بكل المقاييس المتعارف عليها للرئاسة الأمريكية، كانت الأيام المئة الأولى من الولاية الثانية لدونالد ترامب حافلة بالتطوّرات، لا بل صاخبة بكل ما للكلمة من معنى. من تفكيك مؤسّسات حكومية، إلى فرض سياسات تجارية حمائية، ووصولاً إلى إطلاق مفاوضات مع إيران وروسيا، شكّلت أجندة ترامب المبكرة تحوّلاً كبيراً في المقاربة الأمريكية، وامتدّت تداعياتها إلى ما هو أبعد من حدود الولايات المتحدة لتطال مناطق متعدّدة، وفي مقدّمها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ولفهم ما حملته هذه الأسابيع الخمسة عشرة للمنطقة، وما قد تنذر به السنوات الأربعة المقبلة، يقدّم هذا العدد من آراء من المجلس تحليلات للزملاء في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وتتناول هذه المساهمات تبعات السياسات الأمريكية الجديدة على قضايا محورية في المنطقة، من الرسوم الجمركية وسياسات الطاقة وانعكاساتها على الاقتصادات الخليجية، إلى العقوبات على سوريا ومستقبل غزّة.
عمر حسن عبدالرحمن، رئيس التحرير
الجدول
سياسات ترامب الجمركية وتبعاتها على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – نادر القبّاني
الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وانهيار منظومة المساعدات الأمريكية الخارجية – بول داير
ما الذي يمكن توقّعه من زيارة ترامب إلى الخليج؟ – فريدريك شنايدر
التصعيد الأمريكي في الشرق الأوسط: نجاحات آنية ومخاطر طويلة الأمد – راشد المهنّدي
من الضغط إلى المحادثات: إحياء الدبلوماسية الأمريكية الإيرانية – حميد رضا عزيزي
مسار الأقلّ معارضة والأكثر قمعاً – معين ربّاني
إعادة صياغة أطر التحالف في الخليج – روري ميلر
نهاية العلاقة: أوروبا بمفردها – دالية غانم
الدول الخليجية حريصة على تحقيق توازن في علاقاتها مع الصين والولايات المتّحدة – عادل عبد الغفّار
الجمود السوري تحت إدارة ترامب يُقوّض انتقال البلاد نحو الاستقرار – حايد حايد
أردوغان وترامب، مجدّداً: بين الثناء التكتيكي والخطر السياسي – أوزغي غينج
المغرب العربي في خضمّ المنافسة الأمريكية الصينية: رقصة إستراتيجية على الحبال الجيوسياسية – يحيى زبير
سياسة ترامب تجاه إيران: تصعيدٌ مستمر أم فرصٌ للدبلوماسية – محجوب الزويري
الحملة العسكرية الأمريكية ضدّ جماعة الحوثي: بين الواقع والمستقبل – فوزي الغودي
سياسات ترامب الجمركية وتبعاتها على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
منذ تولّي ترامب منصبه في يناير 2025، لجأت إدارته الجديدة إلى التهديد بفرض رسوم جمركية أعلى كأداة تفاوضية لإبرام اتفاقيات تجارية جديدة وانتزاع تنازلات سياسية من مختلف دول العالم، سواء من الحلفاء أو الخصوم. استهدفت هذه السياسات في بدايتها أقرب الجيران، كندا والمكسيك، في محاولة للضغط عليهما لبذل المزيد من أجل الحدّ من تدفّق المخدّرات والمهاجرين إلى الولايات المتّحدة. وفي 2 أبريل، أعلنت الإدارة الأمريكية فرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة على معظم الدول، مع فرض رسوم إضافية على الدول التي تسجّل فوائض تجارية كبيرة مع الولايات المتّحدة. وعلى الرغم من أنّ الإدارة الأمريكية جمّدت تنفيذ بعض الإجراءات ريثما تنتهي من التفاوض على اتفاقيات تجارية ثنائية، ستترك إستراتيجيتها تبعات طويلة الأمد على الاقتصاد العالمي، وكذلك على منطقتَي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بالنسبة إلى معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لن تُحدث الرسوم المقترحة تأثيرات مباشرة كبيرة، إذ تتمتّع اقتصادات المنطقة بمعظمها بمحافظ تجارية متوازنة نسبياً، بل وقد يستفيد بعض هذه الدول على المدى القصير. تستحوذ الولايات المتّحدة على نحو 4 في المئة فقط من إجمالي صادرات المنطقة. وفي الواقع، لم تُفرض رسوم جمركية تتجاوز الحدّ الأساسي البالغ 10 في المئة إلّا على ست دول من المنطقة وهي سوريا (41 في المئة)، العراق (39 في المئة)، ليبيا (31 في المئة)، الجزائر (30 في المئة)، تونس (28 في المئة)، والأردن (20 في المئة). ومن بينها، يُعدّ الأردن الدولة الوحيدة التي تواجه انكشافاً تجارياً كبيراً أمام الرسوم الأمريكية، نظراً لصغر حجم اقتصاده واعتماده النسبي على السوق الأمريكية في إطار اتفاقية التجارة الحرّة الموقّعة مع واشنطن. فقد وجّه الأردن أكثر من 22 في المئة من صادراته إلى السوق الأمريكية في العام 2022، ما يضعه أمام تحدٍّ لإعادة التفاوض على الاتفاق من دون الإضرار بمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية.
أمّا التأثيرات غير المباشرة، فهي التي تُثير القلق الأكبر لبقية دول المنطقة. أولاً، سيؤدّي رفع الحواجز التجارية إلى زيادة تكاليف الإنتاج عالمياً ويقلّص الطلب الكلّي، ما قد يُفضي إلى ركود اقتصادي عالمي سيطال الجميع. ثانياً، ستتأثّر الدول المصدرّة للطاقة بشكل خاص. في أبريل 2025، تراجع سعر خام برنت إلى ما دون 65 دولاراً للبرميل، ليسجّل أدنى مستوى له منذ العام 2021، بعد أن بلغ متوسّطه السنوي 81 دولاراً في العام 2024. لا يؤثر تراجع أسعار الطاقة في الدول المنتجة للنفط فحسب، بل يطال أيضاً الاقتصادات غير النفطية التي تعتمد على التحويلات المالية والاستثمارات والمساعدات التنموية من جيرانها المنتجين للنفط. ثالثاً، ستتسبّب إعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية في موجات ارتدادية. على سبيل المثال، قد تُضعف زيادة صادرات الغاز الطبيعي الأمريكي إلى الأسواق الآسيوية الطلب على صادرات الدول الخليجية. وللحدّ من هذه التداعيات السلبية، ينبغي على اقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن تسرّع من خطوات التكامل الإقليمي وتوسّع حجم التجارة البينية في ما بينها. كما يتعيّن عليها تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول الجنوب العالمي، سعياً لبناء شراكات أكثر توازناً واستدامة.
الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وانهيار منظومة المساعدات الأمريكية الخارجية
اتّخذت إدارة ترامب خطوات مبكرة وحازمة ضدّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. بالنسبة إلى ترامب، لقد بعث إغلاق الوكالة رسالة قوية إلى قاعدته الانتخابية تؤكّد التزامه بأجندة “أمريكا أولاّ” بكلفة سياسية ضئيلة للغاية، نظراً لانخفاض مستوى الاهتمام المحلّي بالمساعدات الخارجية، مقارنةً بالتخفيضات التي طالت شبكات الأمان الاجتماعي والدفاع. أمّا بالنسبة إلى مجتمع المساعدات الدولي والدول التي تعتمد على المساعدات الأمريكية الخارجية، فقد شكّل هذا الإجراء صدمة خلّفت آثاراً فوريّة على تمويل المشاريع ورفاهية المستفيدين، إن لم تمس حياتهم ذاتها.
لقد وقع عبء خفض تمويل المساعدات الإنسانية والتنموية على كاهل الفئات السكّانية الأشدّ هشاشة، التي تكافح لتلبية احتياجاتها الأساسية في ظلّ الصراعات والكوارث الطبيعية في مختلف أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان الأثر مدمرّاً بشكل خاص على اللاجئين وسكّان قطاع غزّة والعراق وسوريا واليمن، حيث كانت الولايات المتّحدة تقدّم جزءاً كبيراً من المساعدات الدولية. كما طال تأثير التخفيضات في المساعدات التنموية المنطقة بأسرها، لا سيّما الأطفال والشباب والنساء، بعدما توقّفت فجأةً البرامج التي تركّز على التعليم والرعاية الصحّية وريادة الأعمال والحصول على التمويل والمجتمع المدني وغيرها من الركائز الأساسية للتنمية الاقتصادية.
وفي أعقاب تعليق المساعدات، أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عن استثناءات لتوزيع المساعدات الإنسانية، غير أنّ هذه التوزيعات لم تتحقّق بسبب انهيار القدرات المؤسّسية والصراعات الإدارية الداخلية، فضلاً عن مقاومة وزارة كفاءة الحكومة. وفي تجلٍ لهذه الفوضى السياسية، ألغت الإدارة الأمريكية رسميّاً عقود برنامج الأغذية العالمي مطلع أبريل الحالي، لكنّها عادت وجدّدت تمويل البرنامج في الإكوادور والعراق والأردن ولبنان وسوريا في خلال أسبوع واحد. وفي الوقت نفسه، حجبت الإدارة التمويل عن أفغانستان وقطاع غزّة واليمن بهدف ممارسة ضغوط سياسية على طالبان وحماس والحوثيّين.
على المدى البعيد، سيُلحق نهج ترامب تجاه المساعدات ضرراً بمصالح الولايات المتّحدة أكثر من أيّ مكان آخر. وستتولّى أوروبا والصين ومجموعة البريكس ودول أخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مهمّة ملء هذا الفراغ، فيما تعزّز مواقعها الإقليمية والعالمية. إنّ تخلّي واشنطن عن المساعدات كأداة محورية من أدوات قوّتها الناعمة، سيمنح المنافسين الدوليّين مزيداً من النفوذ، ويقوّض مصالحها في مجال القوّة الصلبة من خلال خلق بيئات محفوفة بالهشاشة والصراع. وعلى الرغم من أنّ الإدارة بدأت في إرسال جزء من المساعدات المحدودة التي أقرّتها، غير أنّ الشروط الانتهازية التي فرضها ترامب على هذه المساعدات ستضعف الدعم الشعبي للولايات المتّحدة في الدول المتلقّية، في حين تعزّز من شعبية خصومها.
ما الذي يمكن توقّعه من زيارة ترامب إلى الخليج؟
رحلة الرئيس ترامب الخارجية الأولى ستكون إلى الدول الخليجيّة، مع محطّات في المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتّحدة و”أماكن أخرى“. ويرجّح أن يكون قرار التوجّه إلى الرياض، التي كانت أيضاً أولى محطّاته في ولايته السابقة، مدفوعاً بإعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن استثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي. أمّا الإمارات العربية المتّحدة، التي لم تشأ أن تكون أقلّ شأناً، فقد تعهّدت باستثمار 1,4 تريليون دولار، أي ما يعادل نحو ثلاثة أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي. ومع أنّ توقيت هذه التصريحات جاء ملائماً لمساعدة ترامب على تجاوز أزمة تراجع ثقة المستثمرين، تبقى جديّتها موضع شكّ.
إلى جانب ضخّ الأموال الخليجية في الاقتصاد الأمريكي، سيكون أمام ترامب والأطراف الأخرى الكثير من القضايا المُلحّة للنقاش. وعلى الرغم من بقاء الدول الخليجية بعيدة عن تقلّّبات الحرب التجارية التي أطلقها ترامب، إلّا أنّها لن تستفيد كثيراً في حال اندلعت أزمة اقتصادية عالمية. وبعد الارتفاع الذي شهده سعر النفط في أعقاب حرب أوكرانيا، انخفض بشكل حادّ إلى مستويات متدنّية للغاية بالنسبة إلى كلٍّ من ترامب ومحمد بن سلمان على حدّ سواء، على الرغم من غياب أي مسار عمل مُتفق عليه بين الطرفين.
بشكل عام، تأتي زيارة ترامب في وقتٍ لم تعد فيه واشنطن تملك الكثير لتقدّمه للدول الخليجية. فعلى الصعيد الاقتصاديّ، تراجعت حركة التجارة بين الجانبين، وباتت صادرات دول مجلس التعاون الخليجي إلى الولايات المتحدة شبه معدومة، فيما تجاوزت الصين الولايات المتّحدة لتصبح المصدر الأكبر للواردات الخليجية. علاوة على ذلك، تواجه واردات الأسلحة الأساسية من الولايات المتّحدة عقبات متزايدة تتعلّق بفرض قيود على استخدامها وإلغاء الصفقات وحظر التصدير، في حين أنّ بعضها، مثل أنظمة الدفاع الجوي ومقاتلات “F-35“، لا يحقق أداءً جيداً مقارنةً بأسعارها الباهظة.
أمّا من الناحية الجيوسياسية، فقد تراجعت قيمة الحماية العسكرية الأمريكية. لقد أظهرت الهجمات الناجحة التي شنّها الحوثيون على منشآت النفط السعودية، بالإضافة إلى استمرارهم في تعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر، الحدود التي وصلت إليها هذه الحماية. وعلى الرغم من الجهود المبذولة لهزيمة الحوثيين، لا يزالون يشكّلون خصماً عنيداً لكلّ من الولايات المتّحدة والمملكة العربية السعودية.
في المقابل، قوبلت “خطة” ترامب بشأن غزّة بتحفظّات عربية. إذ تُصرّ المملكة العربية السعودية وقطر على أنّ أيّ اتفاق يجب أن يتضمّن إقامة دولة فلسطينية، وهو هدف بعيد المنال في ظلّ غياب حلّ الدولتين منذ زمن طويل. أمّا في ما يتعلّق بإيران، فسترحّب حكومات الدول الخليجية بأي تهدئة، لكنّها في الوقت نفسه تخشى من تقويض جهود التقارب التي بذلتها على مدى سنوات في حال فشلت المحادثات الأمريكية الإيرانية واحتفظ صقور الحرب في واشنطن بتأثيرهم.
