ذلك، وعلى الرغم من التهديدات المتواصلة وخطط الحرب المسرّبة والاستعراضات السياسية في الأمم المتّحدة والكونغرس الأمريكي، لم تُقدم إسرائيل قط على استخدام القوّة العسكرية خارج إطار العمليات السرّية.
لكن الأمر تغيّر في 13 يونيو الجاري. وبينما كان المفاوضون الإيرانيون والأمريكيون يستعدون للاجتماع في عُمان في اليوم التالي لعقد الجولة السادسة من المحادثات الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي، شنّت المقاتلات الإسرائيلية ضربة منسّقة على الأراضي الإيرانية.
لا يعدّ الهجوم الإسرائيلي المتواصل مجرّد ردّ فعل على التقدّم النووي الإيراني أو على احتمال التوصّل إلى اتفاق دبلوماسي مع الولايات المتّحدة، بل هو النتيجة المنطقية لتحوّل إستراتيجي أوسع بدأ في 7 أكتوبر 2023. ففي ذلك اليوم نفّذت حركة حماس هجومها المدمّر عبر الحدود، وهزّت العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وأدّت إلى تحوّل سياسي عميق. وردّاً على ذلك، شرعت إسرائيل في حربها على غزّة، متجاهلة الأعراف الدولية وضوابط الاستخدام الإستراتيجي للقوّة، وتبنّت سياسات توسّعية في لبنان وسوريا. لقد أعادت حكومة نتنياهو تعريف التهديدات الوجودية ورسم حدود القوّة المقبولة.
باختصار، انتقلت الدولة من لاعب يحافظ على الوضع القائم إلى قوّة تعيد تشكيل الواقع، كما فعلت في محطّات مفصلية من تاريخها. وقد أسفر هذا التحوّل عن عواقب وخيمة على كامل منطقة الشرق الأوسط، التي باتت اليوم على حافة حرب شاملة.
إسرائيل كقوة محافظة على الوضع القائم
هناك تعريفات متعدّدة ومتعارضة لمفهوم «الإستراتيجية الكبرى»، لكن تعريف باري بوزن هو أكثرها دقة، إذ يصفها بأنّها «نظرية الدولة القومية في كيفية تحقيق أمنها الذاتي».
وهذا لا يعني أنّ الدولة تمتلك أو تحتاج إلى خطّة مُحكمة جاهزة مسبقاً تحدّد كيفية استجابتها إزاء كلطارئ، بل إنّ الإستراتيجية الكبرى هي نتاج تراكم التصوّرات الراسخة والانحيازات والتجارب التاريخية، أو بمعنى آخر بمثابة آليّة إرشادية تولّد ردّ فعل تلقائي. ومن هذه الزاوية، لا تعني كلمة «كبرى» أنّها «جيّدة» بالضرورة، ولا يعني مجرّد استجابة الدولة للمحفّزات الخارجية بطريقة ثابتة أنّ إستراتيجيتها الكبرى ناجعة أو فعّالة. إذ أنّ الاعتماد على المسار السابق له تأثير قوي، وغالباً ما تكون النظريات خاطئة.
بعد «حرب الأيام الستة» في العام 1967، أصبحت إسرائيل قوّة مهيمنة إقليمياً، متفوقة عسكرياً على جميع جيرانها، فوسّعت رقعة سيطرتها الإقليمية إلى أربعة أضعاف مساحتها الأصلية. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تسعى إسرائيل إلى تثبيت هذا الواقع عبر التحوّل إلى قوّة محافظة على الوضع القائم.
راودت إسرائيل نزعة تغييرية عندما غزت لبنان في العام 1982، في إطار خطّة متغطرسة ترمي إلى إعادة ترتيب النظام الإقليمي جذرياً. ولكن انتهت تلك المغامرة بكارثة. وعلى المستوى النظري، في حين تبدو إستراتيجية الاستيطان الإسرائيلية ذات طابع تغييري لأنها تهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية للضفّة الغربية جذرياً، غير أنّها في الحقيقة سياسة محافظة تسعى لإدامة الواقع الغامض لتلك الأراضي، وهو واقع يتوارى فيه مفهوم الاحتلال المؤقت، ليحلّ محله واقع أشبه بمأسسة الضمّ والفصل العنصري بحكم الأمر الواقع، إن لم يكن بحكم القانون.
مثّلت عودة نتنياهو إلى السلطة وسدّة الحكم في العام 2009 ذروة التحوّل الإسرائيلي نحو تبنّي إستراتيجية كبرى للحفاظ على الوضع القائم. فقد أنهت إسرائيل تجربتها القصيرة في الانسحابات الإقليمية المحدودة. وأبقى نتنياهو السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية، لكنّه حرص على منعها من تعزيز قوّتها أو نفوذها على أراضيها. وبالمثل، سهّل تدفّق الوقود والأموال لضمان بقاء حركة حماس في السلطة في غزّة. وهكذا نشأت عقبة مصطنعة، عنوانها «فلسطين منقسمة»، ما مثّل ذريعة ظاهرية لإسرائيل للتهرّب من السعي إلى حلّ الدولتين.
