لقد أثارت مُحادثات سرّية بين مسؤولين إيرانيين وغربيين شائعات بأنّهم على وشك إبرام اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي الإيراني، بعد خمس سنوات من انسحاب الولايات المتّحدة من خطّة العمل الشاملة المُشتركة لعام 2015. وقد شكّل الاتفاق التاريخي الأساسي محور الجهود الدولية للحدّ من تطوير إيران برنامجها النووي. لكن بعد إنهاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاتفاق في العام 2018 وتبنّيه سياسة “الضغط الأقصى”، توقّفت إيران تدريجياً عن الالتزام بالاتفاق الذي أصبح بلا أي معنى.
في العام 2021، عبّرت إدارة الرئيس بايدن عن رغبتها في العودة إلى خطّة العمل الشاملة المُشتركة إذا استأنفت إيران الالتزام بها، إلّا أنّ الجهود الدبلوماسيّة لم تكن مُثمرة وتوقّفت منذ أغسطس 2022. ولكن، يبدو أنّ مساراً جديداً قد ظهر مؤخّراً، ويدفع باتجاه إبرام اتفاقٍ غير رسمي، يشير إليه بعض المسؤولين الإيرانيين على أنّه “وقف إطلاق النار السياسي“.
وقد بحثت مفاوضات هادئة جرت جزئياً في عمان، في احتمال إبرام صفقةٍ مُماثلة. وفي مقابل تجميد تخصيب اليورانيوم عند مستواه الحالي، ووقف الهجمات على المتعاقدين الأمريكيين في سوريا والعراق، وتوسيع التعاون مع المفتِّشين النوويين الدوليين، والالتزام بعدم بيع الصواريخ الباليستيّة لروسيا، تتوقّع إيران أن تمتنع الولايات المتّحدة عن تشديد العقوبات القائمة أو حجز ناقلات النفط التابعة لها أو اتخاذ قرارات عقابيّة جديدة ضدّها في الأمم المتّحدة أو وكالتها النووية.
ويعكس هذا التحوّل من اتّفاق شامل مثل خطّة العمل الشاملة المُشتركة إلى اتّفاق محدّد أكثر و”تفاهم” غير رسمي – كما وصفته تقارير مختلفة – تغييراً كبيراً في المشهد الدبلوماسي. وتشير المحادثات “الجادّة والبنّاءة” التي جرت في يونيو الماضي بين كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين علي باقري كني ونائب رئيس السياسة الخارجيّة بالاتحاد الأوروبي إنريكي مورا إلى أنّ خطوات دبلوماسية كبيرة قد استؤنِفت. إن كنّا بالفعل نشهد مرحلة جديدة من الديبلوماسيّة بين إيران والولايات المتّحدة، فما الذي يحفِّز طهران وواشنطن، وما هي النتائج المُحتملة؟
إيران تتجنّب الحرب وتحفظ ماء الوجه
تجد إيران في المفاوضات الحالية فرصة لفكّ بعض أصولها المجمّدة من دون التراجع بالضرورة عن برنامجها النووي. بموجب اتفاقٍ مرتقب، ستضع إيران سقفاً لتخصيب اليورانيوم عند مستواه الحالي 60 في المئة – وهو أعلى بكثير من سقف 3,67 في المئة المنصوص عليه في خطّة العمل الشاملة المُشتركة، وأقرب إلى النسبة المطلوبة لصنع الأسلحة، ولكنّه لا يزال بعيداً من مستوى 90 في المئة المطلوب لصنع قنبلة. وقد أشار المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي إلى دعمه صفقة مُماثلة شريطة عدم المساس بالبنية التحتيّة النووية الإيرانية.