بشكل عام، إنّ الدول الخليجية متردّدة في منح الولايات المتّحدة ثقتها تحت قيادة ترامب، نظراً لاستعداده للانقلاب على حلفائه السابقين. ونتيجةً لذلك، اتّجه الطرفان نحو الصين. وقد قامت دول المجلس بذلك بطريقة ودّية، من خلال تعزيز التجارة، وبيع النفط بالرنمينبي، واستثمارات مبادرة الحزام والطريق، وتوطيد العلاقات مع مجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، بينما اتّخذت الولايات المتّحدة موقفاً عدائياً. وبالتالي، تظل النتائج المحتملة للمحادثات المقبلة مع رئيس معروف بـ”تردّده الإستراتيجي” موضع تساؤل.
التصعيد الأمريكي في الشرق الأوسط: نجاحات آنية ومخاطر طويلة الأمد
في الأيام المئة الأولى من ولاية ترامب الثانية، شهد التدخّل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط تصاعداً ملحوظاً، ما أعاد رسم المشهد الأمني الإقليمي واختبر التزامات واشنطن الدفاعية. ويعزى هذا النهج المتجدّد إلى إستراتيجية “السلام من خلال القوّة” التي أُعيد إحياؤها، ولكن بأسلوب أقلّ حدّة، على غرار مقاربة ريغان، حيث تُعتبر القوّة الساحقة أداة الردع القصوى. وتشير الغارات الجوّية الأمريكية في اليمن، وإعادة تصنيف الحوثيين كمنظّمة إرهابية، وتزايد الضغوط على إيران، إلى إعادة فرض متعمّدة للهيمنة الأمريكية. فموقف ترامب واضح: ردع الخصوم وطمأنة الحلفاء وإعادة ترسيخ الهيمنة الأمريكية في منطقة متعدّدة الأقطاب ومجزّأة.
وفي حين رحّب الشركاء الإقليميون، مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى حدّ كبير بعودة الولايات المتحدة القوية، بدأت تكاليف هذا النهج بالظهور تدريجياً. فقد بات الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل، ولا سيما في ظلّ استمرار عملياتها العسكرية في غزّة والضفّة الغربية، يشكّل نقطة اشتعال إقليمية. وعلى الرغم من تغليف هذه الإجراءات بذرائع تتعلّق بالأمن القومي، يُنظر إليها على أنّها مدفوعة بحسابات سياسية داخلية، وتهدف إلى دعم القيادة الإسرائيلية تحت وطأة الضغوط الداخلية، أكثر ممّا تسعى لتحقيق استقرار بعيد المدى. وجاءت النتيجة تصاعد الشكوك في العالم العربي، وارتفاع منسوب الغضب الإقليمي، وازدياد التقلّبات، ليغدو الدور الأمريكي أقرب إلى مفاقمة الصراع منه إلى تهدئته.
وتساهم التهديدات الأمريكية بقصف طهران في حال فشل المفاوضات النووية، فضلاً عن تعزيز الوجود البحري الأمريكي في البحر الأحمر والدعم الصريح للعمليات الإسرائيلية جميعها في خلق بيئة قابلة للاشتعال. وعلى الرغم من النجاح النسبي في كبح التهديدات المسلّحة، قد يساهم الاعتماد على الردع من دون مسار دبلوماسي فعّال في تحويل الأزمة إلى سباق محموم نحو خطأ إستراتيجي قاتل.
ويبقى السيناريو الأفضل للولايات المتّحدة هو أن تجبر سياسة “الضغط الأقصى” إيران وحلفاءها الإقليميين على إعادة تقييم مواقفهم لتحقيق التهدئة وتعزيز البنى الأمنية المتحالفة مع الولايات المتّحدة. أمّا في أسوأ السيناريوهات، فقد تُشعل خطوة خاطئة واحدة، مثل ضربة انتقامية من إيران أو تجاهها أو في بؤرة توتّر إقليمية خارجة عن السيطرة، صراعاً مفتوحاً يجرّ حلفاء واشنطن ويُجبر الولايات المتحدة على خوض حرب باهظة التكلفة. ومع ذلك، فإنّ السيناريو الأكثر احتمالاً هو دخول المنطقة في فترة طويلة من سياسة حافة الهاوية، حيث تُستخدم القوّة لإدارة التهديدات بدلاً من حلّها، وتصبح التحالفات أكثر صلابة، فيما تبقى التقلّبات قائمة، وتكون إعادة انخراط أمريكا في المنطقة ردعاً قصير المدى على حساب السلام المستدام.
من الضغط إلى المحادثات: إحياء الدبلوماسية الأمريكية الإيرانية
وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فور عودته إلى البيت الأبيض أمراً تنفيدياً باستئناف حملة “الضغط الأقصى“ على إيران. وكما في ولايته الأولى، تركّز هذه السياسة على تشديد القيود الاقتصادية، لا سيّما تلك التي تستهدف صادرات النفط الإيرانية، في محاولة لإرغام الجمهورية الإسلامية على تغيير سلوكها الإقليمي وطموحاتها النووية.
وعلى الرغم من تجديد الضغوطات، أبدى ترامب رغبة في فتح المسار الدبلوماسي. وبينما أكّد أنّه لا يجوز لإيران امتلاك أسلحة نووية أبداً، عبّر عن تفضيله حلّ هذه القضية عبر التفاوض بدلاً من المواجهة العسكرية. وفي خطوة دبلوماسية بارزة، أرسل ترامب رسالة مباشرة إلى المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي. وعلى عكس رسالة مشابهة وجّهها في العام 2018، لقيت هذه الرسالة ردّاً عبر وساطة عُمانية، ما مهّد الطريق أمام ثلاث جولات من المفاوضات الثنائية، الأولى في مسقط، والثانية في روما، والثالثة في مسقط مجدداً.
اتّسم توقيت إعلان ترامب عن المحادثات بأهمية بالغة. فقد أعلن عن ذلك في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ما أبرز التباين المتزايد بين الأولويات الأمريكية والإسرائيلية. وبينما تواصل إسرائيل الدعوة إلى عمل عسكري استباقي، يبدو ترامب عازماً على اختبار المسار الدبلوماسي أولاً.
مع ذلك، أوضحت الولايات المتّحدة أنّ الخيارات العسكرية لا تزال مطروحة. وردّاً على الأنشطة التي يقوم بها الحوثيون في البحر الأحمر بدعمٍ من إيران، عزّزت واشنطن وجودها العسكري بشكل كبير عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر، في رسالة قويّة إلى طهران بشأن استعداد الولايات المتّحدة للتحرّك إذا دعت الحاجة.
وقد تكون هذه الإستراتيجية الثنائية المسار، التي تجمع الضغط الاقتصادي والعسكري مع الانفتاح الدبلوماسي، قد نجحت في إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات، على الرغم من الرفض القاطع الذي أبداه خامنئي سابقاً لأيّ محادثات مع واشنطن. ومع ذلك، وضعت طهران خطوطاً حمراء صارمة، إذ ترفض تفكيك أيّ جزء من بنيتها التحتية النووية وترفض كذلك أيّ نقاش بشأن قدراتها العسكرية.
ولا تزال الانقسامات الداخلية مستمرّة داخل إدارة ترامب. يدعو معسكر “أمريكا أولاً”، الذي يقوده المبعوث الخاص ستيف ويتكوف ونائب الرئيس جيه دي فانس، إلى اتفاق عملي محدّد الأهداف. وفي المقابل، تدفع صقور الإدارة الأمريكية، مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز، نحو مطالب متطرّفة قد تهدّد بتعطيل التقدّم المحرز.
وتبقى إسرائيل العامل المفاجئ الأخير. فمع شعورها المتزايد بالتهميش، قد تلجأ إلى تحرّكات سرّية أو علنية لتقويض العملية الدبلوماسية، ما قد يؤدّي إلى استفزاز إيران وعرقلة المفاوضات. وستكون قدرة ترامب على إدارة العلاقة مع نتنياهو وتنسيق الأهداف الأمريكية الإسرائيلية أمراً حاسماً لنجاح هذا الجهد الدبلوماسي المُتجدّد مع إيران.
مسار الأقلّ معارضة والأكثر قمعاً
مع مرور مئة يوم على تولّي إدارة ترامب السلطة، لا تزال السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل والفلسطينيين غارقة في بحر من الالتباسات والتناقضات. فقد أجبرت واشنطن إسرائيل في البداية على قبول اتفاق وقف إطلاق النار الذي رفضته باستمرار، ثمّ اقترحت طرداً جماعياً للفلسطينيين من قطاع غزّة إلى الدول العربية. وبعد ذلك، دخلت في حوار غير مسبوق مع حركة حماس، قبل أن تمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتكثيف حملتها العسكرية الإبادية، وفرض الحصار الأكثر وحشية منذ حصار لينينغراد.
ويمكن استخلاص مجموعة من الاستنتاجات الأولية حول سياسة إدارة ترامب، على الرغم من طبيعتها المتقلّبة وغير المتوقعة. من الواضح أنّ أولويات الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط تتركّز في مجالات أخرى مثل المفاوضات مع إيران، وأمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر، والفرص الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي. وفي هذا الإطار، وفي ظلّ غياب ضغوط كبيرة من حكومات المنطقة أو تدخّل من بنيامين نتنياهو لتعطيل أولوياتها، تبدو واشنطن مرتاحة للسماح لإسرائيل بالمضي في نهجها. ويحظى هذا المسار بمقاومة أقل، سواءً على المستوى المحلّي أو في صفوف الإدارة العليا. ومن المحتمل أن يتطلّب الأمر وقوع أزمة لإعادة النظر في هذه التصوّرات، وربّما إعادة ترتيب الأولويات.
ولا بدّ من مراقبة قضيتين رئيستين هما ضمّ إسرائيل للضفّة الغربية وموقف واشنطن من المؤسّسات الدولية. بالنسبة إلى المسألة الأولى، هل ستعترف إدارة ترامب رسمياً بمطالبات إسرائيل غير الشرعية بسيادتها على الضفّة، أم ستستمرّ في تبنّي نهج الإدارات السابقة من خلال دعم إسرائيل في إحكام قبضتها من دون تأييد ذلك بشكلٍ صريح؟ وهل ستلجأ الولايات المتّحدة إلى الخيار النووي في تعاملها مع المنظّمات الدولية، مثل الأمم المتّحدة والمحكمة الجنائية الدولية، لضمان أن تواصل إسرائيل أفعالها من دون عقاب وتفادي أي مساءلة حقيقية؟
ومن السمات اللافتة في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية أنّ واشنطن أكثر تسامحاً مع الانتقادات والإدانات الموجّهة إليها مقارنةً بتلك الموجّهة ضدّ إسرائيل. وفي الولايات المتّحدة، على عكس الشرق الأوسط، ستواصل إدارة ترامب منح الأولوية للقضية الفلسطينية، وتحديداً قمع حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني ومعارضة إسرائيل. وكما شهدنا في الحملات ضدّ الطلاب والجامعات، لا تُنفّذ هذه المبادرات لأغراضها المباشرة فحسب، بل تُستخدم أيضاً كأدوات ضغط لإعادة تشكيل الحكم في الولايات المتّحدة بطريقة تولّد دعماً كبيراً، مع مقاومة رمزية فحسب من نخب البلاد.
إعادة صياغة أطر التحالف في الخليج
يسعى قادة الدول الخليجية، على غرار نظرائهم على المستوى العالمي، إلى تقليص تداعيات النهج السياسي غير المتوقّع والمرتكز على الصفقات الذي يتبنّاه الرئيس ترامب. وقد اتّخذ هذا المسعى شكلين. يتمثّل الأوّل، وهو الأكثر أهميّة، في إظهار قيمتهم للرئيس في القضايا التي يوليها الأولوية. ومن أبرزها جهود الوساطة السعودية لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وتسهيل عُمان للمحادثات بشأن وقف البرنامج النووي الإيراني. أمّا الثاني،فهو التعهّد بضخ استثمارات ضخمة في الولايات المتحدة، بما يتيح للرئيس نسب الفضل إلى نفسه بشكل علني.
إنّ هذه المقاربة مفهومة. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، شكّل الاعتماد على قدرات القوّة الصلبة الأمريكية الركيزة الأساسية للعقائد الإستراتيجية للدول الخليجيّة. وقد أدّى ذلك إلى إهمال الاستثمار السياسي والمالي الجادّ في الأطر الأمنيّة الإقليمية، بالإضافة إلى التردّد في توطيد العلاقات الأمنية مع جهات فاعلة من خارج المنطقة باستثناء واشنطن. ومع ذلك، بلورت الأيام المئة الأولى من ولاية ترامب الثانية الحاجة إلى أطر أمنية جديدة لا تعتمد على القوّة الصلبة الأمريكية لضمان النظام الإقليمي.
ولا يقتصر هذا التفكير على كونه ردّاً على فوز ترامب في الانتخابات، بل يعكس أيضاً تغيّرات طويلة الأمد في أنماط القوّة ضمن النظام الدولي، وتزايد الشكوك بشأن شرعية السياسة الخارجية الأمريكية وفاعليّتها، والصعوبة المتزايدة في الحفاظ على توافق مع واشنطن بشأن القضايا الأمنية الحيوية.
لقد كثّفت الأيام المئة الأولى من عهد ترامب الجهود المحلّية لبناء أطر تحالفية تُساهم بفاعلية في تهدئة المنافسة الجيوستراتيجية والانقسام الطائفي. وفي هذا السياق، تُوظّف الدول الخليجية دبلوماسية مرنة وتموضعاً إستراتيجياً يشمل جهات فاعلة إقليمية وخارجية رئيسة.
وقد تبلورت هذه الجهود في اجتماعين في 17 أبريل. أولّهما في خلال زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان آل سعود إلى طهران، حيث التقى المرشد الأعلى الإيراني. والثاني في لقاء في موسكو جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي وجّه دعوة لبوتين لزيارة الدوحة. وقد جاء هذا النهج الشامل، الذي يشهد بابتعاد الدول الخليجيّة عن المفاهيم التقليدية للاصطفاف والتوازن والتحوّط، مجّانياً حتى الآن، لأنّه يتزامن حالياً مع طموحات سياسة ترامب الخارجية تجاه كلّ من روسيا وإيران.
