قد يمثّل إنشاء مجلس سياسي جديد لأكبر محافظة في اليمن لحظة حاسمة في حرب اليمن المستمرّة منذ تسع سنوات، فقد تمّ الإعلان عن تشكيل مجلس حضرموت الوطني في أواخر يونيو من العاصمة السعودية الرياض بعد مشاورات جمعت مكوّنات سياسية واجتماعية حضرمية ولقاءات مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تحت الرعاية السعودية. وسيتولّى المجلس إدارة المحافظة وسيعمل كممثل سياسي لها في المحادثات التي تهدف إلى التوصل إلى تسوية سلمية على مستوى البلاد. ومن المقرّر أن يعقد المؤتمر العام الأول للمجلس في غضون شهرين.
يرى المراقبون للشأن اليمني أنّ إنشاء المجلس الحضرمي بعد تسع سنوات من الصراع في أفقر بلد عربي له أهمية كبيرة، لكن رغم ذلك، لا تزال الأمور غير واضحة بعد. فمن جهة، يمكن أن يدعم المجلس الحضرمي الجديد السير نحو نظام فيدرالي لحكم اليمن بعد نهاية الحرب، ومن ناحية أخرى، يرى البعض أنّه قد يقوّض تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي الداعي للانفصال، ممّا يؤدي إلى المزيد من الانقسام والتشظي ويضعف السلام الهش (حالة اللاحرب واللاسلم) الذي ساد البلاد منذ الثاني من أكتوبر 2022.
نحو الفيدرالية أو الانفصال
كما هو معلوم، فإنّ حرب اليمن اندلعت بسبب استيلاء جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء في 2014، والتدخل اللاحق للتحالف العربي بقيادة السعودية لإعادة الحكومة إلى السلطة في العام 2015، فإنّ صراعاً آخر جرى في الجنوب حيث أطاح المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يسعى لاستعادة دولة الجنوب قبل عام 1990 بالحكومة المعترف بها دولياً من العاصمة المؤقّتة عدن في أغسطس 2019. واستطاع بعد ذلك التوسع والسيطرة على أجزاء من أبين وشبوة في أغسطس 2022، وسعى إلى التمدّد إلى حضرموت لكن واجه رفض من بعض القوى السياسية في حضرموت.
وقد حاول المجلس الجنوبي الانتقالي جمع القوى الحضرمية وغيرها من الفصائل الجنوبية لتقديم نفسه الممثل الحصري للجنوب في المحادثات السياسية حول إنهاء الحرب. غير أنّ هذه المحاولات أدّت إلى نتائج عكسية ودفعت معارضيه في حضرموت إلى تشكيل مجلس حضرموت الوطني بسبب اعتقادهم أنّ المجلس الانتقالي الجنوبي سيُهيمن على محافظة حضرموت في ظل الدولة الجنوبية بينما سيكون دور حضرموت أقوى في ظل يمن اتحادي يجمع الشمال والجنوب.
مجموعة من العوامل تمنح محافظة حضرموت نفوذاً خاصاً في السياسة اليمنية، ممّا يمكّنها من الاستقلال عن المجلس الانتقالي الجنوبي وتحدّي أي مركزية مفرطة للسلطة قادمة من صنعاء أو عدن. فحضرموت هي أكبر محافظة في البلاد، وتشكّل أكثر من ثلث مساحة الأراضي اليمنية ولها حدود طويلة من جهة الشمال مع المملكة العربية السعودية ومن جهة الجنوب تطلّ على بحر العرب بمينائي المكلا وشحر وفيها مطاران دوليان في سيئون والمكلا. علاوة على ذلك، يبلغ انتاجها للنفط نصف إجمالي إنتاج اليمن، كما أنّها تمتلك ثروة سمكية ومعدنية – وهي موارد حيوية لاقتصاد اليمن.
كلّ هذه العوامل تمنح حضرموت أساساً متيناً للحكم الذاتي، لكن في الوقت عينه تجعلها مطمع للقوى المحلية والإقليمية. فمن الجانب الإقليمي، تخوض الإمارات والسعودية صراعاً من أجل الهيمنة على المحافظة، فقد دعمت الإمارات إنشاء قوات النخبة الحضرمية بينما دعمت السعودية إنشاء الكتائب الأمنية الحضرمية. كما حاولت السعودية كسب اليد العليا من خلال ضخ الاستثمار في المحافظة بإطلاق 20 مشروعاً تنموياً بميزانية تفوق 260 مليون دولار، فضلاً عن دعم إنشاء مجلس حضرموت الوطني.
أمّا من الجانب المحلي، فإنّ المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات يرى أنّ دولة الجنوب من دون حضرموت لن تحقق منفعة اقتصادية. لذلك، حاول المجلس منذ تأسيسه في العام 2017 بإقناع القوى الحضرمية للانضمام للمجلس مدّعياً بأنّ الدولة الجنوبية المستقبلية ستكون لا مركزية في الحكم. وقد حاول رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي أيضاً طمأنة الحضارم بإعلانه دعمه لمقترح تسمية دولة الجنوب المستقبلية بدولة “حضرموت الاتحادية”.
