"يُلوّح أحد أنصار حزب الله بعلم الجماعة أمام جنود الجيش اللبناني، بينما يُشعل المتظاهرون إطارات ويحرقونها لقطع الطريق المؤدّي إلى مطار بيروت الدولي، وذلك عقب زيارة نائبة المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، التي التقت خلال زيارتها برئيس البلاد، في 7 فبراير/شباط 2025. (وكالة الصحافة الفرنسية))"

هل يمكن للبنان نزع سلاح حزب الله قبل إعادة بناء الدولة؟

إنّ الدفع الخارجي نحو نزع سلاح حزب الله يكشف عن  أزمة أعمق تتعلّق بسيادة الدولة، إذ تفتقر مؤسّساتها إلى الشرعية والقدرة المؤسّسية والثقة العامّة التي تمكّنها من استعادة احتكار استخدام القوّة من دون المخاطرة بزعزعة الاستقرار أو التسبّب بردود فعل طائفية.

20 نوفمبر، 2025
جوزيف ضاهر، سامي زغيب، سامي عطا الله

منذ شهر أغسطس الماضي، وبناءً على توجيهات الحكومة اللبنانية، يعمل الجيش اللبناني على تقديم خطة، بحلول نهاية العام، تقود إلى وضع جميع الأسلحة في البلاد تحت سلطة الدولة. ويستهدف هذا التوجيه أساساً حزب الله، الميليشيا الشيعية التي أصبحت في السنوات الأخيرة أكثر قوةً ونفوذاً من الجيش الوطني نفسه. ومع ذلك، دأبت المجموعات الطائفية المتعدّدة في لبنان، وعلى مدى عقود، على تحدّي سيادة الدولة وانتهاكها عبر تشكيل ميليشياتها الخاصة. وبذلك، يكشف تحرّك الحكومة الأخير، والذي جاء تحت رعاية الولايات المتّحدة، عن الفجوة الشاسعة بين الطموح والقدرة. فبعد الإعلان عنه، انسحب أربعة وزراء شيعة من جلسة مجلس الوزراء، فيما ندّد حزب الله بالخطوة واصفاً إياها بأنّها «خطيئة كبرى». ولم يكن مفاجئاً أن تفتقر خريطة الطريق المقدَّمة في أوائل سبتمبر إلى أيّ جدول زمني موثوق أو آليّة تنفيذية قابلة للتطبيق.

 

وتحت هذه العناوين البارزة تكمن مشكلة أعمق: إذ يُدفَع مسار نزع السلاح اليوم تحت ضغط أمريكي ثقيل، فيما تواصل إسرائيل قصف الأراضي اللبنانية بانتظام على الرغم من مرور عام على وقفٍ شكلي لإطلاق النار. كما تُدفَع الدولة إلى مناقشة التطبيع مع إسرائيل مقابل وعود بتدفّق المساعدات وتهدئة الحدود. وفي مثل هذه الظروف، يغدو نزع السلاح تنازلاً عن إرادة الدولة وقرارها المستقلّ أكثر من كونه تعبيراً عن السيادة.

 

السيادة الحقيقية نادراً ما تُوهب بمجرّد توقيع، بل هي تنبع من ثلاثة أسس مترابطة: حصرية القوة بشكل فعال من قبل الدولة؛ ومؤسّسات قادرة على الوفاء بالتزاماتها وذات ملاءة مالية؛ وشرعية كافية لربط المكوّنات المجتمعية بالدولة. يفتقر لبنان إلى هذه الأسس الثلاثة. وبدلاً من أن تكون السياسيات نابعة من قرار سيادي داخلي، باتت تٌدفع بفعل الضغوط الخارجية، ما يحوّل الدولة من فاعلٍ سيادي إلى أداة تدار من الخارج.

 

وينطوي هذا المسار على مخاطر حقيقية. فإذا أقدمت الدولة على محاولة نزع سلاح حزب الله قبل إعادة بناء حضورها الإداري، واستعادة استقرار الخدمات العامة، واسترجاع استقلاليتها المالية، فإنّها تخاطر بحدوث قطيعة أكبر مع المواطنين وتفجير ردود فعل طائفية قد تعمّق هشاشتها. وعليه، لا يكمن السؤال الحقيقي في من يحمل السلاح فحسب، بل في من يمتلك الشرعية.