ويبقى من غير الواضح إلى متى سيستمرّ حماس ترامب تجاه هذه المبادرة المحلّية، وما إذا كانت الدول الخليجية قادرة بالفعل على دعم سردية تؤيّد أطر التحالف كأدوات للقوّة التوافقية التي تعزّز النظام على حساب المصالح. ما هو واضح بالفعل هو مساهمة الأيام المئة الأولى من ولاية ترامب في ترسيخ إجماع إقليمي على أنّ الأطر الأمنية المحلّية ضرورية لاستقرار المنطقة وأمنها ونظامها في المستقبل.
نهاية العلاقة: أوروبا بمفردها
لقد كشفت الأيام المئة الأولى من إدارة ترامب عن واقع مرير: الشراكة عبر الأطلسي، التي كانت تشكّل أساس النظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب، بدأت بالتفكّك. فبدءاً من ادّعاءات نائب الرئيس جيه دي فانس غير المعقولة بشأن السيادة على غرينلاند، وصولاً إلى إذلال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حتّى اتهامات الغريبة التي وجهّها البيت الأبيض في ملف التجارة، كانت رسالة ترامب واضحة تماماً: “الاتحاد الأوروبي يخدعنا“. إن غياب الاتحاد الأوروبي عن طاولة المفاوضات مع روسيا بشأن أوكرانيا، ونبرة المحادثات التجارية، التي تحوّلت من مفاوضات إلى قرارات أحادية، يعكس هذه الحقيقة بوضوح. تمضي الولايات المتّحدة في رسم مسارها الخاصّ المدمّر.
وبينما تُحافظ رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين على لهجتها التصالحية المعتادة في بروكسل، عبّر الكثير من الدول الأعضاء بصراحة أكبر عن قلقها. قال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك إنّه «أمرٌ صادم، لكنّه حقيقي. ففي الوقت الراهن، يطلب 500 مليون أوروبي من 300 مليون أمريكي الحماية من 140 مليون روسي عجزوا عن هزيمة 50 مليون أوكراني طوال ثلاث سنوات”. وعلى غزار توسك، يجب على جميع قادة الاتحاد الأوروبي أن يدركوا ما هو على المحكّ. هذا ليس وقتاً للتأمّل التكنوقراطي أو للإجراءات المطوّلة والمملّة. يشهد العالم اليوم منافسة شديدة، بينما يسلك الحليف التاريخي للاتحاد الأوروبي مساراً مغايراً، مُتخلّياً عن مبادئ التعاون التي كان يُدافع عنها. يجب على الاتحاد الأوروبي أن يتّخذ خطوات فورية بحزم وعزم.
وتؤكّد مطالب المواطنين الأوروبيين هذه الحاجة الملحّة، إذ تكشف استطلاعات حديثة أنّ 66 في المئة منهم يريدون أن يؤدّي الاتحاد الأوروبي دوراً أكبر في حمايتهم من الأزمات العالمية والمخاطر الأمنية، بينما يرى 89 في المئة أنّ على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أن تتّحد بشكل أكبر في مواجهة التحدّيات العالمية. ويعكس ذلك حقيقةً جوهرية: لقد أثبت الاتحاد الأوروبي مراراً قدرته اللافتة على اتّخاذ إجراءات سريعة ومتماسكة عند مواجهة الأزمات الوجودية. شكّلت جائحة فيروس كورونا المستجدّ والحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة التي تلتها، تذكيراً قوياً بقدرة الاتحاد الأوروبي على التصرّف بحزم وتكاتف. إنّ تنسيق مصالح 27 دولة يمثّل تحدّياً ضخماً، لكنّ التاريخ قد أثبت إمكانيّة تحقيقه، وهذا ما تستدعيه اللحظة الحالية.
هذه هي لحظة الحقيقة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي. عليه أن يتجاوز النبرات المطمئنة وأن ينخرط في حقبة جديدة تقوم على المرونة والسرعة والبراغماتية والابتكار. وستحدّد الخيارات المتّخذة اليوم ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيخرج أكثر قوة وسيادة، أم أكثر ضعفاً وهشاشة، في عالم تحوّل فيه أقدم حلفائه إلى أحدث تحدّياته.
الدول الخليجية حريصة على تحقيق توازن في علاقاتها مع الصين والولايات المتّحدة
أعاد انتخاب دونالد ترامب إشعال حرب تجارية أدّت إلى تصعيد حادّ في المنافسة الجيوسياسية والجيواقتصادية مع الصين. فقد فرضت واشنطن تعريفات جمركية شاملة على السلع الصينية، تصل إلى 145 في المئة على معظم الواردات، متخليةً عن النهج الانتقائي السابق لصالح مواجهة اقتصادية شاملة. وقد تعهّدت بكين بالرد “حتّى النهاية“، ما يعرّض التبادل التجاري الذي يصل حجمه إلى 582 مليار دولار أمريكي، للخطر. ويتردّد صدى هذه المواجهة المتصاعدة في منطقة الخليج، حيث قد تتأثّر العلاقات الاقتصادية الوثيقة بين الصين والدول الخليجية سلباً بالتوتّرات الصينية الأمريكية.
ففي منتصف أبريل الجاري، تراجعت أسواق الأسهم الرئيسة في دول مجلس التعاون الخليجي وسط حالة من عدم اليقين بشأن تحوّل السياسات التجارية الأمريكية وتزايد المخاوف بشأن تأثير الحرب التجارية المتصاعدة على اقتصاداتها. وعلى المدى البعيد، قد تُلحق المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى الرسوم الجمركية الأمريكية المرتفعة، ضرراً غير مباشر بصادرات منطقة الخليج من النفط والغاز، وذلك من خلال خفض الطلب على الطاقة من شركائها التجاريين الرئيسيين. وفي حال تراجعت أسعار الطاقة نتيجةً لذلك، فقد يؤدّي ذلك إلى انخفاض في الإنفاق الحكومي، ويضرّ بقطاعات أوسع في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي.
تتعرّض العلاقات الاقتصادية المتنامية بين الدول الخليجية والصين، بشكل غير مباشر، للاضطرابات التجارية الجديدة. ففي السنوات الأخيرة، تجاوزت الصين الولايات المتّحدة لتصبح المشتري الأكبر للنفط الخام الخليجي، والمستهلك الأكبر للنفط الخام السعودي، والشريك التجاري الأهمّ للمملكة بشكل عام. كما تعتبر الإمارات العربية المتّحدة الصين شريكها التجاري الرئيس، إذ تجاوز حجم التجارة الثنائية 86 مليار دولار أمريكي في العام 2023. ويهدّد الانفصال بين الولايات المتّحدة والصين بزعزعة استقرار هذه العلاقات التجارية. وتواجه مراكز الخدمات اللوجستية الخليجية، مثل الإمارات العربية المتّحدة – التي لطالما كانت وسيطاً هاماً يربط المورّدين الصينيّين بالأسواق الغربية – مخاطر ناتجة عن تحوّل مسارات التجارة وفرض قيود جديدة، ما يهدّد قطاعات الشحن والموانئ وسلاسل التوريد.