في المقابل، يمكن للولايات المتّحدة استخدام الإعفاءات من العقوبات للإفراج عن أصولٍ إيرانيّة بمليارات الدولارات مُجمّدة في الخارج. لكن بالنسبة لإيران، الأهمّ من الفوائد الاقتصاديّة هو إمكانيّة تقويض الوضع المحيط ببرنامجها النووي وتجنّب التصعيد مع الولايات المتّحدة وإسرائيل. وهذا اعتبار مركزي نظراً إلى قرب انتقال القيادة من خامنئي البالغ 84 عاماً. إنّ منع نشوب صراع خارجي هدفٌ بالغ الأهمّية، لأنّه قد يؤدّي إلى تعقيد عمليّة الانتقال هذه وزعزعتها.
ويبرز اعتبار داخلي آخر مرتبطٌ بسياسات إيران الفئويّة. لطالما انتقد المتشدِّدون، بمن فيهم الرئيس إبراهيم رئيسي وكبير مفاوضيه باقري كني، خطّة العمل الشاملة المُشتركة، زاعمين أنّها قدّمت الكثير من دون أي مقابل يذكر. ويجادلون بأنّه كان يجدر بحسن روحاني، سلف رئيسي، ووزير الخارجيّة آنذاك محمد جواد ظريف، التفاوض على صفقة ذات فائدة أكبر. بيد أنّ إدارة رئيسي قد فشلت منذ ذلك الحين في التوصّل إلى اتفاق أفضل، ممّا يعني أنّ الصفقة المحدودة قيد المناقشة حالياً ستوفّر لهم فرصة لحفظ ماء الوجه وقد تمكّنهم من القول إنّهم أجبروا الولايات المتّحدة على قبول تقدّم إيران النووي من دون تقديم تنازلات كبيرة.
مع ذلك، يوجّه النقّاد في إيران، بمن فيهم المعتدلون والإصلاحيون، الانتقادات لرئيسي بشأن المحادثات. بل ويقارن بعضهم بين البنود المُقترحة ضمن الاتفاق الجديد وبرنامج النفط مقابل الغذاء في عهد صدّام حسين، مشيرين إلى أنّ الأصول غير المُجمّدة ستخصّص حصراً للاستخدامات الإنسانيّة ولن تفيد الاقتصاد الإيراني بشكلٍ مباشر.
المصالح الأمريكيّة
بالنسبة لإدارة بايدن، يحمل هذا الاتفاق المُحتمل فوائد إستراتيجيّة كبيرة. فهو يهدف أوّلاً إلى منع إيران من حيازة سلاح نووي، وتمديد الفترة التي تحتاجها لإنتاج المواد النوويّة المطلوبة لصنع الأسلحة وحشدها. ويمكن للمحادثات الحالية على الأقل أن توقف التقدّم السريع لبرنامج إيران النووي.
والهدف الآخر من التوصّل لاتفاق هو تأمين الإفراج عن السجناء الأمريكيين المُحتجزين في إيران. وفي الوقت الذي يسعى فيه بايدن إلى إعادة انتخابه في العام 2024، قد يؤمّن تحقيق هذا الهدف واحتواء البرنامج النووي الإيراني فوزاً سياسياً كبيراً ويعزّز سجل إدارته للسياسة الخارجيّة.
ثالثاً، من مصلحة الولايات المتّحدة تخفيف مخاطر المواجهات العسكريّة مع إيران أو وكلائها، لا سيّما في العراق وسوريا، حيث شنَّت ميليشيات مدعومة من إيران هجمات مُتكرّرة ومميتة ضدّ عناصر في القوات الأمريكية ومتعاقدين أمريكيين. بالتالي، فإنّ مجرّد التوصّل إلى اتفاق محدود مع إيران من شأنه يكبح المواجهات العنيفة.
بالمبدأ، ستعالج الولايات المتّحدة أيضاً قضايا أوسع نطاقاً مع إيران، بما في ذلك برنامج الصواريخ الباليستيّة، ودعمها المجموعات المُسلّحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وعلاقاتها مع روسيا في سياق الحرب الجارية في أوكرانيا. وتأمل واشنطن كذلك أنّها من خلال تخفيف التوتّرات مع طهران ستحوّل تركيزها نحو أولويات إستراتيجيّة أخرى، لا سيّما مواجهة صعود الصين وتكثيف المنافسة بين القوى العظمى بشكلٍ عام.