 

 

دولة تحت النار

 

يعيش لبنان في بيئة أمنية شديدة الهشاشة. فقد أدّى العدوان الإسرائيلي في العام 2024 إلى مقتل الآلاف، ونزوح أكثر من مليون شخص، وتسبّب بأضرار هائلة بالبنية التحتية تقدّر بمليارات الدولارات. ولم ينجح وقف إطلاق النار الذي أُعلن في أواخر نوفمبر في وضع حدّ للاعتداءات الإسرائيلية، إذ لا تزال الجبهة الجنوبية متوترة وتشهد عمليات اغتيال إسرائيلية متكرّرة. أمّا إلى الشرق، فلم يؤدٍ انهيار نظام الأسد في سوريا في ديسمبر إلى استقرار الحدود، حيث تواصل الجماعات المسلّحة نشاطها واشتباكاتها في مناطق ضعيفة الحوكمة، فيما تزدهر شبكات التهريب بلا رادع.

 

داخل لبنان، لا يزال حزب الله مزوّداً قوياً وموازياً للأمن والخدمات، وخصوصاً في المناطق التي يتراجع فيها حضور الدولة. وعلى الصعيد الخارجي، باتت المساعدات العسكرية الحيوية مشروطة على نحو متزايد بتوقّعات بأن تعمل بيروت علي «احتواء» حزب الله والحدّ من النفوذ الإيراني. وعلى امتداد هذه الجبهات، لم يعد السؤال هو ما إذا كانت الحكومة ترغب في التحرّك، بل ما إذا كانت قادرة على ذلك بصورة مستقلّة وموثوقة ومن دون جرّ البلاد إلى دوّامة جديدة من عدم الاستقرار.

 

يحتل الجيش اللبناني موقعاً محورياً في قلب هذه التوقّعات، فهو من بين المؤسّسات القليلة التي لا يزال يُنظر إليها كجسم جامع لمختلف الطوائف، وقد نجح في لحظات حرجة في منع انهيار الدولة بالكامل. غير أنّ صلاحياته وموارده ليستا على مستوى التحدّي. وفي الواقع تُستنزف معظم ميزانية الدفاع لعام 2025، والبالغة 800 مليون دولار فقط، في الرواتب والعمليات الأساسية، ولا يبقى بعد ذلك سوى القليل جداً للتدريب أو الصيانة أو التحديث. ويظلّ لبنان متأخراً كثيراً عن نظرائه الإقليميين من حيث الإنفاق العسكري لكل جندي أو لكل فرد. ويُضاف إلى ذلك اعتماد الجيش اللبناني على الشركاء الخارجيين للحصول على الوقود وقطع الغيار وجزء كبير من لوجستياته. وهو ما يضيّق خياراته الإستراتيجية ويضاعف المخاطر السياسية: فأيّ خطة أمنية يعتمد تطبيقها على شريان إمداد خارجي يمكن إعادة صياغتها، أو حتى سحبها، وفق أولويات جهات فاعلة لا تتطابق مع أولويات لبنان.

 

إن دفع مؤسّسة منهكة على هذا النحو إلى تنفيذ عملية واسعة لنزع سلاح الفاعلين غير الحكوميين ينطوي على احتمالين خطيرين للفشل: إذا عجز الجيش عملياتياً سيتفاقم السخط الشعبي؛ وإذا تجاوز قدراته الواقعية سيدخل في مواجهة لا تملك الدولة مقومات إدارتها. وفي كلتا الحالتين، يضمحل هدف إقامة سلطة موحّدة وفاعلة.

 

 

تبنّي الحياد؟

عانى لبنان طويلاً بوصفه ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، ما دفع بعض المراقبين إلى الدعوة إلى تبنّي الحياد كوسيلة للابتعاد عن التشابكات الإقليمية والتعبير بصورة أفضل عن طبيعة المجتمع اللبناني التعدّدية. غير أنّ الحياد لا يُعلَن بجرّة قلم، بل يحتاج إلى تمويل وتطبيق فعلي وتبنٍ صادق. فالدول التي تنجح في إرسائه تستثمر في الدفاع والدبلوماسية، وتضفي الطابع الاحترافي على  أجهزتها الأمنية، وتبني ثقة عامة تمنحها سلطة واسعة. أمّا لبنان، فيفتقر إلى القوة المالية، والعمق المؤسّسي، والتماسك السياسي اللازم لدعم موقف مماثل. وفي هذا السياق، قد تتحوّل الدعوات إلى الحياد إلى تحييد، أيّ إلى موقف يُخفي خضوعاً لقوى خارجية بدل أن يعكس مسافة سيادية حقيقية. يتطلّب الحياد الجادّ تحولاً بنيوياً في المؤسّسات والموارد المالية والقبول الإقليمي، وكلّها غير متوافرة، وإلّا بات الحياد شعاراً يحجب العمل الشاق المطلوب لإعادة بناء قدرات الدولة.