ففي خلال الفترة المقبلة، سيزداد الضغط على الدول الخليجية في ظلّ تقلّبات اقتصادية وأمنية متعارضة بين شريكها التجاري الرئيس، الصين وضامنها الأمني الرئيس، الولايات المتحدة. ولحسن الحظ، توجّه دول مجلس التعاون الخليجي الستّ أدواتها الدبلوماسية نحو تبنّي إستراتيجية تقوم على تحقيق التوازن والتحوّط بين القوّتين العظميين. كما تحافظ على نهجها القائم على تعظيم فوائد العلاقات بينهما، مع تقليل أيّ التزامات من شأنها أن تُنفّر أيّاً منهما. لكن مع تصاعد التوترات بين الولايات المتّحدة والصين لا على الصعيد التجاري فحسب، بل في ظلّ احتمال نشوب أيّ صراع بينهما بشأن تايوان على حدّ سواء، ستتعرّض إستراتيجية التحوّط والتوازن لمزيد من الاختبار، ما سيصعّب على الدول الخليجيّة عمليّة التوازن أكثر فأكثر.
الجمود السوري تحت إدارة ترامب يُقوّض انتقال البلاد نحو الاستقرار
تحرّك الرئيس دونالد ترامب، في الأيام المئة الأولى من ولايته، بسرعة على جبهات متعدّدة، لكن سوريا لم تكن من بينها. فقد بقيت السياسة الأمريكية تجاهها على حالها، امتداداً لنهج الإدارة السابقة. ولم يكن هذا نتيجة لإستراتيجيّة مدروسة، بل ناجماً عن اللامبالاة. وعلى الرغم من دخول سوريا مرحلة انتقالية حاسمة، لم يُعيّن ترامب بعد فريقاً قوياً لإدارة هذا الملف.
وفي حين أنّ دول متعدّدة قد رحّبت بالاستمرارية في السياسة الأمريكية، كانت سوريا تأمل في تحوّل جذري في أسلوب التعامل. إذ إنّ غياب التغيير يعني استمرار العقوبات الأمريكية الشاملة، ما يهدّد الاستقرار الذي كانت من المفترض أن تضمنه.
وضِعت هذه العقوبات لعزل نظام الرئيس السوري آنذاك بشّار الأسد، الذي أُطيح به في ديسمبر الماضي. وكان من المفترض أن تمهّد إزاحته الطريق نحو التعافي والإصلاح. غير أنّ العقوبات القديمة لا تزال قائمة، وتتناقض مع الواقع السوري في مرحلة ما بعد الأسد، لتصبح نتائجها عكسية بشكل متزايد.
يتضمّن قانون قيصر، وهو الأشدّ بين هذه العقوبات، استثناءات إنسانية. إلّا أنّه في الواقع يلقي بظلال ثقيلة على البلاد، إذ تتجنّب المصارف والمستثمرون والشركات التعامل مع سوريا بالكامل خوفاً من التداعيات القانونية والمالية. والنتيجة: اقتصاد مشلول في وقت تحتاج فيه البلاد بشدّة إلى مساحة لتحقيق الاستقرار وبدء إعادة الإعمار.
إنّ الضرر حقيقي. إذ تُستبعد الشركات المحلّية ومنظّمات المجتمع المدني والسلطات الانتقالية من العملية، وهي الجهات الفاعلة المخوّلة بإعادة إعمار سوريا. لقد باتت هذه الجهات عاجزة عن دفع رواتب العمّال، أو استيراد الوقود، أو إصلاح البنى التحتية. ومن دون القدرة على تقديم الخدمات أو إعادة بناء الثقة، فإنّها تُخاطر بفقدان شرعيّتها قبل أنّ تتاح لها حتّى فرصة ممارسة الحكم.
ولن تتوقّف التداعيات عند هذا الحدّ. فقد يغذّي انهيار سوريا موجات الهجرة، ويفاقم الضغوط على الدول المجاورة، ويوفّر بيئة خصبة للمجموعات المتطرّفة. إنّ سقوط سوريا ليس مشكلة سوريّة فحسب، بل أزمة إقليميّة.
يحتاج ترامب إلى تغيير المسار. لن يكافئ رفع العقوبات مجموعة ذات ماضٍ إشكالي، بل سيشكّل تحوّلاً نحو دبلوماسية براغماتية، وسيسمح للولايات المتحدة بالمساهمة في تشكيل ملامح المرحلة الانتقالية في سوريا ومستقبلها بدلاً من معاقبة سكانها بشكل تلقائي.
وتعدّ الأسابيع المقبلة حاسمة. ستحدّد خيارات ترامب ما إذا كانت سوريا ستتّجه نحو الاستقرار أم ستنزلق مجدّداً إلى الفوضى. فالعقوبات التي كانت تخدم هدفاً في الماضي باتت اليوم تحتجز البلاد رهينة لماضٍ لم يعد قائماً.
أردوغان وترامب، مجدّداً: بين الثناء التكتيكي والخطر السياسي
أرست ولاية دونالد ترامب الأولى الأسس التي يعتمدها أردوغان اليوم: تغليب منطق الصفقات على المؤسّسات، وتفضيل العلاقات الشخصية على توافق السياسات، والتجاهل المتبادل للمعايير الليبرالية، والتضامن بين الزعماء الأقوياء مع التواصل المباشر عبر القنوات الخلفية. وفي ولايته الأولى، مهّد ترامب الطريق أمام عملية “نبع السلام” التركية عبر سحب القوات الأمريكية بشكل مفاجئ من شمال سوريا، كما دعا أردوغان إلى ضبط النفس بلهجة غير مألوفة، قائلاً: “لا تكن رجلاً قاسياً”، وساهم لاحقاً في تخفيف حدّة التوتّرات بين الولايات المتّحدة وتركيا عبر إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون من السجون التركية بعدما أدّت العقوبات إلى انهيار حادّ في سعر صرف الليرة.
والآن، مع عودة ترامب إلى الحكم، يبدو أنّ دينامية السياسة الخارجية المبنية على الطابع الشخصي ومنطق الصفقات قد عادت إلى الواجهة. ففي مؤتمر صحفي عقده ترامب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مارس الماضي، علّق على أردوغان قائلاً: “أنا معجب به، وهو معجب بي… ولم نواجه أي مشاكل قط”، متوجّهاً إلى نتنياهو قائلاً: “وإذا كانت لديك مشكلة مع تركيا، فأعتقد أنّك ستتمكّن من حلّها”. لم تكن هذه العبارات مجرّد كلمات عابرة.
وفي العام 2025، يستغلّ أردوغان مجدّداً رؤية ترامب الانتقائية. إذ لم يُثر اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، في مارس الماضي أيّ ردّ من واشنطن. وكان هذا الصمت مُعبّراً للغاية.
