في 17 يناير الماضي، التقى الرئيسان الإيراني والروسي في موسكو لتوقيع «معاهدة شراكة إستراتيجية شاملة» لمدة 20 عاماً. تركّز المعاهدة في المقام الأوّل على تعزيز التعاون التجاري والأمني، ولكنّها تأتي في خضم مواجهة مباشرة يخوضها الطرفان مع الولايات المتّحدة في صراعاتهما مع أوكرانيا وإسرائيل، وفي أعقاب الإطاحة المُفاجئة بحليفهما المشترك السوري بشار الأسد. صحيح تأخّر توقيع الوثيقة بسبب انهيار نظام الأسد في ديسمبر الماضي، لكن توقيعها قبل 3 أيام من تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يأتِ صدفة. بالنسبة إلى الرأي العام الأمريكي، تغذّي هذه المعاهدة سردية إقامة تحالف بديل يتحدّى الولايات المتّحدة. وقد اعتبرها الرئيس والمدير التنفيذي للمجلس الأطلنطي في واشنطن فريدريك كيمبي بمثابة «هدية تنصيب» لترامب.
مع ذلك، تتجاوز الآثار المُترتبة على توقيع المعاهدة السردية المتداولة في واشنطن. وبينما تسعى إيران إلى التعافي من النكسات العسكرية التي تكبّدتها في العام 2024، قد يسمح التقارب بين موسكو وطهران في تشكيل هذا المسار بطرق قد تكون لها عواقب على أمن الشرق الأوسط وخصوصاً في شبه الجزيرة العربية، وعلى انتشار الأسلحة النووية.
من وجهة نظر أمريكية
في واشنطن، يفسّر البعض هذا التقارب على أنّه جزء من تحالف ناشئ بين «رباعية الفوضى» المؤلّفة من كوريا الشمالية والصين وروسيا وإيران. وتستند هذه السردية إلى دعم هذه الدول لروسيا في حربها على أوكرانيا. ومن وجهة النظر هذه، يلي الاتفاق مع إيران، إستراتيجياً، الاتفاق الذي وقّعته روسيا مع كوريا الشمالية في يونيو 2024 باسم مماثل «الشراكة الإستراتيجية الشاملة».
ومع ذلك، قد يكون هذا الإطار مُضلِّلاً لأنّه يستبعد أي تقارب روسي إيراني بشروط خاصّة. لقد بدأت العلاقات تتوطّد بين روسيا وإيران في سوريا منذ العام 2010، حين عزّز الطرفان انتشارهما العسكري لإبقاء الأسد في السلطة على مدى أكثر من عقد من الحرب الأهلية. وفي خلال هذه الفترة، نسّق العملاء الروس والإيرانيون جهودهم ورسّخوا نفوذ الدولتين في دمشق.
وتعزّز هذا التقارب على مدى العامين الماضيين من الحرب في أوكرانيا. وفي حين قدّمت كوريا الشمالية المدفعية والجيوش إلى روسيا، كانت إيران عاملاً أساسيّاً في تعزيز القدرات الحربية الروسية بالمسيّرات والصواريخ الباليستية، ما أدّى دوراً أساسياً في تكثيف الضربات الجوّية ضدّ المدن الأوكرانية في العام 2023.
وتكشف طبيعة هذه العلاقات عن مدى قدرة إيران – وخصوصاً حرس الثورة الإيراني – على بناء مخزون كبير من المسيّرات والصواريخ، ولا يسبقها في الشرق الأوسط سوى إسرائيل وتركيا. والأهم من ذلك، ربّما، هو أنّها تسلّط الضوء على أوجه القصور العملياتية للجيش الروسي، الذي يعتمد بشكل متزايد على الشركاء الإقليميين مثل إيران وكوريا الشمالية للتعويض عن نقصه.
يبني الاتفاق الأخير على هذا التعاون ويُنشِئ إطاراً للعقدين المقبلين. ووفقاً للتقارير العامّة، سيشمل الشقّ العسكري في المعاهدة مشاورات إستراتيجية بشأن التهديدات الأمنية المشتركة والتدريبات العسكرية المشتركة والتعاون في صناعة الأسلحة. وفي حين لم تحدّد الوثيقة والبيانات الرسمية تفاصيل هذه المبادرات، يبدو أنّ التقارب بين روسيا وإيران ليس مجرّد زواج مصلحة ينحصر في سوريا وأوكرانيا، بل يعكس التزاماً مشتركاً حقيقياً بتنسيق سياساتهما الأمنية.
وفي هذا السياق، وصف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي المعاهدة بأنّها «ليست مجرّد اتفاق سياسي» بل «خريطة الطريق إلى المستقبل».
غياب الأمن في البحر الاحمر
وتعمّق أيضاً التعاون بين إيران والمتمردّين الحوثيين في اليمن على مدى العام الماضي. فبعد أحداث 7 في أكتوبر 2023 في غزّة، صعّد الحوثيون هجماتهم بالصواريخ والمسيّرات على السفن التي تعبر البحر الأحمر. وعلى الرغم من تأكيد المجموعة استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل فحسب، وقعت سفن آسيوية وغربية كثيرة تحت مرمى نيرانها عند عبورها المنطقة. وقد عقّدت الحرب على غزّة وتداعياتها في البحر الأحمر جهود الدول الخليجية، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة، لإنهاء الصراع في اليمن. لقد سارت أبو ظبي والرياض بين الألغام: وعلى الرغم من إدانتهما الهجمات الحوثية في البحر الأحمر، امتنعتا عن الانضمام الى التحالف البحري الأمريكي للتصدّي لها. لم ترغب الدولتان في الظهور بمظهر المُتعاون مع الولايات المتّحدة، ومن خلفها إسرائيل، فيما يشنّ الحوثيون هجماتهم دعماً للفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، توصّلت تقديرات صنّاع القرار السعوديون والإماراتيون إلى أنّ التدخّل الأمريكي في البحر الأحمر سيؤجّج الأزمة الداخلية في اليمن.