وعلى الرغم من هذه الوعود، يدرك الحضارم عبر تجربتهم التاريخية أنّ دور حضرموت في يمن موحّد فيدراليّ سيكون أكثر نفوذاً من دوره في جنوب فيدراليّ. وينبع هذا الاعتقاد من الدور المركزي المؤثّر الذي أدّته حضرموت عبر السنين والذي مكّنها من التمتّع بالحكم الذاتي. وهذا بدوره جعلها تؤدّي دوراً تجارياً وسياسياً (في الداخل والخارج) عبر المحيط الهندي على مدى القرون الثلاثة الماضية قبل أن تصبح هامشية منذ العام 1967 بدولة الجنوب التي عُرفت بجمهورية اليمن الديموقراطية والتي مارست سلطة مركزية مفرطة من عدن، واستمرّ ذلك مع دولة الوحدة بتحوّل المركزية من عدن إلى صنعاء.
ومع حراك الربيع العربي في العام 2011 واندلاع الثورة ضد الرئيس علي عبدالله صالح، سنحت الفرصة للحضارم لإبداء مطالبهم التي كان أوّلها أن تتمتع حضرموت بحكم ذاتي تحت يمن اتحادي. ثمّ تجدّدت المطالب في خلال انعقاد مؤتمر الحوار الوطني عام 2013 الذي اقترح يمن اتحادي بنظام فيدرالي يضمّ ستة أقاليم من ضمنها إقليم حضرموت. إلّا أنّ استيلاء الحوثيين على صنعاء في العام التالي واندلاع الحرب اللاحقة أدّى إلى تعليق مخرجات الحوار الوطني المتّفَق عليها، لكنّها (النظام الفيدرالي والأقاليم) ظلّت نقطة معيارية ارتكزت عليها القوى الحضرمية في جميع مشاوراتها اللاحقة.
مخاوف من التفكّك
إنّ إنشاء مجلس حضرموت الوطني يبرز الصراع في الجنوب بين الفريق الداعي إلى يمن فيدرالي موحّد ضدّ المجلس الانتقالي الجنوبي الداعي للانفصال، ممّا يمهّد الطريق لسيناريوهين محتملَين على الأقلّ في المشهد اليمني المعقّد.
أولاً، قد يساهم مجلس حضرموت الوطني في السير نحو يمن فيدرالي مكوّن من ستة أقاليم حسب مخرجات الحوار الوطني. وقد رحب رئيس المجلس قيادة الرئاسي رشاد العليمي بهذه الخطوة وقد زار حضرموت بعد الإشهار وصرّح بأنّه يدعم المحافظة في “إدارة نفسها مالياً وإدارياً وأمنياً، وإذا ما نجحت التجربة سنعممها على بقية المحافظات”. وعلى الرغم من ذلك، تخشى قوى يمنية أخرى – لا سيما المجلس الانتقالي الجنوبي وجماعة الحوثي – من سيناريو ثانٍ قد تؤدّي فيه المجالس المماثلة في المهرة ومأرب وشبوة إلى تفكّك البلاد أكثر فأكثر، خصوصاً مع ضعف الحكومة المركزية والافتقار العام للحل السياسي واستمرار التوترات بين أطراف الصراع. وقد عبّر عن ذلك فرج البحسني – أحد أعضاء مجلس القيادة الرئاسي وممثل حضرموت فيه ونائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي – حيث حذّر بعد إنشاء مجلس حضرموت الوطني قائلاً إنّ “تعدّد المشاريع والرؤى والإقصاء لن يزيدنا إلّا تفكّكاً، ونحن لسنا بحاجة لذلك من يدرك الواقع سيدرك أموراً كثيرة ومن لا يدرك شيئاً سيظل كما هو ولن يقدّم شيءاً سوى مزيداً من التشرذم”.
ويرى الحوثيون من جانبهم أنّ مثل هذه المشاريع قد تحيي فكرة الأقاليم وفق مخرجات الحوار الوطني، ممّا سيهدّد مصالحهم، حيث أنّ وجود إقليمين في الجنوب – عدن وحضرموت – قد يؤدّي إلى وجود أقاليم في الشمال. ومن شأن ذلك أن يقللّ من هيمنة الحوثيين وحصر سيطرتهم على الأراضي التي تحت قواتهم، بينما سيسمح انفصال الجنوب كدولة مستقلّة للحوثيين بالسيطرة على جميع المناطق الشمالية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مجلس حضرموت الوطني هو رابع مجلس سياسي يتمّ انشاؤه منذ بداية الحرب في العام 2015. فقد تعدّدت المجالس السياسية ابتداءً من المجلس السياسي الأعلى الذي أنشأه الحوثيون في العام 2016، والمجلس الانتقالي الجنوبي الذي تمّ إنشاؤه في العام 2017، ومجلس القيادة الرئاسي الذي تمّ إنشاؤه العام الماضي في الرياض. وهذا يضيف عنصراً جديداً إلى المشهد السياسي المعقّد بالفعل. لذلك، قد لا يقدّم مجلس حضرموت الوطني التأثير السياسي المرجوّ منه على مستوى البلاد، فقد يقتصر تأثيره على الجانب المحلّي لإدارة المحافظة من تحسين الخدمات وتعزيز الجانب الأمني. وقد سبق لمحافظتي مأرب وشبوة أن تمتعتا بالإدارة الذاتية النسبية في خضم الحرب، ولكن من دون أيّ تأثير على هيكل الدولة.
لذلك سيبقى وضع اللاسلم واللاحرب قائماً في اليمن في الوقت الحالي إلى أن يتمّ حسمه عبر تسوية سياسية حول شكل الدولة – سواء كانت مركزية أو فيدرالية أو كيانين منفصلين. ومن شأن هذه التسوية أن تؤدّي إلى إنهاء الحرب وبناء مشروع سلام قد يكون قابل للحياة، لكن لا تزال الرؤية غير واضحة وبعيدة المنال.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ المؤلّف حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.