 

قبل أن تتمكّن الدولة اللبنانية من الشروع فعلياً في نزع سلاح الميليشيات، لا بدّ أن تستعيد شرعيتها. يدعم المواطنون الدولة عندما يحصلون منها على الحماية والخدمات من دون وساطة حزبية. ويتطلّب ذلك سياسات تُضعف شبكات الزبائنية الطائفية، وقضاءً يكرّس المساواة، وإدارة عامة قائمة على الكفاءة لا على المحسوبيات. وستظهر نتائج ذلك في كهرباء بلا انقطاع، وجمع النفايات المنتظم، ورخص تُمنح بلا رشى، وضوابط حدودية قانونية وممكن التنبؤ بها، وهي كلّها مؤشّرات ملموسة إلى أنّ الدولة موجودة خارج منافسة الفصائل.

 

وانطلاقاً من هذا الأساس، يجب على الدولة أن توسّع قدراتها عبر إصلاح مالي. فـلا بُدّ من نظام ضريبي أكثر عدلاً ويوسّع القاعدة الضريبية، ويطال الثروات التي لا تخضع للضرائب بالقدر الكافي، ويموّل المنافع والخدمات العامةً. وسيبقى الدعم الخارجي مطلوباً، لكن يجب أن يكون موجّهاً نحو تعزيز المشتريات واللوجستيات والصيانة لا استبدالها. وبالنسبة إلى الجيش اللبناني، يعني ذلك موارد ثابتة للتدريب والاستمرارية، وإشرافاً مدنياً واضحاً، وقواعد اشتباك تحافظ على سمعته بعدم الانحياز. فجيشٌ يُطلب منه أن يفعل الأقلّ ولكن بإتقان، سيكون قادراً في النهاية على فعل الأكثر.

 

ومع بدء تفاعل الشرعية والقدرة وتعزيزهما بعضهما البعض، يتغيّر المشهد الأمني. فالمجتمعات التي طال اعتمادها على الفاعلين غير الحكوميين للحصول على الخدمات والحماية ستجد بديلاً موثوقاً. وتضعف المبرّرات السياسية لوجود المجموعات المسلّحة عندما تصبح الدولة مزوّداً وحاضرةً في حياة الناس اليومية لا مجرّد فكرة مجرّدة وكيان غائب. عندها يصبح نزع السلاح نتيجة تفاوضية تستند إلى عقد اجتماعي متحوّل، لا مواجهة صفرية.

 

تظهر خيارات لبنان في خضم اضطرابات إقليمية مستمرّة. ويكمن التحدّي في الحفاظ على حيّز كافٍ لاتخاذ القرار المستقل، مع مواجهة الضغوط التي تسعى إلى إدراج البلاد ضمن ترتيبات «استقرار» تُحدَّد من الخارج. ويمكن لسياسة خارجية موثوقة أن ترتكز على الثبات واحترام القانون والسيادة، مع إعطاء الأولوية لحماية الحدود، وخفض التصعيد الإقليمي وفق القانون الدولي، وبناء شراكات تُعزّز مؤسّسات الدولة بدل أن تعيد تشكيلها. أمّا الدعم الدولي الفعلي، فيجب أن يساعد في إعادة بناء المؤسّسات وتعزيز المساءلة العامة، لا أن يبادل الإصلاح بالامتثال.

 

وأمام الفاعلين الدوليين أيضاً خيارات. فتمويل إعادة الإعمار من دون ضمانات صلبة ضد أيّ اعتداءات إسرائيلية مستقبلية سيقوم على أرضية هشّة. والمساعدات العسكرية المُصمّمة أساساً لخدمة صراعات القوى الإقليمية لن تؤدّي إلّا إلى تعميق تبعية لبنان. وكلّما كافأ الدعم الخارجي الأداء، المُقاس بالصيانة المنجزة، وتصفية التراكمات اللوجستية، وتقليص أوقات الاستجابة، ازدادت قدرتها على بناء السيادة بدلاً من إدارة الهشاشة.

 

 

تحديد النجاح

يتمثّل النجاح على المدى القريب في جيش لبناني يمتلك الموارد الكافية لتنفيذ المهام التي يمكنه الاضطلاع بها بثقة ومهنية، وقضاءٍ يصدر أحكامه وفق القانون لا الولاءات، وإدارات عامة تقدّم الكهرباء والمياه والإنارة العامة بانتظام وموثوقية. أمّا على المدى الطويل، فكلما احتلّت الدولة موقعاً فعلياً في حياة الناس اليومية، تراجعت حدّة الجدل حول من يحمل السلاح.