كما أبقت هذه السياسة الحركتين الفلسطينيتين المتنافستين (فتح وحماس) في الموضع الذي تريده لهما إسرائيل تماماً: ضعيفتين ومنزوعتَي الشرعية إلى حدّ لا يؤهّلهما لأن تكونا نواة لدولة مرتقبة، لكن قويتين بما يكفي للقيام بكل ما لا ترغب إسرائيل في القيام به بنفسها، مثل حفظ الأمن وتقديم الخدمات لسكان كلّ منطقة. ففي كلّ من غزّة والضفّة الغربية، أوكلت الإستراتيجية الكبرى لإسرائيل مهمة إدارة الإقليم إلى أطراف أخرى، مع احتفاظها بسيطرتها من خلف الكواليس.
لقد كانت هذه الإستراتيجية الكبرى كارثية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة. ولكنّها عنت أيضاً عدم مبادرة إسرائيل إلى إشعال حرب إقليمية، لأنّها لم تكن ترى فيها مصلحة وطنية. وبدلاً من ذلك، استخدمت إسرائيل قوّتها العسكرية لـ«جزّ العشب» بين الحين والآخر، أي القضاء على التهديدات التي قد تعرقل الوضع القائم من دون استئصالها بالكامل. ولهذا السبب ندّد نتنياهو بمجموعة واسعة من الخصوم، بدءاً من النظام الإيراني ومروراً بسوريا الأسد وحماس ووصولاً إلى حزب الله، من دون أن يتّخذ خطوات فعلية للقضاء عليهم. فقد بدا أنّ إسرائيل بوسعها المحافظة على الوضع القائم والاستفادة منه في الوقت نفسه، دون أن تخسر شيئاً.
التحوّل نحو النزعة التغييرية
لقد نجحت هذه الإستراتيجية مع إسرائيل حتى بطل مفعولها وخذلتها. فقد كشفت هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023 مدى سوء تقدير إسرائيل لقدرات الحركة واستخفافها بها، ومبالغتها في تقدير قدرتها على إرغام خصومها على القبول بوضع قائم لا يخدم مصالحهم.
نادراً ما تتغيّر الإستراتيجيات الكبرى. إذ يتطلّب الأمر محفّزاً خارجياً صادماً، مثل هجمات 7 أكتوبر، كي تدفع قطاعاً واسعاً من الرأي العام والنخب إلى التشكيك في المسلّمات والتصوّرات الموروثة التي تعزّز الجمود الإستراتيجي. وتماماً كما دفعت هجمات 11 سبتمبر إدارة جورج بوش الابن الأمريكية إلى التخلّي عن إستراتيجية كبرى قائمة على الانكفاء، فإنّ الأمر يتطلّب لحظات وطنية مفصلية مماثلة لدفع الفاعلين الرئيسيين إلى التفكير في خيارات لم تكن واردة في السابق.
تكمن المشكلة في أنّ الأفكار ليست جميعها متساوية في جوهرها أو قيمتها. فمن مواقعهم المتميّزة، لم يفوّت وزراء اليمين المتطرّف، أمثال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، فرصة لملء الفراغ الإستراتيجي الكبير برؤيتهم التحوّلية للمنطقة. ولهذا، فإنّ دعوات بعض الوزراء الإسرائيليين للتطهير العرقي وارتكاب الإبادة الجماعية في غزّة، بالتزامن مع الضمّ الرسمي للضفّة الغربية وأجزاء من لبنان وسوريا، ليست مجرّد تهديدات جوفاء، فالأصوات التي تروّج لهذه السياسات لم تعد أصواتاً هامشية.
في الضفة الغربية، وافقت إسرائيل على إنشاء 22 مستوطنة جديدة ستعزّز، بحسب تعبير سموتريتش، «السيادة الفعلية» لإسرائيل في تلك المنطقة. ولم تمضِ سوى أيام قليلة على هجمات 7 أكتوبر حتى صرّح وزير الخارجية آنذاك إيلي كوهين بأنّ «مساحة قطاع غزة ستتقلّص». وفي حين أعلن الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع أنّ إدارته لا تضمر نوايا عدائية تجاه إسرائيل، ردّت الأخيرة باحتلال مزيد من الأراضي السورية وتهجير المدنيين السوريين وشنّ عدد غير مسبوق من الغارات الجوية.