لم تُظهر طهران وموسكو الحذر نفسه. لقد قوّت إيران الحوثيين لسنوات وزوّدتهم بالكثير من أنظمة الأسلحة المُستخدمة في البحر الأحمر. ونظرت روسيا إلى الأزمة كفرصة لإضعاف خصومها الغربيين. وفي المقابل، دعم الحوثيون روسيا، وتشير مصادر كثيرة إلى إرسالهم مقاتلين للمشاركة في حرب أوكرانيا. إلى ذلك، تقدّر وكالات الاستخبارات الأمريكية أن تكون روسيا قد زوّدت الحوثيين ببيانات استهداف السفن الغربية في البحر الأحمر، ونقلت الأسلحة إليهم أيضاً. ومن منظور الدول الخليجية، قد يؤدّي هذا الواقع إلى إطالة أمد الصراع في اليمن، خصوصاً أنّ تعزيز روسيا لعلاقاتها مع الحوثيين، قد يشجّعهم في مطالبهم السياسية ويحوّلهم إلى الطرف العسكري غير الحكومي الأكثر أهمّية، ليس في اليمن فحسب، ولكن في جميع أنحاء المنطقة. وبعبارة أخرى، يؤدّي التقارب بين روسيا وإيران إلى تفاقم المسألة اليمنية، وبالتالي تقويض المصالح الأمنية في الخليج.
التداعيات النووية
وفي الوقت نفسه، قد يؤدّي تورّط روسيا في الأنشطة النووية الإيرانية إلى تصعيد التوتّرات الإقليمية. على المستوى الرسمي، لطالما تبنّت موسكو موقفاً متناقضاً من البرنامج النووي الإيراني وسط مخاوف دولية من نوايا طهران. وساعدت روسيا إيران في بناء مفاعلات نووية في موقع بوشهر، وأصرّت على أنّ المشروع لا ينتهك التزامات منع الانتشار النووي. ونظراً لأنّ البلدين يواجهان عقوبات غربية صارمة، تدرس روسيا صراحة دعم البرنامج النووي الإيراني. وفي خلال زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى موسكو في يناير الماضي للتوقيع على المعاهدة، أكّد فلاديمير بوتن أنّ بلاده تدرس بناء مصانع طاقة نووية جديدة في إيران. ويغذّي هذا الإعلان المخاوف من تعزيز طموحات إيران النووية، بما فيها العسكرية، وأن تمكّنها روسيا من ذلك.
قد تتحدّى موسكو أيضاً التوازن العسكري بين إيران وإسرائيل والولايات المتّحدة من خلال نقل الدفاعات الجوّية إلى طهران، مثل نظام إس-400 أرض–جو. وربّما تختار الحكومة الإسرائيلية، مدفوعة بتفوّقها العسكري بعد غاراتها الجوّية على أنظمة الدفاع الجوّي الإيرانية في أكتوبر الماضي، شنّ هجوم استباقي على المواقع النووية في طهران قبل أن تتمكّن الأخيرة من تحسين حمايتها. وفي ظل الإدارة الجديدة في واشنطن، قد تكون الولايات المتّحدة أكثر ميلاً للانضمام إلى هذه العملية ضدّ إيران.
في كل الأحوال، يضع هذا الواقع الدول الخليجية في موقع المتفرّج الضعيف. وعلى الرغم من أنّها لا تدعم طموحات إيران النووية، إلّا أنّ التصعيد العسكري الذي يغذّيه الجانبان لا يقتصر على إيران فحسب، بل يقوّض استقرار المنطقة بأسرها.
الأضرار الجانبية
لا شكّ في أنّ العلاقات الروسية الإيرانية لها حدودها أيضاً. تفتفر معاهدة الشراكة الإستراتيجية التي وقّعت في موسكو إلى بند التضامن المُتبادل – أ أي الالتزام بأن يتحرك الحلفاء بشكل مشترك إذا تعرّض أحدهم لهجوم – على عكس المعاهدة المُبرمة بين روسيا وكوريا الشمالية. والواقع، لا تتّفق موسكو وطهران في كلّ القضايا الأمنية في المنطقة أو في كيفية التعامل معها. في سوريا، على سبيل المثال، تبدو روسيا عازمة على إيجاد طريقة للتعامل مع القيادة الجديدة في دمشق، في حين تواجه إيران صعوبة في ذلك. وقد وصفت دمشق مؤخّراً وجود الميليشيات الإيرانية في البلاد بأنّه «تهديد إستراتيجي للمنطقة بأسرها».
مع ذلك، ينطوي تعزيز العلاقات بين روسيا وإيران على اعتبارات خطيرة بالنسبة إلى القوى الإقليمية الأخرى، وخصوصاً في الخليج. وفي حين تأتي الرغبة في التقارب من الحاجة إلى مواجهة الضغوط الغربية بشكل أساسي، فقد يلقي التعاون في ملفات رئيسة، مثل اليمن والتكنولوجيا النووية، أضراراً جانبية على أمن الخليج في نهاية المطاف.