 

إنّ محاولة نزع سلاح حزب الله من دون تحوّلات سياسية واقتصادية ومؤسّسية موازية ستؤدّي على الأرجح إلى ردود فعل طائفية تُضعف الدولة أكثر. وعلى الرغم من أنّ الوضعية العسكرية المستقلّة لحزب الله تتعارض مع أيّ سياسة دفاع وطني ذات سيادة، فإنّ قاعدته الشعبية، التي تشكّلت عبر عقود من فشل الدولة وانعدام الأمن والتهميش التاريخي والاعتداءات الخارجية المتكرّرة، لا يمكن تجاهلها. فكثير من أبناء الطائفة الشيعية يرون في سلاحه ضمانة أمنية في نظام غير متكافئ، لا مجرّد ورقة قوة سياسية.

 

وعليه، ينبغي أن يكون نزع السلاح ثمرة لإعادة بناء الدولة لا شرطاً مسبقاً لها. فإذا استطاعت الدولة حماية حدودها، وصون حقوق مواطنيها، وتقديم الخدمات بانتظام، ودمج جميع المكوّنات ضمن إطار وطني جامع، ستتآكل تدريجياً المبررات لوجود السلاح خارج سلطة الدولة. ولن تتحقّق خطوات لبنان الأخيرة نحو اتجاه استعادة السيادة إلّا بإعادة بناء قدرات الدولة وشرعيتها أولاً. فالإكراه بلا مصداقية يولّد الانقسام، والقدرة بلا شرعية تغذي الشك والسخرية، أمّا الوعود بلا نتائج، فتولّد الاحتقار.

 

تنشأ السيادة عندما تتقاطع القوة والمؤسّسات والقبول الشعبي. وإذا أحسن لبنان ترتيب الأولويات، فلن يحتاج إلى إعلان سيادته، بل سيعترف المواطنون بها تلقائياً.

 

ملاحظة المؤلّفين:
يستند هذا المقال إلى ورقة بعنوان «أمن بلا شرعية: حدود السيادة من الأعلى»، من إعداد جوزيف ضاهر وسامي زغيب وسامي عطاالله، والصادرة عن مبادرة سياسات الغد بالتعاون مع مؤسّسة فريدريش إيبرت، لبنان.

 

 

إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.

القضية: الحوكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
البلد: لبنان

المؤلّفون

أكاديمي وخبير متخصّص في الاقتصاد السياسي
جوزيف ضاهر هو أكاديمي وخبير متخصّص في الاقتصاد السياسي لمنطقة الشرق الأوسط. وهو يحمل شهادة الدكتوراه في دراسات التنمية من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية، جامعة لندن عام (2015)، وشهادة دكتوراه ثانية في العلوم السياسية من جامعة لوزان السويسرية عام (2018). وتمتد مسيرته التدريسية لتشمل جامعات متعدّدة، من بينها جامعة لوزان في سويسرا وجامعة خنت في… Continue reading هل يمكن للبنان نزع سلاح حزب الله قبل إعادة بناء الدولة؟
خبير اقتصادي ومدير أبحاث في مبادرة سياسات الغد
سامي زغيب هو خبير اقتصادي ومدير أبحاث في مبادرة سياسات الغد (The Policy Initiative). وتركّز أبحاثه على الاقتصاد السياسي في لبنان، وهيكليات الحوكمة، والاقتصاد الكلّي، والتنمية الاقتصادية المحلّية. وقاد سابقاً عدد من المشاريع البحثية وعمل عليها في المركز اللبناني للدراسات، حيث تناولت مؤتمرات الجهات المانحة الدولية، والانتخابات النيابية، ومراقبة الإصدارات التشريعية، والإصلاح. ويحمل سامي شهادة… Continue reading هل يمكن للبنان نزع سلاح حزب الله قبل إعادة بناء الدولة؟
المدير المؤسّس لمبادرة سياسات الغد
سامي عطا الله هو المدير المؤسّس لمبادرة سياسات الغد (The Policy Initiative). وهو متخصّص في الاقتصاد والعلوم السياسية. وشغل سابقاً منصب مدير المركز اللبناني للدراسات، من يناير 2011 حتى ديسمبر 2020. وخلال مسيرته، تولّى الإشراف على دراسات سياسية متعدّدة تمحورت حول الطائفية السياسية والاجتماعية، وأداء مجلس النواب، والرقابة الحكومية، والسلوك الانتخابي، ودور البلديات في التعامل… Continue reading هل يمكن للبنان نزع سلاح حزب الله قبل إعادة بناء الدولة؟