لقد تخلّت إسرائيل عن إستراتيجيتها الكبرى القائمة على الحفاظ على الوضع القائم لصالح إستراتيجية تغييرية. ويشبه منظورها وسلوكها اليوم إلى حدّ كبير السلوك المزعزع للاستقرار الذي طالما نسبتّه إلى إيران. وبدلاً من الاكتفاء بسياسة «جزّ العشب»، باتت تستخدم القوة العسكرية لتحقيق هدف مختلف، وهو إعادة صياغة ميزان القوى الإقليمي وفرض واقع جديد في المنطقة.
وهذا التحوّل الإستراتيجي هو ما يفسّر الضربات الإسرائيلية الأخيرة ضدّ إيران. فلا حدود جغرافية بين إسرائيل وإيران، ولا سموتريتش وأمثاله يطمحون إلى السيطرة على أراضٍ إيرانية. غير أنّ حكومة إسرائيل تطبّق إستراتيجيتها التغييرية الكبرى القائمة على استخدام القوة لمواجهة «التهديد الإيراني». وكان ذلك جلياً، على سبيل المثال، حين صرّح وزير الدفاع يسرائيل كاتس بأنّ إسرائيل ستحوّل طهران قريباً إلى «بيروت» ثانية.
وقد دافع أنصار إسرائيل عن هذه الضربات بزعم أنّها «استباقية». وهذا صحيح، لكن ليس بالصورة التي يروّجون لها. فقد شنّت إسرائيل ضربتها لا لإحباط هجوم وشيك، بل لإفشال أي اتفاق نووي بين إيران والولايات المتّحدة. في السابق، فبعد أن استخدم نتنياهو الدبلوماسية لإجهاض الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) في العام 2018، ها هو اليوم يستخدم القوة العسكرية الأحادية لتحقيق الهدف نفسه.
نتنياهو يسعى إلى لحظة مماثلة للعام 1967
يُعدّ نتنياهو تاريخياً من أكثر زعماء إسرائيل تحفظاً لخوض الحروب. ومن الصعب تصوّر أنّه يتبنّى فعلياً الرؤية العدوانية نفسها التي يعتنقها بعض وزرائه في الحكومة. لكن سواء شاركهم هذه الرؤية أم لا، لم يعد الأمر مهماً كثيراً، لأنّ هجمات 7 أكتوبر أدّت إلى تقاطع المصالح بين نتنياهو وشركائه المولعين «بإثارة الأزمات والحروب». وبمجرّد أن تضع الحرب أوزارها، سيكون تشكيل لجنة تحقيق أمراً لا مفرّ منه، ومن المرجّح أن تحمّله مسؤولية الفشل في توقّع الهجمات أو الحدّ من آثارها.
ولتفادي هذه المحاسبة، يظن نتنياهو أنّه يحتاج إلى تقديم نصر تاريخي للشعب الإسرائيلي يُضاهي نصر «حرب الأيام الستة». إذ أنّه يسعى إلى تحقيق لحظة مماثلة لتلك المحقّقة في العام 1967، كي يبرّئ ساحته أمام الرأي العام. وليس صدفة أنّ هذه الحرب أدّت مراراً إلى تأجيل محاكمته الجارية بتهم الفساد. ولهذا السبب تحوّل نتنياهو بين ليلة وضحاها من زعيم حذِر يكره المخاطرة إلى مقامر متهوّر.
ويفسّر السعي وراء «لحظة مماثلة لعام 1967»، تعهّد نتنياهو بصناعة «شرق أوسط جديد» تتخلّص فيه إسرائيل نهائياً من «مشكلة غزة» وتُخضِع إيران إما بالقوة إلى حدّ الاستسلام أو بإسقاط النظام، ما يزيل العقبة الأخيرة أمام هيمنتها الإقليمية، قبل تطبيع علاقاتها مع جيرانها. وسيتجاوز تحقيق مثل هذا الإنجاز انتصار 1967 نفسه، إذ سيجمع بين النجاح العسكري وتحقيق مكاسب سياسية مثالية، وعلى الرغم من أنّ هذه الرؤية الطوباوية مستبعدة بقدر ما تبدو حالمة، إلّا أنّ نتنياهو يبذل قصارى جهده لإقناع جمهوره بأنّ إسرائيل قادرة على الجمع بين «حرب أبدية» واندماج إقليمي في الوقت نفسه. ومن أجل ضمان بقائه السياسي، تخلّى نتنياهو عن سياسة الحفاظ على الوضع القائم ليصبح تغييرياً متطرّفاً من أسوأ الأنواع. وبشنّه هجمات على إيران، فقد زج بالمنطقة في أتون مواجهة مفتوحة إلى أجل غير مسمّى ومن دون مخرج واضح يلوح في الأفق.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.