أمّا في سوريا، فمع انتهاء عهد الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة بقيادة الشرع، ترى تركيا فرصة لترسيخ موقعها كجهة فاعلة رئيسة في مرحلة ما بعد الصراع. واللافت أنّ المسؤولين الأتراك باتوا يشيرون إلى قوّات سوريا الديمقراطية بالاسم بدلاً من توصيفها بـ”حزب العمّال الكردستاني/وحدات حماية الشعب” – وهو تحوّل تكتيكي واضح. وقد ساهمت الوساطة الأمريكية في التوصّل إلى اتفاق بين قوّات سوريا الديمقراطية ودمشق بشأن الاندماج، ما أسهم في تهدئة المخاوف الأمنية التركية، ومهّد الطريق لتحقيق تقدّم على مسار السلام الداخلي مع حزب العمّال الكردستاني. ويصبّ عدم اكتراث ترامب بمسألة الحكم الذاتي الكردي في مصلحة تركيا. وتتمثّل الإستراتيجية المرجّحة لأنقرة في الضغط على حزب العمّال الكردستاني لنزع سلاحه، والتغاضي عن اندماج قوّات سوريا الديمقراطية مع دمشق، وتعزيز موقعها كشريك أساسي في مكافحة داعش ضمن تحالف إقليمي.
وقد دفعت التوتّرات بين إسرائيل وتركيا في سوريا ترامب إلى استئناف دوره كوسيط، ساعياً إلى التوصّل إلى اتفاق لفضّ النزاع. أمّا أردوغان، فيواصل استخدام خطابه المعادي لإسرائيل لأغراض داخلية، على الرغم من احتجاجات الشباب والاعتقالات المرتبطة بأحداث غزّة في الداخل التركي، بينما يحافظ بهدوء على العلاقات التجارية والدبلوماسية غير العلنية مع تل أبيب.
ويرى ترامب في علاقاته مع نتنياهو وأردوغان ورقة ضغط لتهدئة التوتّرات واحتواء الطموحات النووية الإيرانية. ومع تراجع قوّة “محور المقاومة” بعد سقوط الأسد، أعادت تركيا تثبيت موقعها كشريكٍ صعبٍ لكن لا غنى عنه. ويدرك أردوغان هذه الحقيقة جيّداً ويستغلّها، إذ يعرض احتواءً إقليمياً لإيران، ونفوذاً في سوريا، وسيطرة على المسألة الكردي، مع الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة مع طهران. ومن الواضح أنّ تركيا لا ترغب في مزيد من التصعيد بين إسرائيل وإيران.
لكن “إعجاب” ترامب بأردوغان قد يمنحه هامشاً للمناورة، إلّا أنّ هذا الوضع يبقى محفوفاً بالمخاطر. فدعم ترامب مشروط، وسياساته متقلّبة بطبيعتها. وقد أظهر استطلاع رأي أجرته “بانوراما تركيا“ في أبريل الجاري أنّ 72 في المئة من المشاركين الأتراك، من مختلف الانتماءات السياسية، يعتقدون أنّ رئاسة ترامب تضرّ بتركيا، في تعبير عن قلق واسع إزاء التقلّبات التي قد تترتّب عنها.
المغرب العربي في خضمّ المنافسة الأمريكية الصينية: رقصة إستراتيجية على الحبال الجيوسياسية
في ظلّ تصاعد الصراع العالمي على النفوذ بين الولايات المتّحدة والصين، يقف المغرب العربي على حبل جيوسياسي مشدود. وعلى الرغم من أنّ المنطقة لا تُعدّ ساحة مواجهة مباشرة، فإنّ تداعيات هذا التنافس الإستراتيجي تلقي بظلالها الثقيلة عليها، وتنعكس في مجالات تمتدّ من التحالفات الأمنية إلى مشاريع البنية التحتية.
لقد أتاح التوسّع الاقتصادي الصيني لدول المغرب العربي خيارات بديلة عن النفوذ الغربي التقليدي. فمن خلال مبادرة «الحزام والطريق»، ضخّت بكين استثمارات ضخمة، لا سيّما في مجالات الطاقة والبنية التحتية، ما ساهم في تحفيز النمو الإقليمي. وعلى سبيل المثال، عزّزت الجزائر شراكتها مع بكين من خلال توقيع عشر اتفاقيات إستراتيجية في أبريل 2025. أمّا المغرب، وعلى الرغم من علاقاته العسكرية الوثيقة مع الولايات المتحدة، فقد انخرط في مشاريع صينية في قطاع الطاقة المتجددة.
لكن هذا الانفتاح لا يخلو من التحدّيات، إذ تواجه دول المغرب العربي ضغوطاً متزايدة لاختيار طرف معيّن، في ظل معارضة صانعي القرار الأمريكيين لتوسّع النفوذ الصيني، وهو ما يصوَّر غالباً على أنّه تهديد أيديولوجي وأمني مباشر. ويظهر ذلك بوضوح في تحذيرات إدارة ترامب من تنامي نفوذ الصين وروسيا، بالتوازي مع توقيع اتفاقيات أمنية جديدة، أبرزها أول اتفاق تعاون دفاعي بين الجزائر وواشنطن في يناير الماضي.
مع ذلك، لا تزال دول المنطقة تتردّد في اتخاذ موقف ثابت. وبدلاً من ذلك، تبنّت سياسة «التحوّط الإستراتيجي»، وتسعى إلى تعزيز العلاقات مع القوّتين العظمتين بشكل براغماتي. على سبيل المثال، تعمل تونس على تقليل اعتمادها على المساعدات العسكرية الغربية عبر توسيع تعاونها الاقتصادي مع الصين، فيما توظّف موريتانيا علاقتها بالطرفين لدفع عجلة التنمية، على الرغم من المخاوف المستمرّة بشأن المشاركة الصينية في مشاريع البنية التحتية الحيوية.
قيام الدبلوماسية الأمريكية على المعاملات، كاعترافها بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، إلى جانب انتشار تقنيات صينية مثل شبكة الجيل الخامس من هواوي في ظل العقوبات الأمريكية، يُظهِر مدى تعقيد القرارات المتعلّقة بالاصطفاف الخارجي.
وفي حال تحوّل التنافس الأمريكي الصيني إلى استقطاب ثنائي حادّ على الساحة الدولية، قد تتراجع قدرة المغرب العربي على المناورة الإستراتيجية. مع ذلك، يتحرّك قادة المنطقة بحذر في الوقت الراهن، محاولين اقتناص الفرص من الجانبين من دون الوقوع في فخّ الاصطفاف الكامل.
سياسة ترامب تجاه إيران: تصعيدٌ مستمر أم فرصٌ للدبلوماسية
حضر الملف الإيراني في أجندة السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب قبل أن يصبح رئيسا في العام 2017. لقد كان الاتفاق النووي الذي عُقد في صيف عام 2015 أحد أهم أهداف إدارته الأولى، وانسحب منه في مايو 2018. وتزامن ذلك مع سياسة الضغوط القصوى التي أرادت إضعاف إيران اقتصادياً عبر مراكمة العقوبات الاقتصادية واستهداف قطاع النفط بشكل خاص. حاول ترامب فتح باب للتفاوض مع إيران آنذاك، لكن ذلك لم ينجح.
ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، استمرّ حضور إيران في أجندة السياسة الخارجية لإدارته في المئة يوم الأولى، إذ تركّز سردية ترامب على منع إيران من تطوير برنامج نووي مسلّح. في هذا السياق، بادر الرئيس ترامب إلى إرسال رسالة إلى مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي عبر الإمارات العربية المتحدة. وقد ردّت إيران على تلك الرسالة برسالة عبر سلطنة عُمان. تركّز إستراتيجية ترامب على خيار الدبلوماسية والتفاوض للحيلولة دون امتلاك إيران سلاحاً نووياً، الأمر الذي نفته إيران مراراً وتكراراً، حيث تحدّثت عن فتوى من المرشد الأعلى علي خامنئي بحرمة امتلاك سلاح نووي.
بدأ البلدان مفاوضات غير مباشرة بوساطة عمانية في مسقط بتاريخ 12 أبريل، تلتها جولة ثانية في روما بتاريخ 19 أبريل. هاتان الجولتان، وفق تصريحات مسؤولين إيرانيين، قادتا إلى جولة ثالثة تُعقد في مسقط على مستوى الخبراء لمناقشة قضايا فنّية، وذلك بتاريخ 23 أبريل. ويأتي مسار المفاوضات النشط الذي يسير فيه البلدان وسط تشكيك إسرائيلي بالمسار الدبلوماسي وأنّ خيار العمل العسكري ينبغي أن يبقى على الطاولة، الأمر الذي تفسّره طهران على أنّه تحريض إسرائيلي مباشر ضدّها.
ويدخل الطرفان مسار التفاوض بعيداً عن أي دور أوروبي أو روسي أو صيني مباشر، كما أنّ المفاوضات تركّز على البرنامج النووي من دون البحث في القضايا الإقليمية، خاصة أنّ الدور الإيراني قد شهد تراجعاً بسبب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وإضعاف حزب الله في لبنان. قد تشكّل أجواء التفاوض هذه علامة أمل بأن يسجَّل اختراق مهم، خاصة أنّ إدارة ترامب معنية بتحقيق نصر دبلوماسي والتوصّل إلى اتفاق أفضل من الاتفاق الذي تحقّق في صيف 2015. إيران من جانبها معنيّة باتفاق، أملاً في أن يقود إلى رفع العقوبات الاقتصادية التي يتزايد تأثيرها السلبي في المجتمع الإيراني يوماً بعد يوم. وسيحول رفع هذه العقوبات إلى تراجع في الأطراف المنتقدة للنظام السياسي في طهران والتي تشتكي من تراجع الوضع الاقتصادي بشكل لا يمكن تحمّله.
تظهر حالة من الارتياح على المستوى الدولي من مسار التفاوض بين واشنطن وطهران، وأمل كبير أن ينجح لأنّ البديل وفق التهديدات الأمريكية والتحريض الإسرائيلي سيكون سيّء على الجميع في المنطقة والعالم، لا سيّما في مسألة أمن الطاقة، والخشية من اضطراب كبير في أسعار الطاقة يضاعف التحدّيات التي يمرّ بها الكثير من الدول حول العالم. إنّ نجاح الطرفين في التوصّل إلى اتفاق قد يقود إلى نوع الهدوء الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، لكن الفشل سيقود بدون شكّ إلى مزيد من الإضطرابات وربما انهيار مزيد من الدول والتحالفات.
الحملة العسكرية الأمريكية ضدّ جماعة الحوثي
أعادت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تصنيف جماعة الحوثيين كـ”منظمة إرهابية أجنبية”، وشنّت غارات جويّة على مواقعهم في اليمن، في محاولة لمعاقبتهم على تعطيل الملاحة في البحر الأحمر وردع النفوذ الإيراني. يأتي هذا التصعيد ضمن إستراتيجية أوسع لتحميل إيران مسؤولية أنشطة الحوثيين، واستخدام اليمن كورقة ضغط في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني.
واقعياً، تهدف الغارات إلى تدمير القدرات العسكرية الحوثية، من خلال استهداف مواقع يُعتقد أنّها منشآت تحت الأرض وربما بها قيادات رفيعة، غير أنّ فعاليتها تبقى موضع تساؤل، في ظل غياب تفاصيل دقيقة حول نتائجها وتلاعب الحوثيين بالروايات الإعلامية. الأكيد أنّ هذه العمليات، مقرونة بالعقوبات، تفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن، خاصة مع اعتماد السكان في مناطق الحوثيين على الواردات والمساعدات التي قد تعرقلها التدابير العقابية. هذا الواقع يفرض مراجعة دقيقة؛ فالحوثيون لا يعتمدون على قدرات عسكرية تقليدية بقدر ما يوظّفون بنية شبكية لامركزية، تسمح لهم بالاحتفاظ بقدرات هجومية رغم الخسائر. كما أنّ الهجمات الأمريكية تخاطر بتعزيز السردية الحوثية داخلياً، ما قد يطيل أمد الصراع بدل أن يسرّع من حلّه.
يكتنف الغموض مستقبل هذه الهجمات وتحدّده عوامل متداخلة. فمن جهة، قد تجبر الضغوط الأمريكية الحوثيين على لجم هجماتهم، خاصة في البحر الأحمر. ومن جهة أخرى، قد تدفعهم إلى مزيد من التصعيد، سواء في البحر أو داخلياً، عبر شنّ هجمات برّية على جبهات مثل مأرب أو تعز، أو خارجياً عبر استهداف المصالح السعودية والإماراتية. عامل آخر مؤثّر، وهو مصير المحادثات الأمريكية الإيرانية، إذ قد تسعى طهران إلى تهدئة جبهة اليمن لتحسين شروط التفاوض النووي، ما قد يضع الحوثيين في موقع أكثر هشاشة.
كما أنّ السياسة الأمريكية الحالية تفتقر إلى رؤية شاملة ومستدامة لليمن، ما يجعل نجاحها في تحقيق أهدافها بعيدة المدى، كإضعاف الحوثيين جذرياً أو دفعهم لعملية سلام جادّة، أمراً مستبعداً. إن لم تقترن الضربات العسكرية بدعم سياسي واقتصادي وإنساني متّسق، وبجهود دبلوماسية حثيثة تجمع الأطراف اليمنية والإقليمية، فإنّها تخاطر بتعميق الأزمة الإنسانية وتأجيج العنف من دون تحقيق سلام دائم. كما أنّ الفوضى البيروقراطية في واشنطن، وانعدام التنسيق مع الحلفاء الإقليميين، يحدّ من فرص نجاح الحملة. في المقابل، قد يُعزز الحوثيون قبضتهم على السلطة عبر تصوير أنفسهم كـ”ضحايا عدوان خارجي”، بينما يواصلون تعميق أزمات السكان.
مستقبلاً، لن تقتصر خيارات واشنطن على البعد العسكري فمن دون مقاربة متوازنة تجمع بين الضغط العسكري المحدود، وتنشيط المسار السياسي عبر وسطاء إقليميين موثوقين، وضخّ دعم اقتصادي للمناطق المحرّرة لتعزيز جاذبية الحكومة اليمنية، ستظلّ الأزمة تراوح مكانها. السيناريو الأرجح هو استمرار الصراع بوتيرة منخفضة ولكن مكلفة إنسانياً وإستراتيجياً، مع بقاء اليمن ساحة مفتوحة لصراعات إقليمية معقدّة. يبدو اليمن مجّرد بيدق في لعبة أكبر، قد تُحسم تفاصيله في غرف مغلقة، بعيداً عن صنعاء أو عدن.