التداعيات والتحدّيات
على الرغم من إمكانية النظر إلى الاتفاق المُحتمل بين الولايات المتّحدة وإيران كحلٍّ عمليّ قصير المدى، تعتبره واشنطن وسيلةً لكسب الوقت إلى ما بعد الانتخابات الرئاسيّة في العام المقبل. صحيحٌ أنّ البنود التي أعلِن عنها بعيدة كلّ البعد من تقديم حلٍّ شامل للمشاكل العميقة بين الجانبين، لكن من خلال تهدئة التوتّرات، قد يتماشى الاتفاق المحدود مع سياسة بايدن تجاه إيران والمُتمثّلة بـ”لا صفقة، لا أزمة“، وموقف خامنئي المُتمثّل بـ”لا حرب، لا مفاوضات“.
مع ذلك، فإنّ القيود والشكوك المحيطة بهذا الاتفاق واضحة. يشير المنتقدون إلى أنّ هذا الاتفاق المزعوم لا يعالج المخاوف الرئيسية بشأن برنامج إيران النووي، مثل “زمن الاختراق” وأنشطة البحث والتطوير المستمرّة ومخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب. كذلك لا يوجد أي ضمانة على احترام أي من الطرفين التزاماته أو الامتناع عن الأعمال الاستفزازية التي قد تقوِّض الاتفاق في المستقبل. ويفتقر هذا الاتفاق أيضاً إلى إطار قانوني أو مؤسّسي قوي لمراقبة تطبيقه وحلّ النزاعات.
فضلاً عن ذلك، من غير الواضح ما إذا كانت الأطراف الأخرى الموقّعة على خطّة العمل الشاملة المُشتركة – الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا – ستدعم أو تؤيّد اتفاقاً مُماثلاً. سيكون موقف روسيا حاسماً بالنظر إلى مصلحة موسكو بالدعم الإيراني لغزو أوكرانيا ومخاوفها من أن يتيح الاتفاق موارد أمريكية إضافية لمساعدة القوّات الأوكرانية على القتال.
أمّا دول الشرق الأوسط الأخرى، فتفاوتت ردود فعلها بشأن الاتفاق. في خلال مفاوضات خطّة العمل الشاملة المُشتركة الأساسية في العام 2015، عارضت جهات فاعلة إقليمية، ولا سيّما إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة، الاتفاق. وكرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في يونيو الماضي معارضته الشديدة والمستمرّة لأيّ اتفاق بين الولايات المتّحدة وإيران، بينما يوحي التقارب السعودي مع إيران بعد الوساطة الصينية بأنّ الرياض قد لا تعارضه.
قد يظهر تحدٍّ آخر مُحتمل من الكونغرس الأمريكي. ففي 22 يونيو الماضي، قدَّم 33 سيناتوراً “قانون مراجعة تخفيف العقوبات على إيران”، مطالبين بأنّ يكون للكونغرس إشراف تشريعي على أيّ اتفاق يتضمّن تخفيف العقوبات عن إيران.
وبذلك، أصبح احتمال “وقف إطلاق النار السياسي” بين إيران والولايات المتّحدة مقبولاً بشكلٍ مُتزايد. ولكن، لن يكون أي اتفاق مماثل سوى حلّاً مؤقّتاً. وإن توصّلت طهران وواشنطن إلى اتفاق في الأشهر المقبلة، فعلى الأرجح أنّه لن يقدّم حلّاً مستداماً طويل الأمد للقضايا الخلافية العميقة بينهما.
إنّ الآراء الواردة في هذه المقالة تخصّ مؤلّفها حصراً ولا تعكس رأي مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية.